نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 15 -3-2025
السنة الثامنة عشر
العدد: 6405
ثلاثية المشى على الصراط
رواية: “مدرسة العراة” [1]
الفصل التاسع
مختار لطفى (3 من 3)
…………….
……………..
-4-
= عندى صنف الليلة يا فؤادة سوف يرفعنا إلى السماء التاسعة.
- ذهابا وإيابا أم ذهابا فقط؟
= المصيبة الكبرى فى الإياب.
- لا فائدة فيك يا مختار، أريد أن أبحث معك……
= يا ساتر استر، خذى نفسين أولا وحافظى على الطافية ثم نبحث ماتشائين ولو حتى شئون أنجولا أو مشكلة عجول البحر على شواطئ النرويج.
تبحث ماذا هذه الصحفية محررة أوهام الناس، عدة أنفاس ويبدأ البحث الحقيقى، البحث لا يكون إلا فى الداخل ولا بد للسفر إلى الداخل من ركوب البراق، والبراق هو مطية الست المفضلة موديل 1974، سبسيال، وطائرات الفانتوم المستوردة من شارع الشواربى تسير بالطاقة الشمسية.
- أين ذهبت يا مختار؟
= معكى على الخط يا صفية.
- لست صفية…أنا فؤداه.
= ” فؤداه صفية…. صفية فؤاده.
تطور شوية…حرية زيادة،
حشيشة هنية، والوحدة سعادة “.
- ما هذا التخريف الذى تقوله يا مختار، لم أعهدك هكذا أبدا مهما شربت،
= أتصنع الخبل لأقرض الشعر، لم يبق أمامى إلا أن أرسم، ثم أكتب الموسيقى.
- لا تزودها يا مختار.
= هل تعرفين من هو أول من قرض الشعر حسب نظرية التطور لأبينا القسيس العنين تشارلس ابن داروين.
- ماذا تريد أن تقول…؟
= اسألى كمال نعمان.
- اسأل من؟
= كمال نعمان.
- كمال نعمان؟ ما هذا الخلط يا رجل هل تعرفه يا مختار؟ إنى من المعجبين به ولكنى أفتقد شعره هذه الأيام، هل هو فى رحلة فى الخارج؟
= بل رحلة فى الداخل يا ست الكل.
- كفى مزاحا، أنا أسأل جدا.
= أقول لك الحق كل الحق ولا شئ غير الحق: تعين كمال نعمان خارج الهيئة العامة لقرض الشعر، بوظيفة مريض ممتاز عند طبيب مجنون، ولا عزاء للسيدات.
- مختار…. المسألة اليوم ليست مسألة سيجارة حشيش، إما أنك فعلا تتصنع أو أن عقلك اختل.
= الاثنان معا يا سيدتى، يا سيدتى: هل لك فى قدح من الجعة الباردة أيضا؟
- يبدو أنى سأضطر للذهاب إذا أصررت على التمادى.
= صفية، يا صفية هذه سيدتى الجميلة تصر على الذهاب قبل الزفاف، فهى ناشز وأشهدك على ذلك لزوم طلبها فى بيت الطاعة،
- لست زوجتك يا غبى، فكف عن أحلام والدك البشعة.
= بسيطة، أتزوجك فى التو، على شرط أن أتزوج صفية فى نفس اللحظة، آمن وأحدث طريقة للزواج منعا للتسمم والمضاعفات: إذا اضطررت لأخذ السم النسائى دواء فضاعف الجرعة تنجو، هذا ما جاء فى تذكرة دواود العصرى ابن خالة أيوب المصرى وزوج عمة أبو حيان البصرى.
-……. هذا فوق الطاقة،
= إنتظرى، والله إنى جاد، نحضر المأذون الآن ونكتب الكتاب جماعة، ندفع الربع، والباقى على سنة وربع.
- قلت لك إن فى الأمر شئ.
= عليك نور على نور، يهدى الله لنوره من يشاء، اسألى إبراهيم الطيب، إن فى الأمر شيئا، وشيئا إسم إن مؤخر، وأنا لن أكتب المؤخر لأنى سأطلقكما فى الصباح معا.
- ليست المسألة سيجارة حشيش وأقسم على ذلك.
= دعينى آخذ تعسيلة حتى يحضر المأوذن.
****
أفقت فى الصباح فوجدتنى ملقى على الأريكة فى الصالة كما أنا بملابس الأمس، أخذت أتبين ملامح الحجرة بصعوبة حتى ظهر وجه صفية وهى جالسة على الأرض بجوار رأسى، هززت رأسى واعتدلت فى جلستى سريعا وتذكرت كل شئ منذ هربى الأول، ظلت صفية صامتة هادئة، أحسست برغبة جارفة فى أن ألقى برأسى فى حجرها، فعلت، وانفجرت باكيا، لم تتحرك صفية وظلت ساهمة تفكر فى شئ ما، رفعت رأسى فى إصرار جاد.
= هل تتزوجينى يا صفية؟
- انتظر ياسى مختار حتى تكتمل إفاقتك.
= أنا لم أكن واعيا ولا يقظا مثلما أنا الآن، وإنى جاد فى عرضى الزواج منك
– هذا فصل جديد فى حلقات معادة لدرجة الإملال.
= لن يتغير شئ من واقعنا فماذا تخشين.
- ما لزوم الزواج مادام لن يتغير شئ.
= إتماما للتجربة.
- أية تجربة؟ يا سيدى، خلها على الله.
= فى الواقع إنى أتساءل عن السبب الذى يمنعك أن تعطينى نفسك تماما.
- هكذا هداك ذكاؤك إلى أنى أنتظر الإذن من المأذون؟ أليس كذلك؟ يا سيدى: أنا أعطيك جسدى حسب بنود الاتفاق الشفوى.
=… غير صحيح أنت لا تعطيه تماما.
- لم ترد حكاية تماما ولا جدا فى أى بند بيننا فلا تفسد الاتفاق بتصورات سخيفة.
= أنا أعرف ما أقول.
- وهل الزواج سيجعلنى أعطيك جسدى وروحى ببصمة على ورقة؟ لا تنسى أنى لا أفك الخط.
= تصورت أن الزواج قد يعطيك أمانا أو يؤكد لك صدق عواطفى نحوك.
- صدق ماذا ياسى مختار؟ اسم الله عليك.
= ألا تصدقينى والدموع مازالت على خدى.
- يتبخر كل شئ بتبخرها، لا تنس أنى ابنة كار ولكنى فقط فى إجازة ولم أنس أصول اللعبة.
= أنا أعنى ما أقول يا صفية.
- تعنى أن تتزوجنى أنا؟
= وماذا فى ذلك؟
- وماذا تقول لأصدقائك؟
= لن أقول شيئا، لست ملزما بقول شئ لأحد.
- زواج سرى؟
= مجرد طمأنينة لك.
- أم لك؟
= لا أنكر أنى أخشى اليوم الذى ستتركينى فيه، أريدك كاملة بلا نقصان، حتى فؤادة لم تملأ الفراغ الذى يتهددنى بعدك، لقد تعودت عليك.
- تعودت على ماذا؟ وأنت لا تعرفنى.
= دعينا من التفاصيل، هل تقبلينى زوجا.
-…….. دعنى أفكر.
هل جننت حتى أعرض عليها الزواج دون مبرر؟ أى شئ ينقصنى؟ التحدى يكاد يقتلنى، لا أستطيع أن أنسى نظراتها الرافضة يوم فشلى، لابد وأن ألف حولها حتى تلين ثم أحس بحريتى وأتخذ قرارى النهائى، لا يخلو الأمر من فائدة، لعلها تقبل فأجد مبررا لطلاقها فى حينه، أو لعها ترفض فأجد مبررا للتخلص منها احتجاجا مثلا، مغامرة مجنونة لكن نهايتها فى يدى، وسوف تنهى هذا الموقف الفظيع على أية حال.
تمر الأيام ولا يبدو على صفية أنها تنوى الرد، حتى مجرد التفكير لا أحس أنه يشغلها وكأن الأمر لا يخصها.
رجعت فى تلك الليلة بعد جلسة علاجية حامية انفجر فيها عبد السميع إثر كلمة رفض عابرة من بسمة قنديل، آخر شخص كنت أتصور أنه يحمل أى طاقة من أى نوع، أذكر أنى خفت على نفسى خشية أن يقتربوا منى أكثر فأكتشف فى داخلى أى شئ آخر غير ما أعرف فأتفجر مثله دون علم منى.
رجعت ملهوفا إليها لعلها تحمينى منهم ومن أى احتمال آخر، هجومها على ورؤيتها لى أهون ألف مرة من هذه الفضيحة المحتملة بين هؤلاء، دخلت عليها فإذا بى أجدها نائمة كالملقاة على الأريكة فى الطرقة الموصلة إلى حجرة النوم، لونها شاحب لا يكاد يتميز من لون الوسادة البيضاء، عيناها غائرتان، صعقت من منظرها حتى كدت أتراجع خارجا.
ردت بصوت لا يكاد يسمع.
- يبدو أنى أكلت شيئا فاسدا.
= ماذا حدث؟ خبريني!!.
– لا شئ، ولكنى لم أستطيع أن أقوم لمسح باقى القئ وسوف أقوم بعد قليل.
= لا تكادين تقوين حتى على مجرد الكلام، هل أستدعى طبيبا؟
- أرجوك، أنا بخير، عمر الشقى بـَـقى، فى الصباح كل شئ سيكون على ما يرام، إبعد عن هذه الرائحة الكريهة، واذهب أنت إلى حجرتك، فى الصباح سأوقظك كالمعتاد.
ذهبت إلى غرفتى جزعا خائفا أحاول أن أنسى وجودها أصلا، خيل إلى أن أى تدخل فى حالتها سوف يحرمها من اختيارها، شربت، شربت، شربت، حتى يلطشنى النوم وأمضيت ليلة لم أستطع أن أميز فيها بين الحلم واليقظة، اختلط على صوت كالقئ مع زئير لبؤة فى القطب الشمالى.
استيقظت متأخرا وما كدت أخرج حتى وجدتها: ملقاه على وجهها فى الأرض وقد غرق كله فى القئ الأسود والأخضر العفن ويدها متقلصة على الخيشة، هززتها بعنف فتحرك جسدها باردا فى يدى وانقلبت على ظهرها وأنا فى حال.
ماذا حدث؟
فعلتيها يا صفية بذكاء مجرم، وفى الوقت المناسب.
****
رجعت من مدافن الصدقة مع غريب بعد إجراءات معقدة، كاد البوليس أن يتخذ موقفا سخيفا لولا البطاقة التى وجدتها فى ثيابها مع عنوان غريب، تولى غريب باقى الإجراءات وأنا فى ذهول، لم يتعرف أحد على أهلها فمر الاستجواب بسلام إذ يبدو أن البوليس لا يهتم كثيرا بمن لا أهل له، كنت أسير راجعا مطأطئ الرأس وغريب مازال يذرف الدموع فى صمت.
= مازلت محتارا يا غريب فيما حدث، حياتى تكاد تنقلب رأسا على عقب.
- كانت شجاعة فى حياتها، شجاعة فى موتها.
= يبدو أن هذه هى الحرية الوحيدة المتاحة، حرية الموت…
- من يدرى؟
لا بد من المحاولة، وها هى ذى المساعدة الذكية إصلاح فاضل، تلميذة مجتهدة ولكنها لا تعطينى إلا شعورا أمويا هادئا.
=… أرجو أن تفهمينى يا إصلاح.
- أحاول طول الوقت يا مختار، صدقنى.
= مشكلتى أنى أعبد حريتى.
- لا تتحدث يا مختار عما لا تعرف.
= ماذا تقولين يا إصلاح؟
- أقول إنك لا تعرف معنى الحرية ولا تحتمل عبئها.
= أنا؟ أنا أتحمل عبئها وحدى حتى كدت أتحطم من أجلها.
- الحرية بناء يا مختار.
= الحرية هى اللاحدود حتى النهاية.
- هذا هو الذى لا يتحقق إلا بالموت.
= لو كان الموت ثمنا لها لدفعتـه عن طيب خاطر.
- كفى خداعا.
= أنا ما كلمتك يا إصلاح إلا بعد أن لاحظت رفضك لتعليمات أستاذك وهو يحاول أن يثبت رجليك إلى أرض الواقع البشع.
- أنا أعارض أستاذى لأتعلم، أنت أيضا علمتنى الكثير.
= أنا؟ … علمتك؟
- طبعا، علمتنى كيف يكون الهرب الجبان سباحةً فى فراغ المطلق.
= يبدو أنى خدعت فيك أنت الأخرى يا إصلاح، خدعتنى مناقشاتك مع أستاذك وحماسك المتناهى بلا حدود، هل تراجعت عن موقفك فى طلب المطلق.
- معك؟، نعم، المطلق غير فراغ المطلق.
= ماذا تعنين، هل تغيرين مواقفك مثل الجوارب والأحذية حسب المناسبات.
-…. أنا حرة، أليس كذلك؟
= أشرب دائما من نفس الكأس، ما عليك، سوف أتفرج عليك حتى النهاية حين يجرجرك هذا التراجع إلى قفص الزواج الفولاذى.
- حسبك…. لن أنزلق أبدا خوفا منك أو منهم، لا إلى الزواج التقليدى ولا إلى حريتك المزعومة.
=… النصف الأول من رفضك هو الذى شجعنى على الحديث معك، ولكن يبدو أن الأمر أصعب مما نتصور.
- صعوبة أى أمر لا تبرر الهرب منه تلقائيا.
= هل أفهم من ذلك أنك ستتزوجين يوما ما؟
- ولم لا؟
= خيبت أملى يا شيخة، كلكن سواء حتى صفية.
- صفية؟، من صفية؟
= إنسانة لا تعرفينها.
- إحساسى يقول إنى سمعت عنها من كمال.
= هل تعرفينها يا إصلاح؟
- ربما.
= لعلك تقصدين من “غريب”؟
- بل كمال، قابلها عند غريب وحدثنى عنها حتى خجلت من صدقها وبؤسها وهى تمارس حياتها العملية الشريفة، ونحن هنا نتبادل أحاديث الوجهاء، هل هى هى يا مختار؟
= لعلها هى، شغلتنى فأنا لا أعرف لها حكاية مع كمال.
- كيف حالها، قل لى بربك كيف هى؟
= بخير، ولعلها هى التى ألجأتنى إليك.
- هى؟ كيف؟
= قصة ليست للحكاية، مشكلة سوف أحلها بنفسى.
- حاول يا مختار، فلعلك تجد ما تريد حقا، أو تراجع نفسك منذ البداية.
= حتى أنت يا إصلاح، حتى أنت تغرينى بمراجعة نفسى، ومنذ البداية؟
أنت لا تعرفين متى كانت البداية ولا كيف، أحاول أن أتذكر فلا يخطر على بالى إلا جبروت والدى وخوف والدتى المستسلم، متى بدأت عبادتى لذاتى وحريتى؟ لا أكاد أتذكر إلا أنى اضطررت أن أكون حرا منذ كل العصور، أهملنى الجميع حتى أصبحت حرا جدا، أى اقتراب منى يذكرنى بالتهام والدى لوالدتى، أحس أن بداخلى كليهما معا.
– ما ذنبى أنا يا خلق هوه.
****
ونبدأ الأسبوع القادم فى تقديم الفصل العاشر “عبد السلام المشد”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “مدرسة العراة” الجزء الثانى من “ثلاثية المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1977، الطبعة الثانية 2005، الطبعة الثالثة 2019) والرواية متاحة فى مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية – المقطم – القاهرة.