نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 2-7-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 3957
جذور إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (من الإبداع الخاص)
مقدمة
نواصل اليوم نشر فصول رواية “مدرسة العراة” (1) تباعا فى هذه الأيام الثلاث (السبت/الأحد/الأثنين من كل أسبوع) وهى الجزء الثانى: من ثلاثية “المشى على الصراط”.
وهذا هو الفصل السادس
“كمال نعمان”
-1-
اقتربتُ من اللوحة، وابتعدت عنها، ملأنى الزهو بنفسى وبالريشة وبالألوان، أتذكر كلام صديقى أمس: “تـُـواصـِل الصعود إلى القمة بسرعة يا كمال! الآن فقط أحس أنك كنت محقا حين تركت الشعر”، صديقى هذا ناقد فنى لا يجامل، هزنى إلى الأعماق، هذه لوحة ستكون صرخة العصر لإعلان مرحلة جديدة، لم يبق على إنهائها إلا لمسات يسيرة .
أتراجع أكثر حتى أتملى من ألوانها، جاءت وقفتى بجوار النافذة، لمحت الأتوبيس وقد خرج من كل فتحاته عجينة مختلطة من البشر “المصريين”، شعرت بوخز عنيف فى صدرى سرعان مازال ليحل محله هاتف قديم، هاتف كنت قد نسيته بعد أن استغرقنى العمل والنجاح، تردد بصرى بين اللوحة وبين الأتوبيس”هؤلاء البشر مصريون! وأنا ؟ ” رجعت أشاهد اللوحة، هذا العمل يدل على أنى منهم، هل هذا صحيح؟ منهم يعنى ماذا؟ عدت إلى اللوحة، أحسست أنها تقف حائلا بينى وبينهم، لم أستطع أن أطرد ما يدور بعقلى، لا يوجد شئ مشترك بينى وبين هؤلاء الناس، من حق صاحب هذا العمل الحقيقى أن يحس به الناس الحقيقيون، أرفض ألا يحس بى إلا ناقد متحذلق، ترى هل يفهم الناقد نبضى أم أنه يتفرج ليحكم علىّ، لا بد أن يعرف هؤلاء الناس ماذا أقول، ومن يقول ماذا، فعلا، أو حتى تقريبا؟ هل حقا أريد أن أقول شيئا أم أنه تفريغ والسلام؟ تـُرى ماذا أريد أن أقول، يتردد السؤال على لسان هاتف شديد الوضوح، ليس تفكيرا داخليا، صوت كأنه أنا، لكنه مازال بداخلى والحمد لله، يكرر السؤال بحدة أكثر مما خطر ببالى.
- ماذ تريد أن تقول فعلا؟
= لا أعرف.
- ولماذا تريد أن تقول ما لا تعرف؟
= لأنه يلزم أن يقال .
- من أين أتيت بهذا اللزوم؟
= ماذا أفعل لو لم أقله؟
- وماذا تفعل لو قلته؟
لأول مرة أقف أمام عملى بهذا الوضوح أراجع قيمته ومعناه، كان يخطر ببالى مثل هذا الخاطر، وخاصة حين تثار المناقشات مع أصدقائى القدامى، الثوار منهم والأدعياء، حول قضية الفن والحياة، أو الفن والشعب، أو الفن والناس، كنت أرفض دائما منطقهم، أكثرهم لم يكونوا يعرفون عن ماذا يتكلمون، لا عن الفن ولا عن الحياة ولا عن الشعب،
فى عز وحدتى، ودون تدخل من إرهاب فكرى أو تشويه تشنجى، أواجه المشكلة بشكل شخصى محض، المسائل الشخصية تموع حين تصبح عامة، والمسائل العامة تلح حين تصبح شخصية، متأكد أنا من زيف أغلبهم وادعائهم وإلا ما تركتـُهم، زيف بعضهم لا يعنى فساد دعوتهم، كنت دائما أرفض أن يوضع بجوار العمل الفنى أية علامة استفهام، الفن كيان قائم بذاته لذاته لا يحتاج إلى “لماذا” أو حتى “لمن” فماذا جرى لى بحيث لا أستطيع أن أرى اللوحة إلا فيها الأتوبيس وعليه الناس بعضهم فوق بعض؟ ما هى هذه العلاقة الجديدة التى تفرض نفسها على؟
” الفن لغة خاصة غير قابلة للترجمة، وعلى من يريد أن يتفاهم بها أن يتعلمها، هذا كل ما هناك”.
ما هذا؟
لابد أن أكمل اللوحة أولا، ربما احتاج الأمر أن يمضى عليها اثنان من موظفى الدرجة الرابعة الفنية قبل أن يسمح لى بدخول التاريخ، ربما أصبح الفن يحتاج إلى مكتب تنسيق بعد آن تزاحم المدعون على أبوابه، عجزت تماما عن إكمالها، أجلت المحاولة بضعة أيام، ثم بضعة أسابيع، بدأت أتأكد أن المسألة ليست وقفة عابرة، الديالوج الساخر المتصل يملأ عقلى، أنتقى من ألبوم الذكريات صور أصحابى القدامى الكذابين لأؤكد خواءهم وزيفهم، لا أستطيع أن أنكر صدق آخرين وكفاحهم.
تركتهم، هؤلاء وأولئك، حين تصورت أن السياسة مهرب خبيث، وهأنذا أكتشف أنه إذا كانوا هم قد هربوا جماعة فأنا هارب “صولو”، هل من وسيلة أخرى للتعبير عن هذه المشاعر الغامرة؟
غيرت مسيرتى قبل ذلك، ولا أعرف وسيلة أخرى حاليا غير اللفظ واللون، كل الناس كانت تتساءَل فى تعجب حين تركت الشعر إلى الرسم؟ هل أرجع إلى الألفاظ لعلها تكون أكثركفاءة وطيبة فتحمل مشاعرى إلى الناس فوق الأتوبيس؟ كانت الألفاظ صديقتى ورهن إشارتى، تطاوعنى حين أصالح بينها وأعيد تنظيمها راقصة أو متماوجة أو مشرعة مثل السيف فى وجه العدم واللامبالاة، حاولت جادا أن أمسك القلم وأن أدعو الألفاظ للرقص من جديد، استعصت علىّ هى الأخرى وكأنها تعاتبنى لأنى هجرتها إلى الريشة دون إنذار ، كل مرة كنت أهرب فيها من السجن إلى الخلاء، كنت أجرى هنا وهناك طويلا قبل أن أتبين أسوار الخلاء، السجن أرحب لأن أسواره محددة، إلا أنه سجن على أى حال، انتقلت من الحبس الانفرادى فى زنزانة المدرسة إلى فناء فى الجامعة، ثم إلى ملاعب الشعر حيث حققت ما يعرفه الجميع، ضاق بى اللفظ وضقت به، لم يعد يسعف خيالى، كنت أحس أن حروفه تنوء بما أحملها من مشاعر وأحاسيس، عجزت عن كتابة الشعر فتسللت من بين القضبان إلى حديقة الرسم الممتدة إلى غابة الدنيا الواسعة، دنيا الألوان والمساحات عامرة بالحركة والحرية، ظللت أؤلف بينها فى تناغم أرضانى بعض الوقت، أجد نفسى الآن فى وسط الصحراء الكبرى، الأخرى الكبرى، لا شجر ولا ماء، لا ألوان ولا وأصوات، خواء الاستغاثة الصامتة أصعب من كل صياح.
كيف أواصل سعيى؟
قبل ذلك وبعد ذلك:
إلى أين؟
-2-
شتان بين السمع والمعاينة، كنت قد قرأت له بعض ما كتب حتى حسبت أنى أعرفه، يكتب عن الناس الناس، ويهـِّون الآمر وكأن الجنون يمكن أن يكون فاتحة عهد آخر، كأنه رحلة اختيارية سعيدة، كنت شغوفا أن أعرف “كيف”؟ هاهى الفرصة تتيحها لى هواجسى التى لاترحم، الواقع الحى أبلغ من كل مقال، لا أنكر أنى أتمتع بالتجربة حتى النخاع، فرصة نادرة للنزهة داخل الإنسان دون استئذان، عادت إلىّ مشاعرى الفنية المتدفقة، لكنها تتجه إلى الداخل، تستوعب كل همسة أو إشارة، لتكن فترة استقبال وتـَمـَثـُّل من تجارب البشر وهم يتعرون فى غفلة من الزمان فى عيادة طبيب مغامر، هذا الرجل فنان كما قلت لغريب، يعيد صياغة الحياة بطريقة فنية بحتة، خطورة فنه أن مادته من لحم حى، أى لذة تجدها فى هذه اللعبة تجعلك تصبر عليها هذا الصبر، أكاد أعرفك يا عمنا أكثر من نفسك، ما أروعك وأنت تستخرج المشاعر من جوف أصحابها وكأنك تفرغ جراب الحاوى الذى تعرف محتوياته تماما، يا لهفتى عليك حين تفشل مثلى، أعرف أنك فاشل لا محالة، نحن السابقون، إياك أن تقترب منى فنحن أدرى ببعض، دع وجودى الجسدى واستمرارى فى الحضور يطمئنانك من بعيد، أصفق لك فى السر بعد إخراج كل لقطة تقوم بها، أثنى على لوحاتك الحية بابتسامة خفية، يسر خاطرك حين تبلغك رسالتى فتواصل عملك وأنا أحسدك وأنتظر دورى.
سألنى غريب مرة “لماذا أحضر” ، أجبته “إنى لا أعرف ما أشكو منه” ولم أقل له السر الحقيقى، يستحيل أن أقول له أنى أشكو “مني” أو أنى أعجبت باللعبة وأريد مزيدا من النمر والمفاجآت، أنا فعلا لا أعرف مالى، ياليتك تعرف يا عمنا، يا أبى أنت وأمى، من بعيد لبعيد، يا ليت.
ياليتك تقول لى ما بى دون أن تدعى علاجى، سوف أظل المشاهد الأمين لك وللوحاتك وتماثيلك طالما أنت تتركنى فى حالى، إياك أن تتخطى وتحاول هذه اللعبة معى وإلا فقدتنى وأنت تعلم قيمة وجودى “هنالك”، أنا المتفرج المتميز لمحاولتك المستمرة، كلهم لهم أدوار يلعبونها بمهارة توجيهك يا رجل،…. إلا أنا، حتى غريب أتقنت استدراجه من خلال فيضان مشاعر صديقنا إبراهيم الطبيب، كم أحب النظر إلى ملامح هذا الإبراهيم، ضخم فطرىّ فى كل شئ، ملامحه، وعواطفه، وشعر صدره، وكفه المفلطحة وأصابعه المتزاحمة، لم أتوقع أبدا أن يتنازل غريب عن ذاته ولو ثانية واحدة، فما بالك بنصف ساعة ، هذه واحدة “لك”، حسدتـُك عليها، كدت أصفق حينذاك، حتى عبد السميع ظل مثل جبل الجليد حتى أغمدت فيه سيفك عن طريق كلمة من بسمة، انطلق صاروخ النار من داخل جبل الجليد وقذف البركان بالحمم فى كل مكان، لولا أنى اشتركت فى الإمساك به بيدى هاتين ما صدقـّت، أخافك أحيانا رغم إعجابى بك، وكثيرا ما حسدتك وحقدت عليك، أوْلى بى أن أرفضك وأرفض تلاعبك بالبشر فى سبيل إرضاء فنـك الذى تدعى أنه طب، أنا عجزت عن مثل هذا التلاعب بالكلمة واللون ولم تعجز أنت رغم أن مادتك من البشر الأحياء، تستغرقك قدرتك الفنية فتتلاعب بمادتك الحية فى براعة ويسر، تتحدى عنادها وجمودها وتصنع بها الأفاعيل ولكنك لا تضيف إليها من عندك إلا ما بداخلها، “مـِنـُّه فـِيهْ
”أنا فعلا أحسدك، أحس برغبة فى قتلك حين تبلغ بك النشوة الفنية أن تنحت بأزميلك فى براعم غضة لم تتفتح بعد فترغمها على التفتح قسرا، كدت أصفعك وأنت تلغى ابتسامة “بسمة” الخجلة لتـظهر ما وراءها من حزن مـُـر، دعها يا أخى تنسى بعض الوقت، أتذكر كيف هزمنى اللفظ واللون فى حين لا تهزمك لا البلادة ولا الخوف، أراقبك فى غيظ، هل علمتنى كيف أطوّع مادتى ثانية لأرجع إلى قلمى ومرسمى ثم نكون أصدقاء بعد ذلك؟ لك علىّ ألا أفشى سرك، سوف يظل الناس يحسبون أنك طبيب عالم، وسوف أكون تحت أمرك لأشاهد بعض مسرحياتك الحية، ساعدنى الآن حتى أعاود الإمساك بالقلم أو بالريشة ولن أنسى لك فضلك أبدا، النار المجنونة تحرقنى وأنا عاجز، أخشى ألا تتركنى إلا رمادا لا يصلح لشئ، أنا لا أصلح حتى لأتفه دور كومبارس فى لعبتك، نظراتك المغرية المتفائلة تكاد تقسم لى أن هذا ممكن، لماذا لا تفعل شيئا لى مثل الآخرين، هل تعرف أننى الأصعب؟ هل تريد إذلالى لأطلب أنا؟ أنت تعلم أنى سأموت قبل أن أفعلها، تتركنى الأسابيع الطوال أنتظر تعليقا منك أو ألتقط مفتاحا أعاود به فك الألغاز ولكنك أنانى بخيل، لا، لن أخضع لشروطك ولو انطبقت السماء على الأرض، فلألزم مقعدى هذا ولو مدى الحياة دون أن أُمَكـِّنـُك من أن أنطلق لحسابك، أريد أن أسألك لماذاكل هذا؟ كيف تستمر وعملك محدود بمن يقبل ويتحمل؟ كيف تتحمل تكرار فشلك وهو معلن صريح؟ ، تظل رغم هذا وذاك تحاول بلا تراخ، أنا أحسدك.
أنا توقفت حين سألت نفسى”لماذا”؟ و”لمن”، أمـَا سألت نفسك أنت أيضا “لماذا” أو “لمن” ، كيف نجحت أن تهرب من هذه المواجهة، كدت أنفجر ضحكا لما سمعتك تجيب على “ملكة” حين سألتك “لماذا” “فقلت: لأكسب نقودا، ما هذا الكلام يا رجل؟ هل هذا هو الطريق لكسب النقود؟ إصرارك يجعلك تعتقد أنك تعمل شيئا ذا بال، ليكن، هذا ما منحنى هذه الفرصة على الأقل للفرجة على مسرح حى، شكرا، تعيش فى أتيليه البشر العرايا والمعوّقين، تنحت فيهم تجاعيد الألم على وجوه ملساء من الخوف والاختباء فى البلادة، أزميلك يحفر فى الوجوه وأنت تتقن تنسيق نسب التضاريس فى الجلود الميته، أكاد ألمحك وأنت تفرح حين تراها تدمى بالرغم من موتها بفعل أزميلك الخشن، أنت لا تبالى وتستمر فى جريمتك “الفنية” القذرة لتفجر من قطرات الدم المتناثرة طاقة هوجاء، لست متأكدا إن كنت تدرى أو لا تدرى ماذا يفعل بها من تفجرت فيه دون استعداد، تظل الطاقة تدفعهم لمواصلة الرقص على المسرح، فقط على المسرح، لم أفهم معنى رقصة الطير المذبوح إلا فى عيادتك، أعترف أننى لم أرصد فيك قسوة للقسوة، رأيتك وأنت تكاد تموت ألما حين تهمد حركة الطائر بعد ذبحه فيصمت والدماء تتناثر من حوله فى كل مكان، رأيتك تحاول أن تجمع أشلاء الطير المذبوح لتنفخ فيها من روح أحلامك، ماأبشع هذا وأروعه.
يقول غريب عنك أنك نصاب مجنون، حاستى الفنية تعجب بك على شرط ألا تقترب منى، الخيوط بين أصابعك والمسرح بلا نص، والهدف غامض، وأنا كل جمهورك، أحيانا، بل كثيرا أضبطه يتفرج مثلى، غريب، أنت لا تكف عن المحاولة والسعى إلى لا شئ، الشئ الذى تسعى إليه هو ما يحافظ على استمرارك ، لكنك لا تعرفه، فكرت أحيانا أن هذا هو معنى حياتك، ولكن هل فكرت أنت ماذا تفعل بنا لتحيا؟ ربما عذرك أما نفسك هو أنهم يجيئون بأنفسهم، بمحض اختيارهم، هم يتحملون بذلك مسئوليتهم، لا تنس أنك مازلت تكتب على لافتتك لفظ “عيادة” لا “أتيليه” ولا “مسرح تجريبي”، أنت تشارك فى الخدعة، فلا توهم نفسك أنهم أحرار فى اختيارهم، جاؤوك على أنك طبيب فاعـْـلـِــْن لهم حقيقة موقفك من باب الأمانة إن كنت شجاعا، أنت أغرب وأجرم وأعظم فنان سرى، لا تتحدث من فضلك بكل هذا اليقين عن الاختيار إلا فى غيابى، نضحك على بعض؟ اختيار ماذا يا عزيزى؟ أنا لا أستطيع وقف الإعجاب بك فى كل حال، لا أعرف أين سيذهب إعجابى هذا لو حاولت الاقتراب منى مثلما تفعل مع الآخرين؟ كل ما يخطر لى الآن هو أنى سأخدعك أول مرة، ثم أنصرف بهدوء إلى غير رجعه حين أشك أننى لم أخدعك بدرجة كافية، أو أنك لم تهمد بدرجة كافية، تعليق الحيرة فأحاوِرُنىِ:
– من أنت؟
= أنا أنت.
- لن تستطيع بدون موافقتى.
= سوف أفعلها بعد هذه الإجازة الطويلة،
- جرِّب.
قبلت التحدى، سوف أعود اليوم وأبدأ فى إكمال اللوحة بلا إبطاء، ما هذا الذى يجرى داخلى؟ ليس هاتفا مثل الهواتف العابرة، هو كيان قائم كما يحاول هذا الطبيب أن يصوره ويظهره ويشرحه ويعيد ويزيد حتى يحدده، لو علم أنه جاهز عندى بهذا الحضور لاستعملنى ليبين للآخرين كيف يبحثون فى داخلهم عن مثل ما عندى، أنا متأكد أنه يعرف أنى جاهز، لكنه لا يتعجل لأنه يعرف أنه لن يجدنى / يجدنا بعد أول جولة، أخشى أن أتورط فى المشاركة عند أول إعلان عما بداخلى، لذا فأنا حريص على الفـُرْجة طول الوقت، تعلمت مما يجرى ألا أخاف الحديث مع داخلى فلا أسارع بتسمية حضوره فكرا، أستطيع أن أسمح وأشطح وأقبل التحدى دون أن أتهم بالجنون، قد أتعلم كيف أصلح ذات بينى، لو حدث، سوف أنصرف من الباب الخلفى فى أمان ولا أحد رأى، ولا أحد درى.
- بعيد عن شنبك كل هذا ما لم تشركنى وتأخذ رأيى.
= ملعون أبوك.
-3-
حاولت فى تحد خطير، عجزت تماما، ظلت اللوحة ناقصة ميتة مشوشة، أمسكت بالقلم أستعيد به أصدقائى القدامى من الألفاظ، أصالحها، أتوسل إليها، أبى القلم وراح يخلط بينها فصنع طبقا من السلطة المبعثرة على ظهر ظرف خطاب وصلنى من الخارج ولم أفتحه، خجلت من نفسى، لعل الذين يكتبون الشعر هذه الأيام يفعلون مثلما فعلت الآن، لو اضطلع أحدهم على ما فعلت لتصور أننى أخلط الشعر بالنحت بالتصوير، العجز له لغته الخاصة فلماذا يأخذونه مأخذ الجد.
لم تسعفنى الفرشاة، وتوقف فى حلق وعيى الشعر، ليكن، سوف أكتب رواية، سوف أكتب ما أعيشه الآن، هذه رواية تستأهل، مادتها جاهزة حاضرة وكل تفاصيلها بين يدى، بدأت فعلا ثلاثة أسطر بالتمام، ثـَقـُلَ القلم فى يدى وكأنه بقايا لغم من رصاص قبيح، نظرت إلى صفحتى البيضاء (لم تكن مسطرة بالصدفة) فشعرت بأنها صحرائى القاحلة، وأنها حريتى المخادِعة، وأنها سجنى السرى، وأنها طريقى إلى المطلق معا.
= المطلق؟ هل حصلت عليه فعلا يا “مختار”؟
- نعم، بلا أدنى شك…. والعقبى لك يا كمال، أنت أقربهم إلى.
= أتأكد الآن من عبث الالتزام وخداعه.
- أنا حر تماما.
= بلا شكل ولا أبعاد ولا وظيفة، ولا هدف؟!.
- تلقائيتى تعطينى ملامحى.
= من أين تعيش؟
- عندى ما يكفينى.
= وثورتك الداخلية، أين تذهب نارها؟
- ماذا؟!!
= ثورتك الداخلية؟
- الثورة ضد ماذا؟
= ضد الأسوار، والعوائق، والخوف والوحدة.
- ألغيت الأسوار والعوائق، بلا خوف ولا وحدة.
= وماذا تفعل بالألم؟
- إذا لم تعد تحتاج لشئ، فلا ألم ولا ثورة.
= ألغيتَ احتياجك يا مختار؟
- بل استغنيتُ عنه.
= يا سبحان الله.
- هذا ما حدث.
= ولكنك ترسل إشعاعاتك الجنسية تثيرهن بلا تمييز.
- هذا هو اختيارهن، وهذه هى حريتى.
= وهو احتياجك أيضا.
- هو وجودى التلقائى بلا تحفظات.
= ثم ماذا؟
- لا توجد فى حياتى “ثـُمَّ”، كما لا يوجد “مَاذَا”؟
= يا نهار أسود.
- هذا أنا.
= وهل يمكن تعميم ذلك على كل الناس؟
- لا يهمنى إلا نفسى.
= ولماذا أنت هنا؟
- أتأكد من طريقى.
= إذن، أنت تشك فيه.
- لن أغيـِّره حتى ولو كان هو الهلاك نفسه.
= لم تنكر أنك تشك فيه؟
- ليكن.
= إحذر يا مختار.
- لم أصل إلى هذا بالساهل.
لا أصدق أيا من هذا، لو كان الأمر كذلك فلماذا يحضرمختار؟ شئ ما يطل من داخله يقول لا تصدقنى فلا حرية بلا قيود؟ أنهى مختار القضية قبل أن تبدأ، صدق أنه تخلى عن كل شئ، يعلن إقباله على الحياة بلا شروط.
”غريب” يعلن إدباره عنها بلا أمل، الاثنان يشبهان بعضهما البعض بشكل ما، تـَـجـَـنـَّـبا المعركة بذكاء منطقى، خيبتى أننى يئست من الفن وفى نفس الوقت لم أحصل على الحرية.
أشاهد صراع ملكة وغالى وأشترك فيه أحيانا بحق الزمالة القديمة، أتعجب من العمى الكامل تحت ستار الثورية أو الإخلاص الزوجى أيهما أكذب، لا شئ يغرى بحل بديل، لماذا جاءا إلى هنا دون غيرهما، هل ليؤكدان منطقهما الهارب؟ لماذا لم يأت هنا ثوار حقيقيون يقنعونى بإمكانية الحياة بالصورة التى يلوحون بها للناس؟ أعرف الرد فهم هناك فى الصفوف الأمامية لا وقت لديهم للمرض أو لغيره، نحن الذين نقبع فى الصفوف الخلفيه بعد أن تركنا، أو قفزنا من، قطارالثورة، نحن لا نعرف شيئا عن الصفوف الأمامية وإلى أى مدى وصل بهم القطار، هل يوجد أحد فى المقدمة فعلا أم أن القطار يواصل السير دون ركاب وربما دون سائق بعد أن قفز منه الجميع الواحد تلو الآخر دون أن يعرف أين ولماذا قفز الآخرون؟ أحسن شئ أننى لا أعرف جوابا.
وجودكما بالذات يا ملكة ويا غالى يشككنى أنه ما زال فى القطار مـَـنْ صـَـبـَـرَ على ما كنا نحلم به، قفزت بعيدا حين شككت فى يقظة السائق وبرمجة الرحلة، تصورت أننى سوف أنشغل بالقلم والريشة لألحق بكم فى القطار التالى، لم يأت قطار تال وانتهيت إلى حيث التقيتكما، يا ليتنى ما التقيتكما، كان أفضل لى اليأس التام أو الموت الزؤام مثل “غريب” وأكثر، حين تختلط مرارة اليأس بخدر الاستسلام يتخلق ترياق يشفى أمراض الثورة واضطرابات المستقبل.أنت أنـْـصـَـحـُـنا يا غريب، تواظب على تناول جرعات وحدتك الـمـــرة بانتظام حتى نسيت مرارتها ، لا يعادل نصاحتك إلا مخدرات ”مختار” اللذية، لست متأكدا من مدة صلاحية دواء كل منكما، رؤيتى أحدُّ من كل المخدرات، وثورتى هى التى أصدرت قرار “وقفى عن العمل”.
حالة مستعصية باختيارى.
على الرغم من كل شئ فإن هذه المسرحية الحية مازالت تبهرنى، لو قدر لى فى يوم من الأيام أن أكتب، فسوف أكتبها بالتفصيل، يخطر على بالى أحيانا أن أحضر جهاز تسجيل أحتفظ عليه بكل ما يجرى، أكتفى بالتسجيل الدائر داخلى، المفاجآت رائعة تهز كيانى وتزودنى بمادة لا مثيل لها، لم أكن أتصور أن غريبا المتحفز الحذر يمكن أن يسمح لنفسه بهذا الاستسلام ولو جزءا من لحظة، ولكنه استطاع – بملاحقة إبراهيم وفى حضن المجموعة – أن يتخلى عن يأسه وعدمه وسخريته، استطاع أو اضطر النتيجة واحدة، كان رائعا مرعبا ما حدث، كأن الدنيا يمكن أن تتغير فى لحظات، لماذا رجع غريب بعد كل هذا التفجر المضىء أكثر يأسا وشكّا وابتعادا؟ لم يبق له من التجربة إلا نظراته الملهوفة إلى إبراهيم، وإلىّ أحيانا،
غريب هو الذى حاول أن يفتح معى حديثا يشككنى به فيما يجرى ولم يدر أنى أكثر منه توجسا، وأن رفضى أكبر من رفضه ألف مرة؟ لم أفهمه حين تكلم معى عن إحساسه الفج الذى لا يميز رغم يأسه وضياعه، لم ألتقط موضوعه، كان غامضا فاستوضحته حتى دعانى إلى بيته.
أفكر جادا فى زيارته.
-4-
التراب والظلام والكتب، بيت هذا أم كهف أثرى؟
= نفتح النافذة قليلا يا غريب؟
- لماذا؟
= ألا تحب النور؟
- هذا الضوء أقرب إلى الواقع، ومع ذلك كما تشاء، أنا اليوم ملكك.
= ماذا تعنى؟
- أحبك يا كمال، هذا هو.
= شكرا، ولكن نظراتك غريبة ولهجتك لم أتعودها، أكاد أنكر أنك زميلنا هناك.
- هل تعرف الحب الذى أتحدث عنه؟
= كلنا نتحدث عن الحب بمعان جديدة وخاصة تماما، هذه بضاعة صاحبنا.
-…..أشعر بالسعادة فعلا بجوارك.
= أسمعك تستعمل كلمة السعادة لأول مرة.
- أنت تفهمنى وتقدر يأسى وحذرى أمامهم هناك، أما هنا.
= كنت أود أن أفهمك أكثر ولكنى الآن متردد تماما، ومرتبك أيضا.
- منذ ذلك اليوم، يوم أن خرجت أتجول من سجنى بينكم وأنا أحاول أن أطفئ النار التى اشتعلت، نجحت فى إخماد كل الجمرات التى نفختم فيها إلا جمرة واحدة تدفعنى إليك وإلى إبراهيم.
=…أنا أثق فى إبراهيم.
- ولكنى قدرت أنه لن يفهم مشاعرى هذه.
= لعلك اكتشفت الآن أنى مثله لا أكاد أفهم ما تقصد أو تريد.
- ترددت ألف مرة قبل أن أفاتحك بحبى.
= …. حبك هذا، “هكذا” يربكنى.
- أريد أن تجرب السعادة معى فالصدق هنا أضمن، أريد أن أقدم لك شيئا.
طرق الباب طرقة منغمة فارتاع “غريب” وأنطفأ وجهه وصمت فيما يشبه اليأس ثم التفت برأسه سائلا، وأنا مازلت مرتبكا:
= هل أفتح؟
- لم لا…؟ هذا شأنك
= إنها “صفية” أعرف طريقة نقرها الباب، هل تريدنى أن أفتح؟
- تتحدث عنها وكأنى أعرفها، هذا شأنك، يا غريب…. تفتح، لا تفتح، أنت حر.
قام متثاقلا يجر خطاه دون أن أفهم ماذا يريد على وجه التحديد، على أنى كنت قد بدأت أحس برائحة الخطر من خلال نظراته الجائعة المستجدية، أواجه تحديا لابد وأن أكسره، دخلتْ صفيه تطرقع باللبانه، قدمنى “غريب” لها على أننا أصدقاء.
قالت وهى ماضية إلى الحجرة الداخلية وكأنها تسير فى بيتها ونحن الضيوف
- نادرا ما أرى عندك أصدقاء يا غريب وهذا ما يشجعنى على الحضور دون إنذار، لم أقابل عندك أحدا منذ لقائى بجارك عبد السلام الذى كان يبحث عن الله وكأنه نسيه عندك بالأمس، كان دمه خفيفا وإن كان لم يحبنى كما يجب.
استمرت فى حديثها وصوتها يعلو كلما ابتعدت حتى اختفت فى الحجرة مع صوتها.
قال غريب فى ود يخفى ضياع فرصة ما:
= صديقة حقيقية، أصدق من شلة المخدوعين الذين يتلمسون مبررا لعجزهم عند صاحبنا شيخ الطريقة.
- حضورها أتاح لى الفرصة لأعرفك أكثر.
= …. بل هى فرصة لتجهل ما بى أكثر، هى إنسانة بحق، قلبها كبير وتحب كل الناس، هذه هى مهنتها الشريفة بلا أسماء طبية زئفة.
= كنت أحسبك لا تهتم بهذه الأشياء.
-… لى طريقتى الخاصة، ولكنى لا أجرؤ على الحديث عنها.
= تبدو صاحبتك رقيقة رغم فجورها المصطنع.
- أنت لا تفهمنى، لعلك تريدها الآن، هى لك إن شئت.
= شهيتى ضعفت هذه الأيام، وإن كان حب المغامرة يتحرك فى داخلى من جديد، ثم إنها تبدو أرق مما تقول.
- ليس فى الأمر مغامرة، المغامرة هى أن تستمر فى شىء، أما هذه العلاقات المؤقته فهى من أصدق العلاقات الموجودة فى عصرنا المظلم الكئيب.
= ألا تجد فى ذلك جرحا لإحساسك، أو إحساسها.
- يسعدنى أن تسعد معها، أو أن تسعدها، هذا يعوضنى أيضا خيبة أملى.
= … مازلت غير فاهم.
- ما عليك، هذا شأنى، أنا أعرف طريقى.
أُبـْعـِدُ فكرة الشذوذ متى خطرت ببالى رغم وضوح الرؤية بعد هذا النقاش الذى اقترب من الصراحة المباشرة، حضرت صفية ففرحت حتى لا أتمادى فى الشك، ربما استغرقتنى المغامرة الجديدة، كانت تلبس إحدى بيجاماته المخططة فبدت شهية فعلا دون تصنع، تـَرَكـَنـَا غريب فى هدوء سعيد غامض.
= إسمى كمال.
- ذاكرتى قوية، لا أستعملها فى الكلام الفارغ.
= ماذا تعنين؟
- مازلت أذكر عبد السلام جاره، وأذكر تساؤلاته، هل تعرفه؟
= نعم.
- أمره عجيب هذا الرجل ، هل أنت مثله؟
= هناك تشابه دائما، فى بعض الأمور على الأقل.
- أحب مهنتى هذه لأننى أعرف من خلالهاالناس ظهرا لبطن.
=… صفية! فيلسوفة أنت؟
- فـى ماذا؟ اسم الله عليك.
= حدثينى.
- يا عينى عليهم، أمر الرجال هذه الأيام عجيب، يحلـون شئون الكون من فوق إلى تحت مع أن الطريق السليم هو البدء من تحت لفوق، يبدو أن هذه الشقلبة المزعجة هى التى أوصلت غريب إلى الخيبة التى هو فيها.
= أية خيبة؟
- لن أتركه لشقائه…. أنا وراءه والزمن طويل.
= أنا أصدقك، هل أشكرك؟
-… أنا أحبه..
= وهو.؟ هل يحبك؟
- طبعا.
= آسف لاجترائى على التواجد بعد ذلك،
– عندك، إكرام الضيف واجب، لا تفعل مثل جاره “عبد السلام” الباحث عن الله فى صرة الكون.
= وغريب؟
- غريب يتشاجر معى إذا فشلت مع ضيوفه، يقول إن فشلى يضاعف فشله.
= الأمور تعقدت.
- بل هى أبسط مما تتصور، هيا بنا.
= أخجل من رغبتى هنا هكذا رغم أنها موجودة.
- لا تكن مثل العيال المبتدئين.
-5-
انقطع غريب عن الحضور إلى المجموعة بعد عدة مرات وحسنا فعل، لم يفاتحنى بعد الزيارة فيما حدث، ولم يعاود دعوتى أو الحديث معى حتى أحسست بعبء حقيقى، كان يتعمد الجلوس بحيث لا تلتقى عيوننا، بدا يائسا، منهكا خائفا وحيدا، أنا متأكد أنه بابتعاده سوف يجمع شتات نفسه كما اختار ورضى، تجربتى مع صفيه أنارت فىّ مشاعر جديدة لم أعهدها من قبل، كانت صادقة واضحة طيبة، أصرت على ألا تعطينى عنوانها رغم إلحاحى، فكرت فى الذهاب إلى غريب لعلى أقابلها مصادفة من جديد، ولكنى خفت أن يسئ فهم ذهابى لأسباب أخرى تتعلق برغبته فى شخصيا، ثم إنها لا تذهب هناك إلا مصادفة كما قال، أعادتنى تجربتى معها من إجازتى العاطفية وبدأت حواسى تتحرك وإن كانت بشكل مختلف، نجوى تتفتح كل يوم أكثر وأكثر، وفردوس تذكرنى بالحريم المتخصص لشئون السرير حتى أكتم ضحكى وهى تتحدث عن التطور، وأحيانا ما تردد كلمة الثورة وكأنها تتكلم عن السكر والليمون اللازمين لصنع الحلاوة اياها، أما “بسمة” فإنى لا أراها إلا ويضع خيالى فى يدها كوب شاى باللبن، إصلاح فاضل …. تلميذة شيخنا المجتهدة، استحوذت على فكرى وحسى أغلب الوقت منذ لقائى “بصفية”، هى دائمة الصمت والنظر والتأمل، جادة الاستجابة إذا أشار لها أستاذها بالمشاركة، تلميذة ومريدة ومساعدة من الدرجة الأولى، أشعر أنها تقدِّس أستاذها رغم اختلافها عنه وشجارها معه فى كثير من الأحيان، لماذا تذكرنى بصفية باستمرار، ترى هل هى السمرة أو الملامح المحدودة أم شئ آخر، ترى هل عندها قدرة عطاء صفية، إنهما تشتركان فى البساطة والوضوح، صفية تبيع بضاعتها بشجاعة نادرة، ولكن ما هى بضاعة إصلاح على وجه التحديد؟
- نعم.
= تأخر الأستاذ، فهل تسمحين أن نتبادل الحديث حتى يحضر.
- طبعا.
= أبحث عن الطب فيما يجرى فلا أرى إلا فنا مسرحيا من الدرجة الأولى.
- الطب فن على أى حال.
= نعم؟ … ولكن.
- المناقشات النظرية تبعدك عن ذاتك.
= أشاهد أستاذك وهو يشرِّح اللحم الحى، وأحس أنى أمام نحات عظيم.
- ريشتك الساخرة تعطلك.
= نعم؟ ، نعم؟
- أتابع فرجتك وسخريتك طول الوقت.
= الرد خالص، أنا أيضا لى القدرة على متـابعة ما يجرى فى الداخل.
- أعرف ذلك.
= أرفض أن أكون صخرة فى أتيليه جاهزة للتشكيل على مزاج طبيب قلق وحيد.
- هذا يتوقف على التزام الطبيب…. وليس فقط على مزاجه.
= فماذا عن التزامك أنت؟
- التزامى؟ التزامى هو بعالم عادل سعيد.
= هذا حلم مستحيل، كيف تسوِّقانه مع أنكم مختصون بعلاج الإفراط فى الحلم.
- لا أحلم إلا بقدر ما أستطيع، وإن كان الأستاذ يقول إنى أبالغ فى أحلامى وفى تقدير قدراتى، هذا من أهم نقاط الخلاف بيننا.
= أستاذك غامض ومتناقض، هذه بعض صفات الفنان القدير على كل حال.
- يحاول أن يجذب أقدامى إلى الأرض باستمرار، وحين أقاومه أكاد أتمزق من قسوة واقعيته.
= تكملينه.
- نتشاجر كثيرا.
= وتحبينه؟
- أستاذى.
= بل أكثر.
- أحبه، وأحبك.
=…. على ما قـُسـِمْ.
- أعنى ما أقول.
=…. والباقين؟
-…. والباقين كذلك.
= سبيل للعطاشى؟ لعل هذا هو وجه الشبه بينك وبين صفيه.
- مـَنْ صفيه؟
= صديقة قابلتها عند غريب، بضاعتها جاهزة، وذاكرتها ضعيفة، ولا تحب كثرة الكلام.
- كلامك يغرينى باحترامها.
= … صـِدْقـُها لابد وأن يرعبك.
- هل غامرت فنظرت فى عمق آلامها.
= هل تعرفينها؟
- أراها فى عينيك وأنت تتحدث.
= جسدها أصدق من ألفاظكم.
– … صرخة احتجاج تنبهنا إلى ضياعنا فى الكذب.
=…. صدقها يوقظ إحساس أى ميت.
- … أرجوا ألا تخنقه جرعات الألم التى تكتمها.
= تلميذة مجتهدة أنت، تعيدين كلام أستاذك ، أتقنتِ الحدْس مثله، كأنك رأيتها.
هذه المرأة حكمتها مخيفة، عالمها الفاضل مرعب، تتحدث عن ألم صفية وتنسى ألمها هى، سأحافظ على علاقتى بها عن بعد، ملكة وغالى لا يتركانى فى حالى، غالى يتهم ملكة بكذب إدعاءاتها الثورية، وفى نفس الوقت يحاول أن يقنعنى بالعودة إلى هذه الشعارات، ثم هو يرجع إلى حضنها مستسلما بعد كل جولة، حاولت أن أقنعها أن تركز على المحافظة على بيتها، كنت قاسيا، يبدو أنها أذكى منى، تعلم أن هذه المبادئ هى السبيل الأقرب إلى قلبه، زمان كان الطريق إلى قلب الرجل هو معدته فأصبح الطريق إليه: مجلات الحائط وتبادل نياشين الثقافة، سمعت ملكة مرة وهى تشير إلى عنوان مقال فلسفى بطريقة ذكـرتنى بقيس وهو يشير إلى القمر حتى تراه ليلى، الصور تختلف، والمصيبة واحدة، والعاقبة فى المسرات.
أين أنت يا صفيه يا أصدق الجميع؟ لو عرفك غالى لغير رأيه فى المبادئ والنساء، غالى يحاول أن يسترجعنى بأن يذكرنى بفشلى فيما ذهبت إليه، كنت قد تركتهم معلنا أن الفن هو الحل الحقيقى الذى سيوقط الناس دون كذب، وها أنذا أحس برائحة الشماته، غالى يتابع توقفى وعجزى.
- هل رأيت كيف توقفت حين واجهتَ حقيقة هربك؟ هل صدَّقت أن الفن ليس حلا؟
= ولكنه قد يمهد للحل يا غالى.
- إذن لماذا توقفت؟
= أعيد النظر.
- لعلك تفكر فى الرجوع إلى النضال معنا.
= غالى، تذكر ما تقوله لزوجتك ليل نهار.
- فشل حلك الفنى يجعلنى أتمسك بالحل الواقعى مهما كانت عيوبه، وأنت تعرف أنى غير مقتنع بما أقوله لملكه، أنا أحمى نفسى من الصوت العالى…. ولكنى مـُصـِرّ.
= إصرارك يا غالى لا يطمئننى… قد يكون هربا من المواجهة الحقيقية.
- والفن أيضا هرب.
= الفن لازم لصنع الثورة.
- ولكنه قد يؤجلها أو يجهضها.
=…. بل يمهـد لها ويرسمها.
- فلماذا توقفت؟ ، إن توقفك هذا يدل على أن الفن لم يستوعب طاقتك، الفن رمز بديل عن الحياة، وهو يفرغ الطاقة فى نشاط جانبى… فهو مرحلة لا بد أن نتخطاها.
= أين تريدنى أن أفرغ طاقتى إذن؟ صفية تعرف الجواب أكثر منك ومني.
- مـَنْ صفية؟
= لا عليك، ماذا تقترح؟
- الثورة.
= ثورة… بلا ثوار؟ الثوار يصنعون الثورة، لكن الثورة لا تصنع الثوار.
- تتخلى عن ثوريتك، ثم تسأل فى سخرية عن الثوار.
= كنت أتصور أنى أساهم فى صناعتهم بالفن.
- وهأنت قد فشلت.
= فى إجازة يا أخى.
- إجازة قد تطول بلا نهاية،
= إسمع يا غالى، أذكّرك مرة أخرى بما تقوله لملكة،
- أحاول أن أقنع نفسى من خلال إقناعك.
= أنا لم أذهب عنكم وعن المكافحين المزعومين إلا حين تأكدت أنها لعبة مضحكة، نهرب فيها من ذواتنا،
- ماذا تقترح؟
= نبدأ من جديد؟
- مثلما يتصور هذا الطبيب أنه يجدد البدايات ليطلق لتطورنا العنان.
= هو ملبوس بحكاية التطور هذه، دعه جانبا فكل فضله أنه جمعنا تحت مظلة وهمه، أما ما يخرج من ذلك فهو اللاشئ نفسه، حتى الإشراقات الجادة، هى تضئ وتنطفئ مثل الألعاب النارية.
- لا تيأس يا كمال مثل غريب.
= لست يائسا ولكنى أتابع ما يجرى هنا، وما تتكشف عنه النفوس، جزع بشع، لا أحد ”يريد” أو “يستطيع” أن يقترب من نفسه لتحمل مسئوليته ومسئولية الآخرين.
- هنا نوع خاص من البشر، مرضى يحضرون للعلاج.
= لا أحلم بمصنع للثوار أفضل من هذا، ومع ذلك فها أنت ترى صعوبة العملية.
- لأنها حل فردى.
= الثورة هى إطلاق الإحساس الصادق على أرض الواقع، دون هرب أو التواء، وأظن أن بعضا من هذا يجرى هنا.
- بدأت تؤمن بالعلاج؟ هذا مهرب فردى واضح، وأنت سيد العارفين.
= الحل الجماعى يصلح لمن ليس على خشبة المسرح، ويا ويل من يلبس “المزيكة”.
****
غالى يحاول أن يستيقظ.
ملكة تقف له بالمرصاد.
خوفها يحيطه من كل جانب، وهى تصر على أن تقطع أى نقاش جانبى ليست هى طرفا فيه.
يأسه يتزايد وتسليمه أصبح وشيكا.
***
- يبدو أنه لا حل ياكمال.
= نهتف بحياة غريب إذن، وننصبه زعيما لفرقة العدم.
- أحيانا يخيل إلى أن قوانين الدنيا ستختل لو وجدنا الحل.
= سر الحياة أنه ليس هناك حل.
- لو سمعتـنا ملكة لأغمى عليها جزعا وكمدا.
= طيب، وأنا…. ماذا أفعل لو لم أرجع لفنى؟ قد ترجع أنت لملكة أما أنا فأين أذهب؟
- على فكرة ملكة حامل.
= هكذا تعودان إلى الصف يا باشوات، وسوف تعيشان فى التبات والنبات، وتخلفان “صبيان وبنات”.
- فكرت فيك وأنا أعاود نشاطى الأزرق مع لابسى القمصان الموسيقيين العرب على أنغام صديقنا الشيخ وصاحبه.
= تنصحنى بالبحث عن الحل فى غيبوبة الدخان الأزرق.
- أنت فنان، وإن كان ثمة نهاية فلتكن سرية ولذيذة.
= هرب رشيق، ياه!!!.
- لا فرق بين الهرب الرشيق والهرب البشع.
يبدو أن استمرارى فى الذهاب سيصبح مبررا لتوقفى النهائى عن كل نشاط، شيخ المخرجين هذا يدعو إلى مواجهة مرة قاسية، فأزداد يقينا أن الفن فى هذه المرحلة يبعدنى عن الناس، ولكن الاقتراب من الناس هكذا مغامرة غير محسوبة، لو كان كل الناس مثل صفية لهان الأمر، ولكن من يدرينى كيف تتغير لو استمرت علاقتها بواحد فقط فترة كافية؟ إصلاح تزعم أن ألم صفية هائل، وأن صدقها لا يفيد، فما الذى يفيد إذن يا حضرة التلميذه المجتهدة، لم تعطنى أى ضمان، لا أنت – برغم أنى أحبك- ولا أستاذك، رغم أنى أنحنى لمهارته ولعبه بالبيضة والحجر.
****
انقطعت عن الذهاب منذ شهور وقررت أن أواجه مصيرى دون مسكنات أو خداع، ليكن ما يكون ، أندم أشد الندم على ذهابى هناك من أصله…. علمت وتعلمت ورأيت وفهمت وأحسست، كل ذلك كان أكثر مما ينبغى، ماذا ينبغى؟ لم أعد أستطيع أن أتصنع الحيرة أو أتمتع بالضياع، فما بالك لو أكملت الرؤية فعرفت كل شئ؟ ياخبر أسود…. إذن سوف يموت فىّ كل شئ تحت دعوى الصحة “آخر موديل”.
بداخلى بركان هائج لم أسمح له بأن يرى الخارج إلا من خلال ثقب إبرة الفن، أفتح هذا الثقب ليصبح بوابة تنفذ منها الصور والألحان، حين زاد الثقب ليهدد بأن يكون بوابة رأيت الوضوح واليقين فى متناول يدى فأصابنى الشلل، حضرت إليه على أمل أن نتفاهم فإذا به يحاول أن ينحتنى فى مرسمه بما يراه مناسبا، الله يخرب بيتك أيها الحرفى المجرم، النحت فى كيان البشر فاق كل محاولاتى السابقة، تغرينى مهارتك وحيوية مادتك أحيانا أن أتمنى أن أمتهن مهنتك؟ هل يكون هذا هو السبيل الباقى أمامى؟
ما فائدة الرؤية إن كانت تزيدنى عجزا؟ كيف أغلق الآن هذه البوابة المفتوحة؟
لا أومن- ياسيدنا الشيخ – بحل تعرضه من عندك، حل أظن أنك أنت شخصيا لا تعرفه، ومع ذلك تغرينا به.
ليس لدىّ شخصيا حل، وأرفض أن أعايش الحيرة القديمة بعدما رأيت.
تغمرنى أجوبتك الجاهزة التى تضعها على ألسنتهم دون أن تنطق، تغمرنى مثل خراطيم المطافئ فتموت النار وأفرغ من الطاقة.
ألعن اليوم الذى رأيت فيه وجهك.
لا يا إصلاح يا فاضل، لن أرجع خوفا منك أنت بالذات.
خربتَ بيتى يا رجل.
ماذ أفعل الآن؟
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “مدرسة العراة” الجزء الثانى من ثلاثية “المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1978، الطبعة الثانية 2008، الطبعة الثالثة 2018 تحت الطبع)، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net (طبعاً هذه الصورة ليست للشخصية الحقيقية).