نشرت فى الدستور
1-11-2006
جدل الإنسان والطبيعة … نحو الله
من فرط سجن الدين فى ألفاظ المعاجم، ومن غلبة تمحك بعضنا فى قشور العلوم المتغيرة، يسوّقون بها ظاهر الدين للبسطاء، مع أن فطرتهم النقية لا تحتاج ذلك أصلا، ابتعدنا عن الله وعن الإيمان وعن الجمال نتيجة الشعور بالنقص أمام أصنام علومٍ بعضها زائف. هم يحولون بذلك بين وعى البشر وجدله مع وعى الكون: سعيا إلى وجه الله. نأخذ مثالا ما يجرى كل عام حول أولوية ترجيح رؤية هلال رمضان، فالعيد، بالعين المجردة أم بحسابات الفلكيين.
من نافلة القول أننا نوافق على بديهية أن الفلك أدق وأكثر انضباطا، ولكن من قال أننا – تدينا وإيمانا – نبحث عن الأدق والأكثر انضباطا؟ من قال أن هناك فرق عند ربنا أن نمتنع عما نهانا عنه ثلاثين يوما أو ثمان وعشرين؟ من قال إن المسلمين لابد وأن يصوموا معا ويفطروا معا؟ كل هذه افتراضات وضعناها بناء على اجتهاداتٍ سطحية تـفتقر إلى عمق ما جاء له الدين.
نحن نعامل العبادات بمنطق واجبات تلامذة المدارس، وشطارة برامج الحاسوب.
لم تنزل الأديان لتعلمنا الجغرافيا أو علم الأحياء أو الفلك، لم يقسم الله بالتين لما فيه من فيتامينات، ولا بالزيتون لزيته النقى، إنما بعث الله الرسل عليهم الصلاة والسلام ليسهلوا على عامة الناس الطريق إليه، العبادات تقوم بذلك خير قيام دون حاجة إلى تبرير أو تفسير. العبادات هى العبادات، لا أكثر ولا أقل، هى تساعد الإنسان بكل ما هو: عقلا وقلبا وجسدا ووعيا وفكرا وحدْسا أن يكتشف طبقات وعيه، فتنطلق فى جدل خلاّق مع دورات الطبيعة من حوله، وهو يتلمس طريقه إلى وجهه سبحانه.
رؤية الهلال بالعين (حتى لو لم يظهر خارجها) هى بعض ذلك، وهى أفضل من اتباع حسابات المراصد وأنت غائب الوعى عن نفسك وعن الطبيعة، وعن الله. إنها لا تعمى الأرصاد، ولكنها لا تبصر ما تبصره عقول وعى إنسان عادى أشعث أغبر: ابتهالا أو تخيلا!! واقع البشر فى داخل داخلهم (الإنسان العابد فى فطرته النقية) ليس أقل واقعية – عند الله ومن يعرفه- من واقع الفلك والسماء والحسابات.
الإسلام انتشر وبقى عند كل هؤلاء الناس لأنه يخاطب كل مستويات وعيهم فى آن واحد، يخاطبها جميعها وهو يعزف سيمفونية الإيمان على آلات العبادات البسيطة وهو يجعل لنا الأرض “مسجدا وطهورا”، والسماء تلمع بالطارق، النجم الثاقب، فى لحن مباشر، جدلا مع وعينا دون حائل أو وصاية.
مخاطبة الفطرة السليمة بهذه المباشرة المخترقة هى التى جعلت الإسلام ينتشر خاصة بين المستضعفين ليجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين، فكيف يزعمون أنه انتشر بالسيف، كما نفخر نحن بلا تردد-ربما لشعور بنقص آخر-أنه دين العقل، ونحن لا نعرف تعريفا جامعا مانعا حديثا لما هو “عقل”.
نحن لا نعرف الله سبحانه من خلال إثبات وجوده بعقلٍ “أرسطىّ” لم يعد يمثل من وسائل المعرفة إلا أضعفها، هذا العقل هو هو الذى يستطيع، بقصوره المتحذلق، أن ينفى وجوده بمنطقه اللامع المسطح، نحن نعرف ربنا بعقل القلب، وعقول الجسد، وعقول الحركة مع إيقاع الكون الحيوى، نعرفه مع دورات الصحو ونبض النوم، هذا ما تؤكده كل العبادات فى الإسلام وهى تسهم فى تناغم إيقاع البشر الحيوى مع الإيقاع الحيوى الكونى، نحن نصلى مع دورات الشمس ونصوم مع رؤية القمر، نحج كذلك معه. العبادات توثق علاقة الإنسان المباشرة بالطبيعة وبالناس، فما دخل المراصد وعلوم الفلك فى ذلك بالله عليكم؟ الله طلب الصوم ممن “شهد” شهر رمضان وليس ممن حسبه وحفظه، وسمّعه.
المشاهدة بالعين للهلال وللشمس وللقمر وللسماء والجبال والتين والزيتون والطير كل يسبح بحمده، هى التى توفر الجدل مع الطبيعة فى الكون إلى وجه الله.
أضف إلى كل ذلك مزية احترام خبرة الشخص العادى وتصديقه رغم أنف التلسكوب وجداول الضرب. قد يضر تجاوز حسابات الفلك بسفينة فضاء قبيحة موجهة نحو قمر مظلم، ومع ذلك علينا أن نحترم هذه الحسابات ونحن داخل كبسولة الفضاء، لكن احترامها هذا لا ينبغى أن يمتد، نتيجة شعورنا بالنقص، وخوفنا من معايرتهم، حتى تنحشر تلك الحسابات بيننا وبين ربنا دون دعوة منه.
أما أن يصوم المسلمون مختلفين كل فريق حسب رؤية بعض أهله، فهذه مزية أخرى لما فيها من “سماح بالاختلاف”، ونحن نزعم ليل نهار أننا نحاول “قبول الآخر”. المطلوب هنا هو أن نقبل بعضنا البعض حتى يطمئن “الآخر” أننا يمكن أن نقبله.
لندع الدين يؤدى دوره دون شعور بالنقص، وليثرِنا العلم فى مجاله دون وصاية على غيره من منظومات المعرفة والتواصل.