نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 12-10-2024
السنة الثامنة عشر
العدد: 6251
ثلاثية المشى على الصراط
رواية: “مدرسة العراة” [1]
الفصل الثانى
غريب الأناضولى (1 من 3)
هذا شئ آخر..
لم أكن فى يوم من الأيام أظن أن جارى عبد السلام هذا، ذلك الموظف المسالم الغبى، سيكون السبب فى أن اكتشف هذا الكنز فى جراب سحرى لهذا الحاوى العصرى الذى يسمى نفسه طبيبا، جراب يوحى أنه يحوى كل شئ، من غطاء الكوكاكولا الصدئ حتى خاتم سليمان، هذه المجموعة لا يجمعها شئ إلا اختلافها وإشاعة خبيثة تشوه مأساة وجودنا بإطلاق أسماء أمراض غريبة على مشاعر الناس، لكنها فرصة العمر، وسوف أتفرج بلا توقف، لو أننى قرأت مليون صفحة ما أدركت طرافة وعمق ما يجرى هنا، ما يطمئننى هو يقينى بأن صومعتى هى نهاية المطاف، قرون استشعارى تمارس نشاطها فى حيوية دافقة كنت قد نسيتها من زمان، هذا أكبر من أحلامى للعيش فى ناد للعراة أو جبلاية يجرى فيها التمثيل بلا نص مسبق، فى تجربتى السابقة كان هو فقط الطبيب وأنا المريض، كان علىّ أن أشكو، أن أفسر، أن أحكى أن أعالج، أما هنا فأنا أستطيع أن أتفرج دون أن أنبس بكلمة، تحصنت خلف حواجزى المانعة بكل ما يطمئننى إلى موقفى الثابت، من ذا يجرؤ أن يتخطى ألف حاجز وحاجز من الأسلاك الشائكة والخرسانة المسلحة بداخلى؟! أضحك فى نفسى حين يحاول أحدهم الاقتراب منى، أكسبـتـنى صومعتى مناعة ضد الاقتحام كما أكسبتنى عضلة عقلى النشطة مناعة ضد الكسر، أصبحت مثل ساعات سويسرا المضمونة، موجات نظراتهم قصيرة تسقط عند قدمى بعجزها وترددها، لا أخشى إلا شيخهم الأكبر، أعلم كيف أحمى نفسى من محاولاته، مازلت على البر عواما، وسوف أظل على البر أبدا، هذا هو موقعى الثابت ولكنى سوف أحضر بانتظام حتى لو اضطررت إلى التظاهر بالمشاركة فى النقاش وتبادل لعبة الإحساس أحيانا.
رائعة هذه اللعبة: الحياة فى أنبوبة اختبار، يجتمع عدد من الناس فى عيادة طبيب، ويجربون أنواع العلاقات المختلفة، وكأنها معادلات كيميائية، تكنولوجيا الحب، والباشمهندس يحذق ضبط العدادات وتزييت القلوب، تدريبات المساء فى الإحساس بالشفاء، أتصور هذا الرجل المخدوع وهو يكتب النسخة العصرية لتذكرة داود “تذكرة عبد الحكيم نور الدين، فى هداية المحبين، إلى طريق اليقين”. أجلس بالساعات بعد ما أنصرف، استرجع ما كان وأكاد أهلك على نفسى من الضحك، منذ سنين لم أضحك هذا الضحك، أثناء جلسة تحضير الأوهام ألبس مسوح الجـِـدّ وأطرد عن ذاكرتى أى مقارنات بحركات فؤاد المهندس أو عبد المنعم مدبولى، أحيانا أخاف أن يكتشفنى أحدهم وأنا أتفرج عليهم، وخاصة شيخهم المخدوع، ربما هددنى حينئذ بالطرد أو العلاج، سوف أستمر فى هذه اللعبة بلا انقطاع، سوف أراوغ نظراته، وإن كنت على يقين أنه لا يدرك أبدا حقيقة ما يجرى، هو لا يرى إلا ما يتصور، وهو يسترزق فى جميع الأحوال.
مازال منظر فردوس المسكينة فى آخر جلسة يؤكد روعة الوهم الطبى الحديث، كانت كالفأر المذعور وهى تتحدث عن حبها لكل الناس: وتخص بالذكر الطيب ابراهيم الطيب على سبيل المثال لا الحصر، وتفضلوا سيادتكم بقبول فائق المحبة والشفاء، صاحبنا عبد السلام يتظاهر بالموافقة وداخله يرتعد خوفا من أن تفتح القطة عيونها دون استئذان، أو أن يذهب بصرها أبعد من حساباته الغبية، تعجبتُ أول مرة حين نجح أن يحضرها للعلاج، ما ذنبها هذه السيدة الطيبة؟ جارتى البلهاء؟ ما ذنبها حتى تضطر لسماع هذا اللغو وهى غاية اهتمامها حلة مسقعة؟ لماذا يفرض عليها أوهامه التفاؤلية بإمكانية الحياة، لقد استجبت أنا لدعوته لأنى وحيد، ولأنه سبق لى أن طرقت أبواب العلاج، أنا لا أعرف أين أقضى وقتى، حين يرهقنى البحث عن نظرية تائهة بين سطور مغمورة علها تنقذ العالم من الضلال، أحاول الهرب من سواد الكلمات إلى سواد الناس، أما هذه السيدة فأنا مارأيتها قط من نافذتى إلا وهى خارجة من المطبخ أو ذاهبة إليه، حتى أنى صعقت حين عرفت أنها تحمل ليسانسا فى التاريخ، عرفت السعادة يوما على وجهها حين لقيتها مصادفة على الباب تستقبل صاجات كعك العيد ووجهها معفر بالدقيق حتى بدا خداها الموردان فى حالة من البياض المتحفز، يلوح من بين ثناياه بريق عينيها اللامعتين بفرحة الأطفال مثل شعاع الشمس من وراء سحاب ناصع ساعة الأصيل، هذه هى سعادتها الحقيقية يا عبد السلام افندى، ولكنك مثل المقطف، سمعت كلام ذلك الرجل الأبله وأحضرتها تتعلم الحب، أى حب يا رجل؟، يبدو يا حاج عبد السلام أنها سوف تتقن الصنعة أكثر من تصوراتك، وربما عـَـمّ الخير، لو أنى أصلح لكان الجار أولى بالشفعة.
حين تفتحت أكمامها بيننا – حسب التعليمات – عرفت ذلك الشئ المثير فى تركيبها الأنثوى الحار وخفت عليك يا عبده يا جارى العزيز، ويحك، من أين لك بالصواريخ جو – جو؟ كيف ستلحق بها إذا حلقت هى فى سابع سماء، خاصة وأن جناحيها ينموان بسرعة أكبر من تصوراتك؟ لا أستطيع أن أنكر أنها تغيرت وإن كنت لا أعرف إلى أين، جمعنا الأتوبيس يوما ولم تكن أنت هناك يا عبد السلام، تعجبت إذ بدأتنى هى بالحديث.
= وأنت يا غريب افندى؟ سلامتك.
- لا أبدا، عبد السلام هو الذى أغرانى بالمجئ.
= ظننت العكس.
- ليس بى شئ على أى حال.
= ولماذا طاوعتـَه؟
- العلم بالشئ ولا الجهل به.
= ولكنك لا تتغير أبدا، فلماذا الغرامات.
- ومن قال إنى أريد أن أتغير، أما عن الغرامة فهنا أرخص من مسارح القطاع الخاص.
= لم أكن أعرف أن دمك خفيف هكذا.
-……….
= ولا أنك سريع الخجل، هكذا.
- لا شك أنك تغيرتِ يا فردوس هانم.
= ومع ذلك يقولون أنه ليس هذا هو المطلوب.
- لابد أن يقولوا ذلك، المهم أن تعرفى من الذى يطلب ماذا…. ولماذا….
= لا أستطيع أن أحسب مثل هذه الحسبة ولا أن أرسم خطة دون إدخال عبد السلام فيها.
-… رجل محظوظ.
= تحقد عليه وأنت الذى ترفض النعمة.
- فردوس هانم!!!!
= أنت حر.
- أنت لا تعرفيننى.
= يقولون هنا أن كل واحد مسئول عما هو فيه.
- … كلام.
= هذا ما أفهمه من تصرفك.
- تلميذة مجتهدة…. تتغيرين بسرعة.
= سأقولها حتى ولو جرحتك: أنا أشفق عليك من كل قلبى.
– رفصتـنى البقرة الرقطاء بلا إنذار.
استعدتُ توازنى وصعدت فوقها درجتين لأنظر إليها من أعلى، “ما هى إلا ذبابة حقيرة تطن حوالىّ وهى تردد مالا تعى”.
****
هل أكف عن الذهاب وأكتفى بهذا القدر من الفرجة؟ أصبحت المسألة بالنسبة لى محفوظة: طلبات أو أوامر بالإحساس، وتشكيك فى العواطف الإنسانية المتاحة، ولا حقيقة إلا الفراغ والتبعية، أكاد أفهم الآن هذه اللعبة الخطيرة وخاصة بعد أن بدأتْ تقترب منى، حتى فردوس جارتنا البلهاء تتظاهر بالفهم وتحاول علاجى!! مازلت أذكر قول طبيبى السابق أنى حر، وأنه علىّ أن أجد طريقى بنفسى، الشقاء والوحدة والحيرة واليأس هى أسس تركيبنا الإنسانى، أى محاولة للتكشيك فى ذلك هى تشويه لحقيقة الوجود البشرى الكئيب بلا معنى، العالم مقضى عليه بالفناء، ونحن نخدع أنفسنا حين نتصور أن لأى شئ معنى، ما يجرى هنا- للأسف – يحاول أن يجعل، لكل شئ معنى. ما هذا العبث؟ يـُـحـَـمـّـل الألفاظ أكثر من احتمالها، الإنسان لم يخترع الألفاظ للتفاهم فقط ولكن لتحميه من التعبير عن عواطفه بطريقة صادقة تعرض حياته للخطر، الألفاظ هى الدرع الواقى من المشاعر المهددة بفقد الوعى، فلماذا يحاولون أن يحمـّـلوها كل هذه الشحنة من الإحساس والمسئولية وكأنهم يرهقونها حتى لا تعود تحمينا، لا أنكر أنى بدأت أخشى الاقتراب أكثر وأكثر، أعداد الذين يحاولون اختراقى تتزايد، حين يلتحم البعض بصدق – على ما يبدو – أخفى نفسى فى أفكارى ولا ينقذنى من المشاركة إلا إيمانى بجنون هذا الرجل، لم أعد آمن أحدا فيهم، أنا لم آمن لأحد أبدا، أحيانا أرتاح لكمال نعمان، أو عبد السميع الأشرم، الغيبوبة التى يغطان فيها تؤكد لى خدعة الحياة الكبرى، لم أصدق فى أول الأمر أن هذا هو كمال نعمان بلحمه ودمه، كيف يكون هذا الجالس معنا فى ذهول لا ينقطع هو هو ذلك الإنسان الشاعر الرسام الذى تحمل ألفاظه كل مأساة الإنسان وخفايا الطبيعة ومافوق السحاب؟ يخيل إلى أحيانا أنه يعمل فى المخابرات العامة، يحمل آلات التصوير السرية، ويخزن الأفلام للاستعمال الشخصى على الورق الحساس، ربما كان هذا هو مصدر هذه الروائع مما نقرأ له من شعر حلو، لا شئ يستحق أن يثيره هنا، وإن كانت عيناه تتذبذبان مثل مؤشر جهاز الاستقبال لضبط الموجات، حين أنسى نفسى، يثير فىّ مشاعرى الخاصة…. ترى هل هناك سبيل إليه؟
منظر عبد السميع وهو يحاول الانتباه يثير شفقتى بحق، أشعر أنه يحاول أن ينشل البحر بقدح قهوة مثقوب، ثقبه أكبر من محيط قاعه، فى مرة تجرأت على الحديث معه.
= أستاذ عبد السميع.
- نعم.
= لماذا تأتى إلى هنا؟
- أمعائى.
= مالها؟
- تقلص دائم، نصف وقتى منصرف إلى محاولة التخلص مما بها.
= وهل استشرت طبيبا باطنيا؟
- هو الذى أرسلنى إلى هنا.
= وهل وجدت ضالتك هنا؟
- أبدا، مازال الأمر كما ترى.
= فلماذا تحضر؟
- أعجبتنى الطريقة، وعندى أمل فى الراحة.
=….. لم أسمعك تذكر أمعاءك أبدا أثناء العلاج.
- قبل مجيئك كنت أتحدث عن شكواى هذه كثيرا، نهرونى وقالوا إنى أهرب فى شكواى من نفسى، ورغم أنى لم أفهم شيئا، إلا أنى كففت عن الشكوى.
= وهل أنت موافق على هذه الطريقة؟
- الطبيب أعلم بما يفعل،
= ولكن ما يفعله إنما يفعله فيك أنت.
- ربنا خلق الطب والمرض.
= أو ليس عندك حيرة، أو قلق، أو حزن؟
- ولماذا كل هذا؟
= هذه هى البضاعة التى تعرض هنا على قدر ما أرى وأسمع.
- وأنا مالى.
= لا شئ يشغلك من هذه الأمور؟
- أبدا، تديــّـنى يحمينى من كل شر،
= هل يعطيك تدينك هذا إجابة على كل الأسئلة؟
- طبعا.
= وكيف تتحمل هذه الانفعالات والانفجارات من حولك؟،
-أشفق عليهم واستغفر الله العظيم من الكفر والضلال.
=….هم يتخطون الحدود كما ترى.
- ليس على المريض حرج.
= أستاذ عبد السميع.
- نعم.
= أدع لى.
- حاضر.
- يا أخينا، أنا أسخر منك، أحاول أن أثيرك.أنا لا أومن بهذا التسليم، ولا هذا الأمل، ولا هذا الدعاء، ولا شئ.
- يشفينا الله ويشفى المسلمين.
= خل بالك، هذه الدعوة لا تجوز على ملكة وغالى، فهم على غير الملة.
- رحمة الله واسعة، وهم من أهل الكتاب.
= استاذ عبد السميع !!.
- نعم.
= لا شئ،
ما هذا البله العظيم؟ أمان هذا أم تخدير عام؟ أهذه هى الحياة التى دعوتنى أن أطرق بابها يا عبد السلام أفندى يا مخرف؟ أكثر الله خيرك، رأيت مازاد إيمانى باليأس طريقا أوحد للحياة الصادقة.
****
كنت قد قررت أن تكون تلك المرة، هى آخر مرة، فما الذى جاء بى إلى هنا من جديد؟ اللعبة وحفظتها، أستطيع أن أجيب بدل أى واحد منهم نفس الإجابة وبنفس الألفاظ قبل أن ينطقها هو، خدعة هؤلاء البشر أكبر من كل ضلالات التاريخ، هذا الطبيب بائع أوهام يحطم وحدته بإملاء أفكاره، والذى يتنازل عن ذاته ويفقد وعيه يحصل على لقب “صحيح” بتقدير “متطور”، وأحيانا بتقدير ”حر”، وأحيانا يتقلد ”نيشان الببغاوية” من الدرجة الأولى، الآخرون يبذلون قصارى جهدهم فى الحفاظ على معالمهم، لكنهم مازالوا يحضرون مثل حالاتى، ما الذى أتى بى اليوم بعد أن عرفت كل ما عرفت؟
هذا الشيخ يدّعى الطب، حلمت به الليلة لأول مرة، ظهر فى الحلم كحيوان الكنغر له كيس من لحم أمام بطنه، طلبت منه أن أختبئ فيه من نمور تتبعنى، أمسكنى من عنقى حتى كدت أختنق ووضعنى فيه بلا رحمة، فوجئت بثعبان يقبع داخله، لم يعضنى الثعبان لكن ملمسه الناعم وحركة جسده اللزجة الزاحفة على جسمى كانت أبشع من الموت ذاته، أنيابه ظلت تتراقص أمامى كألسنة اللهب دون أن تقترب منى، صحوت فزعا وحاولت أن أنسى الحلم دون جدوى.
هل أتجرأ وأحكى لكم عن…..؟ طبعا لن أحكى، أنا لا أحس بالأمان إلا مع ابراهيم الطيب أحيانا، قد أجد اهتماما عابرا فى نظرات عبد السلام، على الرغم من أن أيهما لا يردد إلا ما يقوله شيخ الحلقة، يعنى، أحس حواجزى الشائكة بطبقاتها الأسمنتية ترق بالرغم منى، لابد وأن اعترف بأنى موشك على الوقوع فيما أحذر منه طول حياتى، لا، لن يحدث هذا أبدا، أنا عرفت طريقى إلى صومعة يأسى بعد عمر شقى رائع، لن أتنازل عن ذاتى ولو كان الثمن هو الموت نفسه.
لماذا أتيتُ هذه المرة أيضا؟ ولماذا أتيت أصلا؟
الوجه الذى تراءى لى وأنا قادم فى الاتوبيس وانتظرت أن أراه فور حضورى هو وجه نجوى شعبان، جمال هذه المرأة يتحدانى فى كثير من الأحيان، مازالت غامضة بالنسبة لى، ثقافتها أكبر من وظيفتها بمطار القاهرة، عنايتها بجسمها لا تتفق مع صدق أحاسيسها التى تفزعنى، لم أستطع أن أكتفى بالفرجه عليها، تحرك داخلى الجسدى وهى فى قمة انفعالها بالبكاء، إثارتى كانت من نوع آخر مثل أيام البلوغ الأولى، لم تكن دموع امرأة مسكينة أو مستعطفة، كانت دموعا مشعة بالقدرة والتقبل فى نفس الوقت.
لابد أن أعترف أن هذا الرجل يبدو لى أحيانا مثل الحاوى حين أفاجأ بأنه يحرّك خليطا من المشاعر مما لم أعهد تجمعها معا حتى بين صفحات الكتب، لعلى حضرت اليوم من أجلها، لا أظن، أحيانا أشعر أنها تلعب نفس اللعبة السخيفة، تستدرجنى بالدلال والإثارة حتى الموت، لكنها تفعل نفس الشئ مع الآخرين، هذه هى إضافات البدعة الجديدة: “حب الكل رغم الارتباط بواحد”، لا يقدر على القدرة إلا الله، لن أدخل السجن برجلى ولو كان فى الداخل جنة هى حوريتها وهذا الطبيب رضوانها،
فشلها الأول لا يعنى رفضها للعلاقات الامتلاكية، قد يعنى خيبتها فى إحكام الأقفال، لن يمتكلنى أحد، لا طبيب ولا امرأة، ولا رجل، إن كان ثمة حقيقة فيما يقال هنا فهى أنه لا يوجد حب بين أحد وأحد، هو احتياج ملتهم يتخفى وراء ألفاظ جديدة، يدعون وجود حب آخر يشمل الرجل والمرأة على حد سواء، عبث ما بعده عبث، يحاولون أن يخففوا من هول الجمود الذى نعيشه بالتلويح بالأمل فيما لا يكون، هذه الكلمة “الحب” سوف تنزع من القواميس ويكتب فى تاريخها أنها أكبر خدعة اخترعها الإنسان، على هذا الرجل أن يثبت لنا حقنا فى اليأس من كل شئ إن كان صادقا، إذن لآمنت به دون تردد، إنه لا يفعل شيئا إلا أن يلوح بأشياء لا وجود لها وهو يحطم الأصنام جميعا حتى لا يبقى إلا صنمه هو، وقرآنه هو، يسمى صنمه الصحة كما يسمى قرآنه التطور،
بالله عليك يا عبد السلام تسأل فردوس عن فائدة هذا الكلام فى صناعة حلة المسقعة أو شطف غيار العيال، حين كنت استغرق فى القراءة كنت أستطيع أن أتصور هذا الحب الذى يحكون عنه، الانسان أخ للانسان فى كل مكان، يمكن أن تصنع من هذه الألفاظ بيت شعر سخيف، أو تضعها نصيحة فى خطبة جمعة فاترة، أو تعلقها على لافتة فى استقبال رئيس دولة كذاب، أما أن تحاول أن تجسد هذا الكلام لحما ودما فأنت تبيع الوهم، لا مانع من أن تحلم بأن يحب الإنسان الإنسان، ولكن “عادلا” لا يحب “سعادا”، فماذا تريدين منى يانجوى ياشعبان؟
- هل قررت شيئا يا غريب؟
= ماذا تعنين على وجه التحديد يا نجوى؟
- أراك هذه الأيام لا تستطيع أن تحكم تماسكك.
= قرارى قديم ولا قوة فى الدنيا تستطيع أن تغيره.
- القرار يتغير أحيانا من خلف ظهورنا، ونحن لا نختار إلا الفرصة التى تسمح له بالظهور.
= تعلمتم جميعا الحكمة فى مدرسة نور الدين التجريبية، حتى فردوس جارتنا التوى لسانها، والذى كان قد كان.
- لماذا تــُـرجع كل شئ إليه؟
= لأن الجمل والألفاظ، وأحيانا تعبيرات الوجه تتشابه بشكل مزعج.
- خلقنا الله من نفس واحدة.
= وخلق منها زوجها ليسكن إليها!!، أليس كذلك؟
- خوفـك يصور لك أن المصائد تتربص بك طول الوقت.
= أنا مَلِكُ مملكتى.
- إن كان لك مملكة.
= هى ذاتى بلا زيادة ولا نقصان.
- أنت تدور بداخلها طول الوقت.
= أقف بطريقتى، وأمشى على مزاجى.
- محلك سر، تدور على شرط ألا يتغير قرارك.
= طبعا.
- هل أنت سعيد بهذا؟
= كفى خداعا يا نجوى، التلويح بالسعادة هو المخدر الحديث، والأطباء الأرزقية يحسنون استعماله كما ترين.
- وما البديل؟
= إعلان اليأس التام.
- هل هذا هو قرارك؟
= تماما.
- لماذا تخاف الأمل؟
= لأنى عاقل، تعلمت من تجاربى المرة، طلقت الألفاظ الفارغة من حياتى، لم أعد أحتاج إلى الكذب حتى ولو غلفته المصطلحات الحديثة، أو وزعوه بالبطاقات فى عيادات الأطباء.
- بغير الرجاء لا نعيش.
= الواقع العظيم يقول: لا جدوى أصلا.
- تقترح إلغاء الأمل من حياتنا بقرار رسمى.
= الخدمة الحقيقية التى يمكن أن يقدمها هؤلاء الأطباء إن صدقوا مع أنفسهم هو أن يعلنوا فشلهم، أن يصدروا مرسوما طبيا يسحب الآمال جميعا، حينئذ يعيش الناس فى الواقع، ويسعون فى بله إلى اللاشئ مثل أجدادهم وأبناء عمومتهم من الفيلة أو النمل الأبيض.
– ومن قال لك أن الفيلة والنمل الأبض يسعون فى بله.
= أنا الذى أقول ذلك.
- وهل كل ما تقوله هو كل الحقيقة؟ حياة الإنسان طاحنة، ووعيه بها مرعب.
= هذا المرسوم، الذى أقترحه بإعلان اليأس الشامل، سيبطل مفعول هذا الوعى الغبى، سيوقف الجرى وراء المستحيل.
- ونستسلم للسحق والقهر؟
= حين تدوسين النمل بحذائك مصادفة لا تتوقف بقية المجموعة عن جر لقمة العيش إلى جحرها بلا حركات ميلودرامية، ولا هرب فى المستحيل، وبهذا تحافظ على نفسها من الانقراض.
- بشع، بشع، بشع.
= صدقينى يا نجوى.
- بشع، وكئيب، وغبى.
= الآن تقتربين من حقيقة الحياة.
- مرارتك سوداء، حتى لأكاد أيأس.
= الآن يصبح للعلاج معنى، هيا بنا للجلسة.
****
ونواصل الأسبوع القادم استكمال الفصل الثانى “غريب الأناضولى”
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “مدرسة العراة” الجزء الثانى من “ثلاثية المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1977، الطبعة الثانية 2005، الطبعة الثالثة 2019) والرواية متاحة فى مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية – المقطم – القاهرة.