نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 22 -2-2025
السنة الثامنة عشر
العدد: 6384
ثلاثية المشى على الصراط
رواية: “مدرسة العراة” [1]
الفصل الثامن
بسمة قنديل (3 من 3)
………………….
………………….
-6-
= أنت معى يا كمال.
- بكل قلبى… وأنت تعلمين، مع أنك صغيرة، لكنك تعرفين كل شئ، أكثر من كل الذين هنا.
= اتفاقنا فى الرؤية لا يطمئننى، هل رؤيتنا هى الصحيحة؟
- صحيحة…. وصعبة.
= يعنى مستحيلة.
- ياليت.
= لا فائدة إذن.
- تقريبا.
= أنت فنان وتستطيع أن تصوغها فى رمز للمستقبل، أما أنا، أما نحن؟!
- لم أعد فنانا ولا يحزنون.
= هل كتب علينا أن نهيم على وجوهنا بغير هدف؟
- لا شئ يعين.
= هذا كلام مزعج، ولا أحسب أنك تصدقه على طول الخط.
- هو مزعج فى البداية ولكنه مريح بشكل ما.
= ولماذا لم تسترح؟
- فرشاتى جفت وسن قلمى قصف.
=…. وبعد؟
- أنا فى انتظار الفرج فى الفرشاة القلم.
=…. والحياة؟
- حياتى فيهما، أرسم المستقبل لمن يصنعه فيما بعد…. أرسمه لك يا بسمة.
=…. أنا؟
-..أى بسمة، هن كثيرات، لا أظن، دعينى أتصوّر أنهن كثيرات.
= أنا فى أول الطريق…. أريد قدوة ، أتطلع إلى أى نجاح حتى أنجح مثله.
- تحملين عبئا، يا بسمة فى هذه السن، حرام عليك نفسك، الحمل ثقيل جدا.
= تتكلم يا كمال مثل الطبيب، على كل واحد أن يحمل مسئولية قراره،… ولكنك أرق منه، أتساءل أحيانا ماذا يعمل فينا هذا الرجل بكل هذا التخلى وهو يشير إلى أن يفعلها كل منا على مسئوليته.
- أنا مرتاح لهذا التخلى.
= أعلم ذلك.
- هو يتقدم بلا تردد لمن يقبل تدخله.
= أحيانا أراه يربط غالى فى عنق ملكة حين يحاول أن يطير منها.
- يبدو أنه يعرف أنها ندفت ريشه فلم يعد يستطيع الطيران، ربما هو يخشى عليه.
= ما رأيك فيه يا كمال؟
- فى مــن؟
= فى شيخنا هذا؟
- أُعـْجـَبُ بمهارته أحيانا، أعتبره فنانا ليس له علاقة بالطب والحياة.
= تمنيت فى بعض الأحيان أنى ولدت ابنته.
- حذار من الاعتماد عليه، وإلا فقدت نفسك.
= حاولت الاعتماد فعلا ولكنه راقد فى الخط، هل يوجد سبيل للالتفاف من باب آخر.
- بل هو أخفى مما تظنين.
= إن كان ثمة حب، فأنا أحبه.
- حذار يا بسمة، أنت تعرفين كل شئ، قد يشكلك على مزاجه..
= لا أبيع نفسى ولو للإله نفسه، ولا أستطيع أن أعيش وحيدة، وأنت جبان يا كمال.
- حرصى على حريتى لا مثيل له.
= هل ندفع ثمن هذه الرؤية التى ابتلينا بها: وحدة حتى الموت.
- يبدو ذلك، ما هذا يا بسمة، أنت صغيرة، لماذا تتكلمين عن الوحدة، والموت هكذا؟
= الموت أهون يا كمال.
- وأشرف، ولكنك صغيرة على كل هذا، كيف عرفت؟ هل جننت؟
= جائز، غالباً…
- أنت خبيثة، صغيرة…. لكن خبيثه، ورائعة.
ياليتنى تعلمت فنا أفرغ فيه شحنات هذه الرؤية حتى أعفى نفسى من معاينة الفشل المر على أرض الواقع، كمال يفشل فى أن يواصل رسم المستقبل فيحاول أن يتخلص من أثقال الواقع ليجد نفسه متفرجا فى عيادة فنان أخطر، نقاش إبراهيم مع عبد السميع يجذب انتباهى أحيانا ولكننى أتقزز من تشنج عبد السميع.
= إبراهيم إنسان رائع يا كمال.
- وعنيد، ولكن من يدرى حقيقته وراء كل ذلك.
= لو نجح مع نجوى، فسأعلم أن كل شئ ممكن.
- إنه يحاول النجاح مع كل واحد حتى مع عبد السميع.
= لا أطيق رؤية عبد السميع.
- إصراره على المجئ بانتظام يغفر له عماه.
= عبد السلام صبور ومثابر.
-…. ومناور كذلك…. ولكنه قد يستسلم أخيرا لطبق القشدة.
= لا أظن، لو تم نجاحه مع زوجته فهى المعجزة بعينها،
- أشفق عليه من أحلامه.
= ترى هل نستطيع أن نتكاتف لتحقيق نجاح واحد منا على الأقل.
- لن أخدع فى التماس الدفء باقتراب خائف.
= أرفض يأسك وسوف أعلن التحدى.
- تذكرى قول عمنا، القوة على أرض الواقع هى وحدها القادرة على قول “لا”.
= تخاف يا كمال من نجاح أى آخر حتى تبرر عجزك.
- وراء رقتك نـَـمـِـرَة ذكية مفترسة يا بسمة.
= ووراء حكمتك ثعلب مراوغ عداء.
- نظل أصدقاء.
= لتكن صفقه أشرف من عقد إيجار مفروش.
- لا تبخلى على أحد بما يدور بخلدك.
= وماذا لو جرحته، فعلتها يوما مع أمى ومازلت نادمة.
- عندك حقك، لكنى عند رأيى.
= ما أمكن ذلك…، ربنا يستر.
-7-
لم أكد أعبر عن رأيى فى عبد السميع بصدق مباشر حتى كان ما كان، لست أدرى ما الذى دفعنى نحوه ثائرة مفترسة هكذا؟! كرهت وجهه وصفرته وهزة رأسه وإصراره على العمى وكلامه الشاحب عن الدين والطاعة بقدر ما شعرت بوحدته وحاجته لمن يكسره له، يبدو أنه لم يكن ينتظر ذلك، ومنى بوجه خاص.
لما انفجر كالبركان رُعـْبِتُ وكأنى فجرته بنفسى، أحسست أنى أنا التى انطلقت من داخله أحطم كل شى، عاودتنى الشجاعة وساهمت فى ضبط حركته والحد من مضاعفات ثورته، نظر إلىّ فى عتابٍ وألمٍ لم أر مثلهما فى حياتى، شئ ما اهتز فى كيانى حين أصر أن هذا هو كل ما يعرف من إحساس، رعبت رعبا هائلا من التمادى، تمنيت أن ترجع بى الساعة سنة كاملة إلى الوراء وأن يأتى هذا الخطيب الذى عرضته علىّ أمى وأن أقبله فورا، أحسست أنى على أبواب الجنون إن لم أكن قد جننت فعلا.
من يضمن أى شئ بعد ما حدث الذى حدث، عبد السميع الأشرم آخر من كنت أتصور أنه قادر على النطق بما فى داخله، فعلها كالنمر الهائج، لماذا أحـِسٌّ نحوه بكل هذا الحب الغامر بعد أن كنت أصاب بالغثيان بمجرد أن أسمع صوته؟ أخذت ألوم نفسى على سابق احتقارى له، حين تمادى فى هياجه كالثور الأعمى لم تعاودنى رغبة الهزء به أو النفور منه، كل أعمى مهما بلغ عماه هو بصير ولكنه عاجز، حتى أنتِ يا أمى، الوحيد الذى لم يهتز ولم يتراجع أمام ثورة عبد السميع هو إبراهيم الطيب، ظل يواصل معه الحوار، ويحمله مسئولية العجز والتحطيم فى آن واحد، كيف ذلك يا إبراهيم، إرحمه وارحمنا يرحمك الله، كان أقرب وأقوى وأقدر من شيخنا نفسه.
****
لن أذهب بعد اليوم..هذا فوق طاقتى وطاقة البشر أجمعين، وليذهب إبراهيم بإصراره إلى الجحيم…
****
- لم تذهبى للعلاج منذ أسابيع يا بسمة.
= شفيت يا أمى والحمد لله.
- قلبى دليلى يا ابنتى، مازال المشوار طويلا، هل حدث منهم ما يكدرك؟
= قلت لك شفيت، وعندى دروس ولا داعى لضياع الوقت…. كفى ما كان.
- هل هذا هو الشفاء؟
= لست أدرى، فأنا لم أدر ما هو المرض حتى أعرف ما هو الشفاء، أنت تعلمين أنى ما ذهبت إلا إرضاء لك، وهأنذا قد شفيت والحمد لله.
- لهجتك لا تدل على ما تقولين.
= ماذا تريدين منى يا أمى؟ أنا ما طاوعتك أول الأمر إلا تكفيرا عن تهورى.
- هل حدث شئ يا ابنتى؟
= طبعا تحدث أشياء.
- ماذا بالله عليك؟
= بالذمة هل هذا كلام؟ لم أحك لك عن أى شئ من قبل، فماذا أحكى الآن؟
- أنا لم أسألك قبلا لأن الأمور كانت تسير.
= كانت تسير نحو الجنون.
- كفى الله الشر يا ابنتى، كان وجهك نضرا ونظراتك توحى بالأمل.
= ثم عقلت وتركت الأمل لأصحابه، وليس عندى مانع أن أتزوج اليوم قبل الغد.
- ظنى فى محله، دائما تذكرين حكاية الزواج هذه عند ما تسوء الأمور.
= لا تضطريننى يا أمى لما لا تعرفين، طاوعتك فى الأول حتى كان ما كان، فماذا تريدين الآن؟
= تتكلمين بالألغاز وأنا لا أعلم شيئا من هذا الذى كان، كل همى أن أراك سعيدة
- وكان همك قبل ذلك أيضا أن ترينى سعيدة حين جئت لى بعريس الغفلة.
= أعمل ما أراه مناسبا فى كل وقت.
- ما أسهل تمنيات السعادة وما أصعب الطريق إليها، لا فائدة يا أمى، لا فائدة.
= تذكرين أنى قلت لك عن نفسى لا فائدة”، وساعتها رفضتِ أنت استسلامى، وتريدين منى الآن أن أقبل هذا اليأس لكِ وأنت فى هذه السن يا ابنتى؟
- ماذا تريدين أن تقولى يا أمى، ماذا تريدين منى؟
= لن يكون مصيرك هو مصيرى.
- نعم؟، نعم؟، أنت تقولين ذلك يا أمى؟، الآن؟، ألم يكن هذا هو بداية اختلافنا منذ شهور، أنت يا أمى؟، ترفضين مصيرك في!
= قلت لك من الأول أدفع عمرى وتعالجين مما أنت فيه.
- مما نحن فيه..
****
لست وحيدة.
هذه العجوز بإصرارها وشجاعتها تخجلنى من نفسى، تخلت عن أنانيتها بعد أن لاح لها الأمل ولو كان سرابا، الناس لا تستسلم اختيارا ولكنهم يقتلون الأمل أولا، أمى يا حبيبتى سوف أذهب وأصنعها مهما طال الزمن.
= شئ ما فى داخلنا يظل ينبض بالحقيقة حتى طلوع الروح يا إبراهيم.
- عدت بالسلامة يا بسمة.
= عدتُ أطلب السلامة.
- كنت واثقا أنك ستعودين.
= عدت من أجل خاطر أمى، ربما بدلا عنها.
- بل من أجل خاطر ابنتك.
= عنيد أنت مثل النيل يحفر طريقه فى الصحارى وبين الجبال عبر آلاف السنين.
- لا جدوى من أى بطولة خارجك، إبحثى عن النيل والشمس والجبال تجدينها فى الداخل.
= أطمئن لإصرارك ووضوح رؤيتك.
- صـِـدْق أمـك وشجاعتها يطـمئن جيلا بأسره.
= اضطرابات الطلبة تغرينى بالمساهمة، ولتكن المسئولية فعلٌ يومى.
- على شرط أن تكتمل فى وعى شامل.
= خوفى من ثورة مثل ثورة عبد السميع ذلك اليوم حين انفجر كاللغم غير الموجه.
- يبدو أحيانا أنه لا مفر منها، أو مما هو مثلها، ربما تسمح بأن يراجع كل واحد قدرته وإحساسه معا، ربما يكون ذلك مكافئ لتاريخ الثورات بمضاعفاتها.
= لا ضوابط للجنون ولا حدود للتحطيم.
- أى شئ هو أفضل من الموت واليأس والضياع؟!
= تشجعنى على التشنج والصراخ.
- بل أحملك مسئولية التشنج والصراخ.
= حكمتك ترعبنى، تزيد طاقة شبابى ومسئولية شيخوختى فى ذات اللحظة.
- قانون الحياة واضح رائع…. لكنه كما تعلمين.
= لا سبيل غير ذلك، هربت من مسئولية أمى، ومسئولية بيت صغير هادئ، فوجدت نفسى أمام مسئولية الناس جميعا.
- دون نسيان مسئولية وجودك شخصيا بكل عبء العلاقات البسيطة العادية، لن أطمئن عليك حتى تتزوجى ويعلن انتصار الواقع جنبا إلى جنب مع استمرار الحلم.
= أنت كالصقر اليقظ، كيف أهرب منك؟
- بل كيف تهربين من نفسك؟
= وأنت؟، أنت هارب بجلدك من بيتك وتلوح لنا طول الوقت بما فشلت فيه.
- لا أنكر مصيبتى، ولا أخدع أحدا.
= ماذا فعلت مع نجوى.
- تعرفين كل شئ…
= أقرأ الحوار الصامت.
- أعرف ذلك، وأطلب مساعدتك.
= لا تـَـخـَـفْ منها…. ألمها يحميها من تفكك فردوس الرخو.
- لست وحيدا ما دمتِ ترينى بهذا الكشف.
= وأنا كذلك.
- من أين لك بكل هذه الحكمة فى هذه السن؟
= ومن أين لك أنت بها؟
- من الوحدة، والهجر، والدعارة، والجنون، والإيمان.
****
ونبدأ الأسبوع القادم فى تقديم الفصل التاسع “مختار قنديل”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “مدرسة العراة” الجزء الثانى من “ثلاثية المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1977، الطبعة الثانية 2005، الطبعة الثالثة 2019) والرواية متاحة فى مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية – المقطم – القاهرة.