الوفد: 13/8/2001
ثم ماذا بعد الغضب؟
من الألم والغضب، إلى الفعل المسئول !!
زادت المسألة لدرجة أصبحت الكتابة فيها أو الحديث عنها، دون إسهام إيجابى حالا، هنا والآن، من كل فرد على حدة، ثم من كل جماعة، ثم من كل شعب، ثم من كل جيش، خيانة للحياة نفسها.
معـنى هذا الكلام هو أن أعدل عن كتابة هذا المقال ما لم يكن عندى ما “أفعله” أو أوصى “بفعله”، بدءا من الآن، من حيث موقعى هذا، فى لحظة حياتى هذه.
هذا هو المأزق الذى وضعت نفسى فيه وأنا أهم بكتابة هذا المقال حتى كدت أعدل عنه أمانة وخجلا.
المواجهات المتزايدة بيننا وبينهم ليس لهاحدود، ليس لها آخر. حين أقول بيننا وبينهم، لا أعنى العرب ضد إسرائيل فحسب، ولا حتى المسلمين ضد الصهاينة، وإنما أعنى “قوى الإبداع والخير” (فردا فردا) ضد أوهام الأساطير والسيطرة (متجسدة فى سفاحين وقتلة، أقسى من الشيطان نفسه).
ما حدث ويحدث منذ بدء انتفاضة القدس(سبتمبر2000)، بل منذ بدء زرع إسرائيل (مايو 1948)، وحتى الآن، هو إعلان محدود لحقيقة غائرة مستمرة، مستعِِرةٌ، و منذرة.
إنه ينبّه إلى عمق الاختلاف، وضرورة الاستعداد لمواجهة ٍأطول وأخطر، مواجهة لا تنتهى بغالب ومغلوب، وإنما تتركز حول التحدى الملقى على النوع البشرى لمعرفة مدى قدرة الإنسان على إنقاذ ما يهدد بقاءه. إنها تعرية جديدة لما يشاع عن القرية العالمية الواحدة،وعمدتها فى دوار البيت الأبيض، وشيخ خفرائّها فى تل أبيب. إنها تعرية لشفافية الكذب، وسطحية الإغراق بمعلومات وشعارات لم نشارك فى تحديد معناها. إنها تحذير من الوعود برفاهية لا نعرف كــّم المخدرات التى تحتويها، ولا مدى آثارها الجانبية.
ليست المسألةـ فقط ـ أن إسرائيل تقتل الأطفال وتهدم البيوت، ولا أن العرب متقاعسون صامتون مذَلٌّونَ مهانُون. وليس المطلوب مجرد الدعوة إلى استمرار الانتفاضة دون مشاركة حقيقية فردا فردا، وجماعة جماعة، وحكومة حكومة، وليس الحل فى إعلان الحرب من بضع عشرة دولة عربية، تخزن من الأسلحة ما يمكن أن تعمّر بثمنه العالم وليس فقط أرضها وناسها. (لماذا اشترت هذه الدول الأسلحة؟ للدفاع عن النفس وليس للإغارة. “ماشى”. وهل هناك داع، ودعوة، للدفاع عن النفس والعرض والكرامة أكثر مما يجرى؟ ليست كرامتنا فقط، لكن كرامة الإنسان؟(
الحرب الحديثة لم تعد تشرّف أحدا، لا المنتصر ولا المهزوم. أبجدية الحرب الحديثة أصبحت عارا يتبرأ منه أى إنسان يشعر أنه كائن مكرّم من خالقه. مكرّم بالوعى وحمل الأمانة وفخر المسئولية.
ما ذا يفخر به محارب يضغط على زر فيقتل من لا يعرف دون تمييز، (أو بتمييز حسب التطور الأحدث) ؟ وماذا يشرُف به مُنَازل ليس له من النزال إلا أنه يطلق طيارة بلا طيار؟ ويحدد مسار صاروخ لا يرى ولا يشعر ولا ينازِل، لكنّه يقتل بغير محاكمة.
لم تعد الحرب حربا، إذا خلت من الفروسية والشهامة، بلا فخر ولا كرامة. حروب اليوم هى غطرسة الأقوى، وإبادة المختلِف إنها حرب القتل عن بُعد، والعنصرية، وهمجية، والكذب والاستعلاء.
باسترجاع نصف قرن من الزمان سوف نكتشف أن أغلب حروبنا بل وسلامنا- نحن العرب – كانت أقرب إلى رد الفعل منها إلى المبادأة والتخطيط والمثابرة.
هل ننتهز فرصة هذه الانتفاضة لننظر فيما هو “نحن”، فنحدد جبهات المواجهة بالعرض، ثم مدى المواجهة بالطول.؟
هذه الدماء التى تسيل، والبيوت التى تهدم، والأبرياء الذين يقتلون، هى فرصة غالية للمراجعة فالاستمرار. بغير ذلك، حتى لو انتصرنا، نصبح الخاسرين.
هؤلاء الشباب الذين ولدوا بلا وطن، ونشأوا بلا هوية، هم الذين يطالبون بالاستمرار، ليس عندهم ما يبكون على فقده، ما يخافون عليه. هم الذين يستشهدون، هم الذين ينزفون، وهم أيضا الذين يطالبون باستمرار ما يجرى من مواجهة. نحن الجالسون على المكاتب نكتب المقالات، أو نصدر البيانات، نثنيهم عن ذلك، أو نصفق لهم، أوندعو للتظاهر تأييدا لهم، واحتجاجا على حكوماتنا.إلى ماذا يدعو الكتاب- مثلى- بكتاباتهم ؟
يقول الشاعر الجمييل الصديق د. عبد العزيز المقالح محتجا على صمت العرب “العرب ظاهرة صمتية”، وهو يذكرنا بقول المفكر عبد الله القصيبـى منذ نصف قرن بأن ا”لعرب ظاهرة صوتية”، كما يتساءل فهمى هويدى (الأهرام 7 أغسطس) عما إذا كان الأوان قد آن لإعلان موت الشارع العربى، يتساءل بعد أن افتقد متألما أى صدى للانتفاضة “حيث يخيم على الشارع..سكون مدهش”. وفى نفس الوقت يعلن المفكر اللبنانى كريم مروة (الأهالى 8 أغسطس) أن العالم العربى يستدعى رفع الصوت عاليا فى الدعوة إلى الثورة (من واقع لبنانى، وفلسطينى، وقومى وعولمى،) مما يحتاج إلى استمرار الاستنفار للثورة، رغم كل التغيرات التى تحذرنا من سوء مآل الثورات حتى لو حسنت النوايا وحشدت الجماهير.
هل المطلو ب هو إظهار الغضب فى الشارع ؟ ألم تتغير المحكات التى نقيس بها معنى الغضب وجدواه، والتى تحذر من سوء استغلاله؟ هل المطلوب مزيد من التحليل والتفسير والتنظير على صفحات الصحف وفى اللقاءات المشتعلة كلاما وهتافات؟
المسألة أخطر من كل هذا.
إن من يجرؤ أن يعى الآلام التى تصله من أى موقع إعلامى حتى لو كان منحازا إلى إسرائيل لا بد أن يشعر بالاستنفار لشكل جديد من المواجهة، شكل يبدأ من هذه النقطة الفارقة فى تاريخ البشر، وليس فى تاريخ العرب فحسب، ولا يتوقف أبدا، شكل مختلف عن مجرد غضب الشارع، أو التحريض على تغيير سلطة محلية لا يحل محلها إلا ما هو ألعن منها (نكتشف ذلك بعد أسابيع أو شهورا، وأحيانا بعد أيام). أنا لا أقلل من الحاجة إلى غضب الشارع، ولا أستهين بمعناه، ولا أرضى إلا بالتغيير، لكن كل ذلك ليس نهاية المطاف، ولا هو مطلب لذاته، بل إننى أتمادى وأقول إن النصر نفسه، وبالسلاح، ليس هو الهدف النهائى، بل هو بداية مرحلة جديدة نختبر فيها أنفسنا هكذا :هل من تبقى منّا هو أهل لهذا النصر الذى يحققه عادة من يكون قد انتقل إلى التاريخ والشهادة فخورا بأكرم نهاية).
“نحن…، وهم “
هذه المواجهة بهذه القسوة وتلك البجاحة وكل النذالة والاستعلاء، إنما تعلن مكررا إصرارهم على تذويبنا بالسلام فى نموذج لم نختره، ولم نُخطر بحقيقة معالمه، فإن لم نسلّم ونستسلم، فهى الإبادة والتطهير العرقى
هل ما زال العالم يحتمل صيغة “نحن” و “هم”؟
نعم. للأسف.
فى بلدنا (فى مصر) يردد الأطفال عند تقسيمة التنافس فى اللعب أرجوزة التحدى التى تقول: “يا حْنا ياهمّ ياكوم الريش، همّ يموتوا،واحنا نعيش”. كانت هذه الأرجوزة هى شعارنا البدائى حين كانت شعوبنا أطفالا بدائيين، كنا نقول “نلق بهم فى البحر”، تعلّمنا بعد كل هذه التضحيات، والأخطاء الكثيرة والمكاسب القليلة، أن نتخلص من هذه الصيغة البدائية. شعارنا الجديد ” نحن أصحاب حق، ننتصر لإحقاقه لصالح كل البشر. دون استثناء من تبقى من شراذم العدو الذاهل عن إنسانيته”.
هل مــِـنْ أمل ؟
قبل الحرب وبعد الحرب، قبل الانتفاضة وبعد الاستشهاد، بل قبل النصر وبعد النصر، مطلوب منا أن نقف طويلا وكثيرا أمام كل ما يمثله “هؤلاء” على الجانب الآخر. ليس فقط لننقذ أنفسنا مما يمكن أن نساق إليه، ولكن أيضا لننقذ أعداءنا مما تورطوا فيه.
أكتفى فى هذا المقال الذى أحاول به أن أقلب غضبى إلى رؤية، وألمى إلى مسئولية بأن أحدد مجالات وموضوعات المواجهة الآنية و المستقبلية.
إن العدو الذى نواجهه ليس مقصورا على فئة متعصبة غبية أسطورية ضالة مضلة تجسدت فى إسرائيل. إذا كنا أهلا لتاريخنا، تاريخ البشرية، وتاريخ النبوات، وتاريخ الحياة، فنحن نحارب معركة أكبر وأشمل، نحن نمثل، أو ينبغى أن نمثل ـ طرفا مختلفا نوعيا عن هذا الذى نرفضه، وفى نفس الوقت نرجو بانتصارنا عليه، أن نرحمه من ضلالاته وأوهامه.
الخاسر هو كل البشر
حين تهتز القيم، حين يتخثّر الوعى، حين تسود الخرافة (بما فى ذلك الخرافة التكنولوجية)، حين تحل الأساطير المهجورة محل التاريخ الذى مازال يتحرك بنا الآن، حين تحل الرفاهية محل الإبداع، حين تحل الديمقراطية السطحية محل الحرية، حين تحل مواثيق حقوق الإنسان محل حقوق الإنسان، فالخاسر هو كل البشر. فضل انتفاضة القدس، على الرغم من الخسائر الآن ومستقبلا، هى أنها أرجعتنا إلى حقيقة وعمق ومدى تفاصيل المواجهة.
مع التحفظ ضد احتمال الاتهام بالتفكير التآمرى، تعالوا ننتبه إلى بعض ما نتهدد به من قِبَل هذا النموذج الذى زُرع فى قلبنا جغرافيا،ثم إعلاميا، وثقافيا. إنهم يمارسون سرا، وعلانية، طول الوقت محاولة نفينا مع أنهم الخاسرون إذا ما نجحوا، هذا إذا ما كنّا نمثل بديلا صالحا لما يفتقدون.
إسرائىل ليست فحسب هذا التجمّع العنصرى المختلط المستغل المغير القاتل المستعمر لقطعة أرض لم تكن أبدا لها. إسرائىل هى النموذج الواضح والصارخ – على الرغم من إنجازاتها الاقتصادية والبحث علمية والتكونولوجية والحربية – لكل سلبيات واغتراب الإنسان قديما وحديثا.
إن الناظر فيما تمثله ممارسات وطقوس الأحزاب الدينية لديهم لا بد أن يدرك بلا أدنى تردد أن هذا الذى يفعلونه أيام السبت وغير السبت، هو بالضبط أدنى ما يمكن أن يتدهور إليه دين من الأديان.
ثم إن الناظر إلى ما تمثله قيمهم الأكثر معاصرة، وبالذات الديمقراطية الغربية، لا بد وأن يكتشف (بعد أن يُبهر ويحترم)،أن هذه الإسرائىل إنما تستعمل أخبث ما وصل إليه الخداع العصرى لخدمة التخلف البدائى، إنهم يضعون السم فى العسل.
إن ديمقراطية إسرائىل، مثل ديمقراطية أمريكا، إنما تـنكشف أمام أى اختبار حقيقى فى التعامل مع الأقليات، ومع الخصم، بمقياس العدل، إننا لا بد أن نبحث لها عن اسم آخر، أو أن نبحث لنا نحن عن قيمة أخرى، أكثر ارتباطا بالحرية الحقيقية والعدل.
حين زُرعت إسرائيل فى قلب الأمة العربية، ثم وهى تريد أن تغمِد خنجرا مسموما فى بؤرة وعىنا الإيمانى باستيلائها على رمز تجمّع الأديان السماوية،(القدس) فإنها تكمل صورة ما تمثله : سلبيات الأقدم وأساطيره إذْ يمارس سيطرة الأقوى الأحدث وجبروته.
إن المطروح علينا بعد السياسة وقبل السياسة، بعد الحرب وقبل الحرب، قبل المفاوضات وبعد المعاهدات، أن ننظر فى تاريخنا واختلافاتنا عنهم، لنرى هل حقيقة عندنا ما نضيفه؟ هل هذا الاختلاف هو اختلاف تخلّف، وبالتالى علينا أن نلهث لنلحق بمن تقدمونا؟ أم أنه اختلاف نوعى تمتد جذوره إلى طبيعة بشرية مشتركة هى الأنقى والأقدر والأجمل والأكرم مما شوه به البشر أنفسهم
أنا لا أدعو بذلك إلى ترديد فخر بتاريخٍ مضى، فالتاريخ الذى لا يبقى متجليا فى فعل صاحبه الآن ليس تاريخه، هو لا يستأهله.
لسنا أهلا لتاريخنا إلا إذا تحمّلنا مسئوليته.
لوعلم هؤلاء الذين هم على الجانب الآخر أن انتصارنا الحقيقى هو انتصار لهم، حيث يمكن أن نخلّصهم من أوهام أساطيرهم، وغطرسة تطاولهم فى البنيان، إذن لاختلف الحوار، ولشكرونا وترحموا على شهدائنا الذين أفاقونا، لننتصرعليهم : لهم، ولنا. ولـكل البشر
كلام فارغ..، أو لنبدأ الآن فردا فردا.
كل هذا كلام فارغ، ولا مؤاخدة، أو إن شئت الدقة هو كلام مفروغ منه بشكل أو بآخر ما لم يترجمه كاتبه إلى توصيات محددة يقوم هو بها، وهو يدعو ا لقارئ بمثـلها. الآن، وليس بعد.
حين يفيض الألم بالناس يصيحون : آه
وحين يفيض الغضب بالناس يصيحون : لا
وحين يفيض الضجر بالناس : يطلبون التغيير
وحين تتجمّع الآهات، مع اللاءات، مع طلب التغيير، ويتردد صداها فى الشارع، نتكلم عن غضب الشارع، وننتظر الثورة.
هل هذا هو المطلوب ؟ ألم نتعلّم كيف أن الغضب لا يكفى، بل إن الثورة نفسها لم تعد تكفى.
المطلوب ألا نقف فى وجه الغضب، لكن نعرف أنه إعلان وليس حلا.
المطلوب أن نعدّ عدتنا لنفس طويل من الحوار والجدل والتحدى، حتى إذا تصادف أن تهيأنا لنقلة نوعية (الثورة) وجدنا من يرثها ويستثمرها من أصحابها، وليس ممن يركبون ظهرها لينحرفوا بها.
إن على من يشاهد التليفزيون (أى محطة حتى لو كانت منحازة لهم)، أو يسمع الأخبار، أو يقرأ المقال، ألا يهرب بإغلاق هذا أو تمزيق ذاك، أمامه أن يحدد موقفه شخصيا هنا والآن، هل هو شخصيا، ثم من يليه إلى ما لا نهاية، سوف يستمر هكذا، أم أنه سيبدأ بمحاسبة نفسه، ولتمتد الموجة إلى كل البشر.
علىّ الآن – حتى لا أخجل من كتابة هذا الكلام – أن أترجم كل هذا إلى توصيات فردية، فجماعية فسلطوية، بالتفصيل الممل،
وهذا ما قد تسنح به الفرصة فى مقال آخر.