نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 12 -4-2025
السنة الثامنة عشر
العدد: 6433
ثلاثية المشى على الصراط
رواية: “مدرسة العراة” [1]
الفصل الحادى عشر
إبراهيم الطيب (1 من 2)
-1-
كلما اقتربت من نهاية مرحلة ما – أو خيل إلى ذلك – أحسست بخطورة الرحلة بلا نهاية، لا بد من اليقظة المستمرة حتى لا يستدرجنى أى بديل مهما بدا براقا سهلا، أخذت دورا أكبر من قدرتى…. أخذته بكامل وعيى وحسب رؤيتى، وأعتقد أنى قمت وأقوم به بكفاءة، ترى هل هذا الدور هو أنا؟ ألا يمكن أن يلهينى عن حقى فى الحياة؟ هذا هو الخطر القائم المهدد، منتبه إليه ملء وعيى… لكنى لست مترددا ولا متراجعا، يبدو أنه ليس عندى بديل.
وحيد تماما، بالرغم من أنى أشعر أن نبض الحياة فى داخلى يكفى لأن يدفع بعجلة الناس- كل الناس- إلى نهاية المطاف، المطاف الذى لا أعرف له نهاية، أتساءل لماذا لا يدفع عجلتى أنا أولا، أحيانا أحس أن عجلتى تلف مثل “كورونا” السيارة لتدفع بهذه اللفات عجلاتهم إلى الأمام، هل تكون هذه الحركة ذاتها انتقال بى إلى الأمام ضمنا؟،
وهـْمٌ آخر أخشى الوقوع فيه، لا أحد يدرى ما بى، ربما لا أريد أن يدرى بى أحد، كل واحد منهم يتصور أنه يستمد منى شيئا ما، أجد فى هذا ما يبرر استمرارى، أغلبهم يطمئن لوجودى، يثقون فى، هكذا يخيل لى… ولكنى أزداد وحدة حين تخطر على بالى حقيقة موقفى، وأن أحدا منهم لا يرانى كما أنا، ومع ذلك فأنا أحبهم، وهل أملك إلا هذا؟ تبدو حياتى فى حبهم وحب من هم مثلهم ومن ليسوا مثلهم، فقط أريد أن أحب نفسى بنفس القدر ونفس الوضوح، “أن تـُحـِب” هذه ثروة أخرى أرحب وأدوَم.
أكرمونى بكل ذلك…. ولكنهم قيدونى قيدا عنيفا لا أعلم كيف السبيل إلى أن أتخلص منه، ولا متى، تـُرى هل سيستمر الأمر هكذا إلى نهاية المطاف؟ جاهز أنا لحملكم من أول فردوس الطبلاوى حتى عبد السميع الأشرم، حتى غريب نفسه لم يتنازل عن ذاته تلك المرة إلا وأنا أحيط به، كل هذا يعطى معنى لوجودى، أحس أن بقائى على هذه الأرض – رغم كل شئ – هو مفيد بشكل ما، ألا يعطينى هذا الحق فى أن أستمر، بل الفرحة فى أنى مستمر.
أرجع أتساءل: هل هو حقى أم واجبى؟ أحس أن الفرق ليس كبيرا، لا أشعر بحقى فى الحياة إلا من خلال تواجدى معهم، فأين حقى الذى اكتسبته بالولادة، هل نسيت أمى أن تعطينيه؟ هل ضاع بين اللفائف والضجة وبقايا الأشياء؟ هل أخذه الناس خطأ قبل أن أتعرف عليه أنا صاحبه الأول؟
وحيد حتى القاع، وحيد فوق القمة، وحيد معهم وبهم ولهم، لا مانع، هى البداية غالباً، وسأظل وحيدا حتى يرانى أحدهم دون أن يستدرجنى إلى لعبة البيع والشراء، دون أن يمصمص شفتيه، دون أن يجرجرنى إلى الوراء طلبا للراحة، دون أن يرفعنى على كتفه أو يقفز فوق رأسى ويدلى قدميه حول رقبتى، وحيد معك أنت شخصيا يا شيخى الطيب، لن أنكر فضلك ما حييت حتى لو لم أتقدم خطوة عما أنا فيه، كان موقفك هو مفتاح هذه المرحلة التى أخوضها بكل ألمها وقسوتها وعبثها وروعتها، لم تـُشـَوِّه زوجتى الداعرة، ولم تصفها بذلك، أنا الجبان الذى كررت ذلك مرارا، جئتك وفى قلبى حقد العالمين ولم يكن قد تبقى إلا الترتيبات النهائية حتى أقبض روحها حقيقة لا مجازا، ماذا بعد الخيانة؟ الكذب والخديعة يخرجان لى لسانهما فى مرآة الحمام…. وزجاج الأتوبيس، وشمع الأرضية، صورتها تبصق فى وجهى والأطفال فى الشارع يشيرون إلى هاتفين “أبو خليل، أبو لبن” “كرباج ورا يا اسطي” قرأت ذلك فى نظراتهم، لم يصل بى الحال إلى سماع مالا يقال، ولكن الخيانة أكبر من احتمالى، وياليتها خيانة فيها قصة حب أو أى قصة مما نسمع عنها، كانت مجرد خيانة مفتوحة النهاية، كيف لم أشك فيها قبل ذلك؟ جئتـك يا رجل لتصدمنى بحقيقة أن الحكاية – مثل كل حكاية – تبدأ بداخلى أنا: تعلمت معنى آخر لكلمة “المومس”، اكتشفت أن أى علاقة غير صادقة هى علاقة مومسية، جاءنى اليقين من خلالك حتى كدت أشكر زوجتى المسكينه أنها صدتنى بهذا الوضوح بدلا من أن تواصل ممارسة معى نفس العلاقة بورقتنا المشروعة فأظل مسحورا منوما حتى الموت، رحمتنى معرفة هذه الحقيقة من الانسياق وراء مبررات القتل والانتقام التى كان يمكن ألا يكون أمامى غيرها، لكنها فتحت على أبوابا لا قبل لى بها، ورؤية لا يحتملها أحد لكنها حقى بلا شك، وشرف وجودى.
أوقفتنى يا شيخنا على الأرض عاريا معزولا، نزعت منى سلاح الانتقام والبكاء على الظلم والاضطهاد، هأنذا أمضى عاريا: جلدى ينزف وجرحى يفرز الصديد، والناس من حولى تلوّح لى بحقى فى الحياة، حقنا، ربما وأنا معهم، لست متأكدا، هل يكفينى هذا حتى الموت؟ كيف أكسر وحدتى يا شيخى الطيب؟ وعيناك تحذرنى من الاعتماد عليك، تخشى أن أتخذك بديلا عن نفسى؟ ولكنك أيضا أوقعتنى فيما ترى.
أنت تحيرنى يا شيخى، ماذا فعلت بوحدتك أنت، لعلك وحيد وحدتى وأكثر، هل ياترى لك جرح مثل جرحى؟ ما الذى رماك على الناس هكذا إلا قلة الناس، أكاد أقسم أنى أعرفك ولا أملك لك شيئا سوى هذه المعرفة، هذه العلاقة الصامتة تعطى لحياتى معنى آخر ولعلها تعنى لك شيئا حقيقيا، دون أن نعلنها يتهموننى أحيانا أننى مساعدك مثل إصلاح فاضل وأتمنى أحيانا أن أكون مساعدك فعلا، لو أن لى مثل مهنتك لاختبأت فيها بقية حياتى غير ملتفت إلى وحدتى وألمى أصلا، ولا مانع من الارتزاق على الماشى، أشك فيك أحيانا ولا أراك إلا حرفيا ماهرا، أعود وأراجع نفسى وأتساءل: وماذا فى ذلك؟ أليست حرفتك هى التى ضمدت جرحى فى نفس الوقت رغم أنه ما يزال ينزف؟ إلا أنى واقف أمسح ما يتراكم عليه بشجاعة عاشق الحياة المزمن؟ أحسدك على حرفتك وأشفق عليك منها، ربما تضطرك إلى نسيان نفسك بقية حياتك، أما أنا فمضطر لكسر وحدتى مهما استغرقت فى مساعدتهم، فرصتى أفضل منك، سأعطى نفسى لهم فترة موقوته تؤكد لى قدرتى، ثم أنطلق منها إلى… إلى… إلى أين؟ إلى ما يمكن بدءًا بنفسى! ولكن كيف؟ أحيانا أتصورك مريضا مثلنا سواء بسواء، لافرق بيننا إلا أننا ندفع وأنك تقبض، أنا أصارع وحدتى ليل نهار فماذا تفعل أنت؟ أنا أتقبل ما يلوح من حبهم بصبر وحذر حتى دون قصد منهم، هو يثرينى بما يناسب حاجتى، أعطيهم ما يريدون ولكنى لا أخدع نفسى، وأرتفع فوقهم.
لا أستطيع أن أميز من هو الأصعب فيهم، أحترم محاولات فردوس برغم ظاهر استسهالها:
- ابراهيم لا تبدو واثقا هكذا والا حسبـتــك ”مـَلـَكة”.
= هذا طريق أعرفه تماما يا فردوس…… ليس تماما تماما، ولكنى أعرف ضرورته وأنه ليس لى إلا السير فيه، أنا لا أكذب عليك يا فردوس ولا على غيرك حين أقول أنى أعرفه تماما لا أعنى ذلك تماما، لا أحد يعرف طريقه تماما، ثم هل ترين لى طريقا آخر؟.
- أنا أحبك يا ابراهيم،
= وأنا أيضا يا فردوس
- يا نهارأسود.
= ليس أسود من قلوب الحقد
أحبك يا فردوس، وأحب نجوى وبسمة ومختار وشيخنا الطبيب،.. ما المانع؟ هذا رغم وحدتى الشائكة، أو بسببها يا فردوس، هل أمامى شئ آخر غير أن أحب؟ الكذب هو الحرام الأوحد يا فردوس فلا تهربى من خوفك، غاية ما يمكن أن نحققه هو أن أراك بحجمك وترينى كما أنا، زوجك عبد السلام لا يعرف لك معالم، هو لذلك يكاد يغرق فى بحرك الصقيع، لو أنك فهمت معنى ما تقولين وأن عبد السلام يحاول مثلك إليك وإلينا، إذن لانكسرت قوقعة وِحْدتى وأمِنـْتُ للعالم من خلالكما، وحدتى قاسية والفرصة أمامك أكبر وأعمق، عبد السلام صبور رائع، لم ينسحب بغباء الجبناء، عفارم عليك يا عبد السلام، أتمنى لو صبرت عليها أكثر وأن تراها أكمل، تراها معنا ومعك أقرب.
- ألا تخاف مما تقوله يا إبراهيم؟
= بل أخاف مما لا أقوله، يا فردوس
- وعبد السلام ؟
= هو مثلك يا فردوس بالنسبة لى، بل لعلى أحبه أكثر.
****
= ماذا تفعل يا عبد السلام وحدك؟،
- الألفاظ لا تسعفنى يا إبراهيم فهل تعرف مابى؟،
= الأطفال جوعى للمسة عطف.
- والنساء لا يحتملن الحرية أو الانتظار.
= والرجال أكثر،
كيف أحتمل أنا الحرية والانتظار؟! جرحِى ينبض بألم رائع، كيف أعيش إلا بكم؟ حسابات شيخى الطيب تلزمنى بالمسئولية عن كل ما جرى وما يجرى، آمنت بها حتى حسبتها حساباتى فزالت كل نوازع الانتقام، كلما غمرتنى آلامى حتى تكاد تثور علىّ فجأة فأكاد أنسى كل شئ، أجرى نحوكم لاهثا أرتمى فى أحضانكم لأصدق وجودكم حوالىّ، جرحى غائر يا عبد السلام، ومتقيح ورائحته نافذة، هو هو الذى أتى بى هنا إليك يا عبد السلام، وإلى فردوس، وإلى كل الناس، خطيئتها ليست فوق الغفران ولكنى أصبحت الآن شيئا آخر، وأنت تعلم يا عبد السلام ماذا تعنى المحاولة، لم أستطع أن أستسلم لها فانقطعت خطوط الاتصال بيننا، لعبة الضياع ليس فيها كبير مهما اختلفت المعايير، من منا يا ترى وجد بغيته دون خداع؟ هى راحت تتدهور علانية، تزداد عمى وتزداد امتهانا لنفسها وتزداد بلادة، لم تعد تفهم أبسط العبارات ويبدو أنه لا أمل – فى مجال بصرى – فى إيقاظها، وأنا من يفهمنى لى؟ حتى بينكم، مع أنى أتصور أنى أفهمكم مجتهدا “معاً”.
حتى الشيخ الحكيم نفسه لا أجرؤ على خوض بحره وحدى، أخشى أن ينغلق عالمى عليه فلا يشعر بى إلا هو، أنتظر اصطحاب أحدكم إليه، أخاف أن أضع بيضى كله فى سلته، من يدرى فقد يكسرها فى لفتة هنا أو سهوة هناك – حتى بلا قصد، أنتم أهم عندى منه، وأنا أهم من الجميع، يا ليت!!، ياليتنى أصدق نفسى، إياك يا عبد السلام أن تتوقف عن المحاولة مع فردوس، ليست الشطارة فى أن تكتشف خدعة الحياة، ولكن أن تتحمل مسئولية اكتشافك.
تبينت دون قصد كيف كانت علاقتى مع “عزيزة” كاذبة مرهقة ثقيلة طوال سنوات طويلة، كان اكتشافا متسلسلا هادئا اتخذ شكل الضجر الثقيل المـُمـِلّ، حتى انتهيت إلى أن شيئا ما فى حياتنا لابد وأن يتغير، وما إن تراجعت بضعة خطوات، أنظم فيها صفوفى وأعود إليها لنبدأ من جديد حتى تبعثرت اللعبة كلها.
انتقل الضجر المر والابتعاد البطىء إلى إعلان الشرخ الذى ظهر بيننا: عميقا متزايدا معلـنا عن الأخدود القابع فى حياتنا من داخل الداخل…. ابتعدت أكثر ونسيت كل شئ إلا استحالة الاستمرار، كنت أتصور أنى أنتظر أن ترى صدقى وصبرى- فتحاول أن ترى الجانب الآخر، لم تستطع الانتظار، سرعان ما وجدتـْهـُم فى كل مكان، لم أنتبه إلا مصادفة، وهأنذا أدفع الثمن، وما أغلاه يا عبد السلام، فلا تفعل مثلى يا أخى، الله يسترك ويسعدك، لا تترك فردوس ولا تستسلم لها، كيف؟ لست أدرى، لا تفعل مثلى والسلام، ياليتنى أساعدكما فيما عجزت عنه أنا، ربما كان ينقصنا أنا وعزيزة ثالث أمين، فلأ كن لكما هذا الثالث الأمين فأكفر عن خطئ وألطف جرحى بنجاحكما،ونجاحنا، ياليت يا عبد السلام، ويا إصلاح، ويا شيخى ويا غريب، ياليت.
لماذا كل هذا يا غريب بالله عليك؟ مصيبتك كبيرة وأنا أعرف ذلك، ربما مصيبتى أكبر، ابتسامتى الواثقة، وجنونى المحب، ليسا دليلا على أنى أعب من نهر التفاؤل دون حساب، هما علامتا إصرارى على ألا أستسلم لهذه الوحدة القاسية، أنا وحيد مثلك وربما أكثر، جرحى لم يلتئم بعد، أنا هنا بجوارك يا غبى… صدق أو لا تصدق، موقفى منك يعطى حياتى معنى وأنا فى قاع الهجر والنبذ، إياك أن تحسب أنى أعطيتك شيئا من فضل، أنت تعطينى أيضاً، وربما أكثر، لو قبلت اجتهادى ومحاولتى.
آه لو تسمعنى يا غريب يا أخى، ماذا فعلت بوحدتك حتى تاريخه يا غبى؟ أنا وحيد مصارع، أما أنت فوحيد تدعى الحكمة بالاستسلام قبل أن تحاول أصلا، الجبن ليس وراءه إلا الصقيع، والخيال المر، الوحدة! لا مفر من محاولة كسرها، حتى لو ظللنا نحاول يا أخى ونحن بداخلها مدى الحياة، قد يكفينا شرف صدق المحاولة.
المسألة تستأهل، أنت يا غريب تمضغ الزجاج المكسور وتشرب ماء النار، وتجعل الحروف التى تقرؤها تدخل فى عينيك كأسنة الدبابيس! ثم ماذا يا رجل؟ ثم ماذا؟ لا أنت قادر على الموت والتبلد، ولا أنت تريد أن تحاول معى معنا، يدى ممدوة لك وقلبى مفتوح ووحدتى أكبر من وحدتك، فقط: خوفى أقل، لتعش معى هذا الخوف ونحن نحاول بصدق، ليست دموعا ما ترى فى عينىّ، هى قطر الندى الذى يطهرنا من أوزار الوحدة، أراها وراء مقلتيك بعيدا بعيدا، فلا تحبسها، الضعف ليس عيبا ولكن العار كل العار فى هذه الحياة هو الشقاء، الشقاء جريمة، غول نذل غبى، هو سبة حياتنا مهما أقمنا حوله من أضرحة وقدمنا إليه من قرابين، المصيبة فى هذه الجريمة، ”جريمة الشقاء”، هى أن الجانى هو هو المجنى عليه والشهود الذين يحضرون ساحة الإعدام يدرجون فى كشف العدم حتى يأتى دورهم، وهم يسيرون فى طوابير الوحدة الجبانة، وليس الوحدة البداية الممتلئة طول الوقت بالمحاولات.
حين تركت نفسك بيننا يا غريب ذلك اليوم وتفجر مخزونك صادقا مرعباً: أيقظت فينا أملا حقيقيا أن نتواجد معا دون أن يلتهم بعضنا بعضا، حسدتك يومها على شجاعتك وتمنيت أن يأتى علىّ الدور لأفعلها فى حضنك، فى ظل أمانك، حسبت أنك ستحتفظ بها ولكنك تراجعت بعدها مباشرة يا غريب، لملمت نفسك وتراجعت إلى أبعد مما كنت، لماذا يا غريب؟ ماذا أخافك يا أخى؟ ماذا حجر على وجودك؟ من أرعبك من حقك فى الحياة؟ من يومها تركتنا وحيدا كما جئتَ وأصعب.
وحدتى غير وحدتك يا غريب، قلت لك، أنا مازلت أحاول مع غيرك، ومع نفسى، فماذا تفعل أنت يا غريب، أسمع جَـرْس كسر الزجاج يملأ فمك وأنت تمضغ الألم وحدك، أرى قطرات الدماء تقطر من عينيك من فرط صدق القراءة، ماذا أفعل لك؟، لو كنت أعلم ما يبرر كل هذا لعذرتك فى أن تنجو بجلدك من أى التهام أو مساومة، لو كنت قد استمررت مع زوجتى وحدنا مع عجزى عن قتلها لاستمرت حياتى مثلك وألعن، أنت تركت المحاولة أصلا وجعلت كل الناس مثل بعضهم البعض كما يصورهم لك خوفك الغبى، حتى فى عز سخريتك اللاذعة المهاجـِمة كنت أرى الدم يتسحب على خديك ثم يتساقط من شدقيك، وحول قلبك، وتحت جلدك، أنت عارٍ وداخلك ينضح بالمشاعر وطلب النجدة بالرغم منك، لستُ غبيا حتى أضيع وقتى معك، لا سبيل إليك الآن، أشك فى قدرتك على النسيان، أنا فى انتظارك رغم أنفك، فمتى وأين ألقاك؟! لو لم تستسلم للغباء الأكبر وتختفى تحت التراب فلسوف نلتقى حتما.
- غريب يا إبراهيم
= ماله يا عبد السلام؟ ، لم نره من زمان.
- هو جارى كما تعلم وهو هذه الأيام فى حال.
= ماله يا عبد السلام؟
- شئ ما قد حدث له بعد فقد صديقة عزيزة عليه، شئ يبدو خطيرا، لا أفهمه جيدا، ولكنه يتكلم عن الهجرة إلى أستراليا، وعن حضن التراب، وعن أشياء غريبة أخرى، وقد أصابه الهزال بدرجة مخيفة.
= ما هذا يا عبد السلام، أنا أنتظره، أعتقد أنه سيعود إلينا
- أكاد أحس أنه ينتظرك أيضا، ولكن لا سبيل إليه فهو يكاد يقتل من يقترب منه.
= هل كتب علينا يا عبد السلام أن نتفرج على بعضنا البعض بقية حياتنا.
- حواجز الخوف المسلحة لا تـُفتح إلا لمن ينسفها.
= هذا يزيد من إصرارى على المحاولة.
- إياك أن تفقد حساباتك، أو تتهور.
= لو كان معنا الآن,… ربما.
- ولا ربما ولا غيره، لا يخدعك أملك، الحواجز قائمة قائمة حتى ونحن مع بعضنا، لو كان هناك شئ يـُعمل قهرا لـمـن فى متناولك لعملتـه لزوجتك.
= ولكنها وجدت مخدرا يخفى وحدتها، أما غريب فيعيش بلا مخدر.
- المخدرات المغشوشة تضاعف من الوحدة لا تكسرها.
= أعلم، للأسف.
- لا سبيل للأسف يا إبراهيم.
= وما السبيل إذن؟
- السبيل هو تحقيق الممكن.
= ولكن المستحيل هو الممكن الوحيد الذى ينفع.
- أعلم ذلك، فليكن السعى إليه هو تحقيقه.
=……. على شرط أن نصل يوما ما.
- يوما ما.
-2-
ما أقساك يا مختار وأروعك، رأيتنى كما أنا غير رؤية الآخرين لى، ربما لأنك أقل من أخذ منى، أنا لا أكتمك الحقيقة إذ أقول لك إنى أخذت منك أكثر مما أخذت منهم جميعا، رؤيتك لى زادى وأملى، رأيتنى كما أنا ولكنك توقفت بعد إعلان بيانك القاسى الصادق، أخذت أتساءل هل كنت ترانى أم ترى خوفك منى؟ حسبتها بداية علاقة أفتقر إليها من قديم، لا علاقة إلا برؤية صادقة مسئولة، رؤيتك صادقة بلا شك ولكنها ليست مسئولة، ألم تسمعنى يا مختار، وأنا أستنقذ بك بملء وحدتى وألمى.
- أنا الوحيد الذى أفهمك، أنت تعلم ذلك يا إبراهيم
- يجوز، أنا أنتظر هذه اللحظة منذ سنين، لكننى لا أستسلم لفهمك، تكفينى صدق محاولتك.
لكنها اللحظة التى لم تأت أبداً يا مختار، لوَّحـْتَ بها ثم ألقيتـنى معها بعيدا ونعتنى بأبشع الصفات، كانت تلك نقطة بدايتى ولكنك تركتنى وحيدا ملطخا بصدقك، كنت ترانى لك ليس لى، ياليتك علمت كم أنا محتاج لرؤيتك، أنت قلتها لتحمى بها نفسك من الجانب الآخر لوجودى، أنا جبان كما قلت تماما، ولكن ليس “فقط”، خشيتَ أن تقترب بعد بيان الهجوم الصادق، خشيتَ أن ترى الجانب الآخر فتضطر للحياة، تساؤلك عن سبب وجودك هنا يصلنى واضحا صارخا، أنا أقول لك فى السر إنك هنا لأنك ملطخ أيضا، وجودك يعنى أنك تحاول كسر وحدتك بالرغم من كل دعواك، كل منا هنا ليكسر وحدته وإن اختلفت الطريقة، أنا بالخوف ومد يد المساعدة على ما قـُسم، وأنت بالإشعاعات الجنسية تحت شعار الحرية، لم أنجح فى الوصول إلى ذاتى أو كسر حواجزى ولم أخدع نفسى، أما أنت، ماذا فعلت أنت؟ قلبى يحدثنى أنك أبأس الناس وأشقاهم رغم بريق حديثك وسحر استغنائك، غريب رأيته أثناء تفجره وعقدت معه معاهدة بلا توقيت، أما أنت فمختبئ دائما وراء ضباب أحلامك، قشرة غريب من فولاذ، ولكنها تغرينى بكسرها لأن لها ملمس صلب، أما قشرتك فرخوة تنسجها من جو حالم يغلفك بلا أمل فى اختراقه من فرط طراوته واهتزازه، تترجم كل ما يدور حولك إلى رموز خاصة تعينك على ندف الصوف من حولك حتى لا يراك أحد إلا فى غمامة من الإدعاء، تنسى أنك أرق من ذوقك الكاذب، وأبأس من صوتك الحالم، وأكثر وحدة حتى من غريب ومنى، حتى غريب له صاحب، إنه يصاحب الكلمات ولو فقأتْ عينيه “دبابيس” الحروف، أنت لا تدرك إلا ما فى عقلك، وعقلك ليس به شئ إلا صوتك الرخو وما نفستو حقوق الإنسان عن الحرية والمساواة، أنت لا تكاد تسمع حتى صوتك وأنت تتحدث عن الحرية، ياليت ما تقوله وما تريده ممكنا يا أخى، لو كان كذلك لكنت أول الحاجزين فى جنتك، هل هناك أروع من الحرية بلا شروط؟ والأخذ والعطاء بلا بيع أو شراء؟ والاختيار للفرد بلا خداع أو إملاء؟، ولكن كيف يا مختار؟ جـَنـَّتـُك تؤجل رفع الستار باستمرار إلى العرض القادم، ما يجرى وراء الكواليس لا يبشر بخير، كيف تلوّح للأطفال بحرية لا تستطيع أنت تحقيقها؟ كيف تحمّـل الرضَّع مسئولية الانتحار؟ كيف تغرى الجوعى بأكل السم، ثم تتركهم يـَتـَلـَوّوُن ذات اليمين وذات اليسار يدفعون ثمن جوعهم الحر؟ ما أسهل الحلم يا مختار، وما أصعب تحقيقه، قبلت رؤيتك لى وسعدت بها فهى بعض ما هو أنا، تركتنى أتمرغ فى جبنى وادعائى وحدى، ألعق الدم والصديد من جرحى الغائر، ما أصدقك حين قلت لى:” كبتك وخوفك يحبس الأطفال فى مهودها حتى تكاد تموت من الشلل والرعب”، أنا لا أكتمك شوقى للجرى عاريا والبزازة فى فمى، فهل تضمن لى ألا يطلقون على النار؟ لن تدفعنى وحدتى للاستسلام لأحلامك ولن أكون حتى مثل غريب، ولا مثلك، ولا مثل أحد.
تـرى ماذا فعلت أنت بوحدتك؟ أراها وراء مجيئك إلى هنا، ولكن ماذا بعد مجيئك؟ هل جئت تحكم الرباط على عينيك؟ ترى هل يكسرها استجابتهن لك؟ ياليتك تواجه نفسك بشجاعة الفرسان، إذا كنت قد نجحت فأنا أول أتباعك، تقول إنك لا تحتاج أتباعا وأنك لست صاحب دعوة، أليس هذا القول فى حد ذاته دعوة يا أخى؟ يا شريك وحدتى على القطب المتجمد الآخر، أُمـْسـِكُ بخطاطيفى وألقى بها حيثما اتفق والجليد يخوننى فى كل مرة، أتصبب عرقا وأتلفت فى كل اتجاه لعل خطافى يشبك فى شجرة أو صخرة مدببة، لابد أن أسعى بعيدا عن الصقيع، يصاب بعض الأحياء أثناء محاولاتى الملهوفة للابتعاد عن قطبى المتجمد، لا أملك إلا هذا يا مختار، أنا لا أملك فراء أحلامك، ولا قوقعة غريب، ولا حتى شجرة كمال التى اعتلاها يتفرج علينا من فوقها، أتابع خطواتك وخطوات غريب وكمال بصدق وشغف وأنتظر بديلا خيرا من سعيى المتلهف الأعمى، كـُلـَّما فشلتْ رمية خطافى نظرت إليكم فأصاب بخيبة أمل من جمودكم الساكن رغم ما يعلو وجوهكم من بسمة ساخرة أو ثقة عنيدة، إخص عليكم يا أوغاد لماذا لا تنجحون وتريحونى، إخص عليك يا مختار يا أخى… لماذا لا تغرب عن وجهى، وأنت تبرر جرائمك باستسلام الضحية باختيارها؟!!
- أمور لا تخصنى، أنا أعيش وأحقق رغباتى، والضحية تريد ذلك.
= هكذا تلقائيا.
- نعم تلقائيا، أى فعل غير تلقائى هو فعل تافه لا دوام له.
= هل تصدق نفسك؟ الله يخيبك يا مختارّ ألا تخجل؟
يا ليتك تنجح إذن يا أخى ياليت، ياليتك تكسر وحدتك بحريتك المزعومة ربما تحيى فىّ الأمل، وأنا أواصل سلخ جلدى حتى لا يتنحـّس من اليأس أو يتيبس من جفاف قبح الانسحاب وتزييف الحاجة، أفضّل أن أظل أدمى حتى تحت التراب من أن ألبس درعا منسوجا من فشلك وخوفى، وكذب المخدوعين والمخدوعات.
****
ونواصل الأسبوع القادم فى استكمال الفصل الحادى عشر “إبراهيم الطيب” ثم الخاتمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “مدرسة العراة” الجزء الثانى من “ثلاثية المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1977، الطبعة الثانية 2005، الطبعة الثالثة 2019) والرواية متاحة فى مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية – المقطم – القاهرة.