الدستور
8-7-2009
تعتعة
جاكسون: الجسدُ المبدِع، والألم الراقص!! (2 من 3)
لم أشاهد أو أسمع أغنية واحدة لمايكل جاكسون قبل رحيله، شاهدت أوباما يتراقص (لا يرقص) مع مذيعة تليفزيونية وهو يخطو خفيفا رشيقا من باب الاستوديو إلى مقعد اللقاء، وذلك بعد نجاحه، فرحتُ آنذاك برشاقته قبل أن أكتشف فى القاهرة أنه يسوّق بها “كاريزمته”.
أول ما سمعت عن عبقرية جاكسون كان من المرحوم الفنان أحمد مظهر أثناء صحبتى له مع شيخنا نجيب محفوظ، فى طريقنا إلى بيت الصديق توفيق صالح فى إحدى ليالى الحرافيش، قال لى أنه سمع وشاهد جاكسون ليلة أمس، وراح يحكى كيف أنه معجزة، قدّرت كم أنا جاهل، وخجلت أن أعلن له رأيى المسبق الرافض لهذا الجاكسون، ربما من خلال رفضى هوس الشباب به، خاصة شبابنا الذى يتقن تقليد الهوس لا معايشته.
كنت عبر سنوات – مثل غيرى – أتابع الأخبار والإشاعات التى تدور حول هذه الشخصية الأسطورية سلبا وإيجابا، من أول تغيير لونه بالمرض أو بالقصد أو بكليهما، حتى تبديل أوتعديل ملامحه، وأيضا من أول تعاطفه مع قضايا المظلومين والأرض إلى اتهامه بالتحرش بالأطفال (فبراءته)، وكذلك من أول تحيزه للناس ضد السلطة، إلى احتملات نرجسيته فى قوقعته الأكسوجينية الخاصة، وأخيرا من أول إسلام أخيه إلى إشاعة إسلامه، كنت أتابع كل ذلك بالصدفة أو رغما عنى، لكن ذلك لم يغير موقفى الحكمى المسبق منه، كيف يحق لى ذلك وأنا لم أره، ولم أسمعه.
ثم مات جاكسون يرحمه الله، سألت صديقا شابا جدا، غربى المزاج (نسبيا)، يكتب الشعر بالإنجليزية، عن مشاعره إثر موت جاكسون، فقال إسأل أختى، ففهمت، ولم أعلق، طلبت منه أن يعرفنى عليه لأننى أشم رائحة تشابه واختلاف مع أوباما، وأنوى الكتابة عن ذلك، فنصحنى باستشارة مولانا “جوجل”، ففعلت، واخترت أغنيتين بالصدفة، “الإنسان فى المرآة” و”أغنية الأرض”، ومرة أخرى خجلت من جهلى، ومن أحكامى المسبقة، ومن نفسى أكثر مما فعلت مع الصديق أحمد مظهر.
فى أغنية “الإنسان فى المرآة”، دع جانبا الكلمات الآن، انتبهت إلى أن جاكسون كان مغمض العينين معظم الوقت، لكنه كان يرى كل الناس كل الوقت، وحين رأيت الجمهور كتلة ملتحمة من الدموع الحقيقية والدموع الدرامية، ومن الإغماءات المستوعِبة، والإغماءات الهشة، عرفت أنه وصل إلى مستوى أعمق من الوعى الجماعى الحاضر، لم أشعر أنه يغنى طالبا أيا من ذلك، وإنما كان يوصل رسالته طائرا، دائرا، حاضرا، راقصا، مبدعا بجسده قبل لحنه وكلماته، رأيته كتلة ألم إنسانى صادق تتناغم مع لحن قدَرٍ قادم، رأيته يدعونا أن نشكل معا نحن هذا القدر الجديد نزيح به كتلة القدرٍ الجاثم، وفهمت بعض الظاهرة: هذا المبدع لا يغنى وإنما هو يمد يده داخلنا إلى عمق وعى آخر، وعى لم يستطع الاغتراب المعاصر أن يدفنه تحت أوهام الغرور والجشع، رأيته يجسد هذا الوعى الذى نكتمه داخلنا فلا نسمح له بالظهور إلا فى الحلم أو الجنون، يجسده فى اللحن والحركة أساسا.
كم تكلمت عن مشاركة الجسد فى الإبداع والتفكير، لكننى لم أنجح أبدا فى شرح هذه الفكرة، رأيت جاكسون يقدمها: قافزا، وسط الحانه وبها: باكيا، صائحا، جزعا، ثائرا، قادرا، متجاوزا فيخترق بذلك عمق وعى كتلة مشاهديه: إلى عامة الناس. فكرة أخرى من أفكارى الغامضه شرحها جاكسون بأدائه مباشرة وهى: إن “الجسد وعىٌ متعيّن”، رأيته حين يرقص ليس جسدا، وإنما هو وعى استطاع أن يحتوى كل الألم البشرى الذى ندفنه أولا بأول فإذا اقترب من وعينا نُلبسُه أقنعة تُشَوّهُهُ مثل ألفاظ القلق والاكتئاب والتوتر، وما شاء النفسيون والخطباء أن يسموه. هذا الألم الشريف داخنا داخلنا، داخل داخلنا، نادرا ما نسمح له بالوصول إلى وعينا الظاهر، ولو نسبيا، حتى لا نتحمل مسؤوليته، فيأتى الفن ليطلق سراحه رافضا، حتى كلمات أغنية “الإنسان فى المرآة” تذكرك أنك “أنت فاعلها”، “أنت، الآن”، الأغنية تقول قرب نهايتها: “إلق نظرة على نفسك، ثم هيا إلى التغيير“
الألم الذى تجسد فى “أغنية الأرض” هو نفس الألم الإنسانى الذى اشتعل فى “الإنسان فى المرآة” لكنه هنا غائر شائك حزين، وبرغم هدوءالإيقاع الرثاء، وحزن أنغام الصور الخلفية المصاحبة إلا أن الألم راح يتسحب مع اللحن الأساسى والأداء إلى موقعه من وعينا الأعمق، ثم يأتى دور الكلمات، فتكتمل الصورة، كما وصلت لى، مثلا، فى مقطع “الأرض تنوح والشواطئ تبكى ” ثم آاااااااااااااه، آااااااااااه.
ما علاقة كل ذلك بما زعموا أن جاكسون – شخصيا- فعله بجسده؟ بوجهه؟ بلونه؟ بحياته؟ بدينه؟
وما علاقة كل هذا بصورة دوريان جراى؟
وماعلاقة كل هذا وذاك بباراك أوباما
هذا حديث آخر.