نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 28-9-2024
السنة الثامنة عشر
العدد: 6237
ثلاثية المشى على الصراط
[الجزء الثانى] “مدرسة العراة”[1]
الفصل الأول
فردوس الطبلاوى (2 من 3)
…………………
…………………
- 3 -
= لماذا تأتين هنا يا ملكة مع أنك تبدين مع زوجك فى غاية السعادة؟
- نريد الأحسن.
= ولكنكما فى أحسن حال، هذا ما تؤكدانه دائما.
- ………….
= عن نفسى أنا جئت مضطرة، جرجرنى زوجى على وجهى، أحيانا أقول إن تعاستنا تبرر وجودنا هنا فى هذه المسخرة، ولكن أنتما؟ ماذا ينقصكما؟
- فعلا، نحن سعداء تماما.
= إذن، ما الحكاية؟
- غالى طموح، وطموحه لا ينتهى، يحب المعرفة، ويعبد العلم ويسعى بكل وسيلة لتحقيق أفكاره، لذلك فهو مصر على التجربة.
= لكنك عاقلة كما يبدو لى، وتعلمين أن كثيرا ممن يعتنقون مثل هذه الأفكار فى بلدنا إنما يتسلون بها فى الصالونات، أو يعتبرونها متعة ما قبل النوم، ما لنا نحن النساء وهذا الضجيج، دعيهم يستعملونها لمظاهرات الجامعة، أما حكاية تحقيقها فهى نكتة يضيعون بها الوقت، ويصبِّـرون بها أنفسهم على خيبتهم.
- من أين لك بكل هذه الحكمة الخادعة؟ هذه هى السلبية بعينها.
= لا يخدعك منظرى فأنا أحمل ليسانس تاريخ، ولكن تاريخى الخاص يقول لك لا تنشغلى إلا بمملكتك الصغيرة، لا تبعدى عن عشك السعيد، أما هذا الـ…؟ ماذا تسمين ما نحن فيه؟
- علاج.
= نعالج من ماذا؟
- الأمر لا يسلم.
= لا، الأمر يسلم ونصف، دعينا نلتقى بعيدا عن هذا المكان الصناعى، نجتمع فى الخارج أرخص وأسلم، هيا نقنع زوجينا بالكف عن السير فى هذا الطريق الخبيث.
- ما هذا؟ يبدو أن طول بقائك فى البيت يا فردوس قد أفسد عقلك، رائحة البصل تفوح من أفكارك، أنا مع زوجى إلى النهاية وليس هناك ما يخيفنى، غالى يعرف كل شئ ويدرك طبيعة الذى يسير فيه، هو زوجى وحبيبى، ولا بد للصراع الطبقى من نهاية لصالح أصحاب الحق.
= نعم؟ نعم؟ ما علاقة هذا بذاك؟ ماذا تقولين؟ نهاية ماذا؟
- نهاية الصراع الطبقى لصالح الجماهير.
= إعقلى يا ملكة يا اختى، وهل نهاية الصراع الطبقى سيتم هنا فى هذا المكان، راجعى نفسك يا بنت الناس، أين هؤلاء الجماهير فى عيادة هذا الطبيب؟
- غالى مؤمن بالعلم فى كل مكان وفى أى مكان، يقول إنه يجد الديالكتيك الحقيقى فى هذا الصراع العميق، هنا بين العجـز والإرادة، بين الحياة والموت، نحن نحرر أنفسنا لتتحرر الجماهير.
= ماهذه الألفاظ الكبيرة؟ الذى يجرى هنا ليس إلا الاسترزاق من آلام الناس وحيرتهم.
- مرارة كلامك تذكرنى بالمرحلة الأولى من مجيئى هنا، عليك أن تستمرى حتى تنفضى عن أفكارك رائحة الثوم والبصل، الكسل والخوف كادا يقضيان عليك.
= عبد السلام هو الذى قضى علىّ حين منعنى من العمل، ويدعى كل يوم أنى حرة.
- حاولى يا فردوس، قهر المرأة رمز لقهر الأضعف، حاولى.
= أنت لا تحاولين يا ملكة، أرنى شطارتك لأقلدك، ثباتك لا يوحى بأى محاولة، كأنك وجدت حلا لكل شئ.
- أقدس العلم مثل زوجى، نحرر أنفسنا مع الناس.
= وهل تجدين هنا علما؟ هل سمعت عن عالم يستعمل كل هذه البذاءات؟ هل سمعت عن طبيب يمارس كل هذه القسوة والهجوم بلاحساب ولا ذوق؟
- هو أدرى بأصول مهنته.
= “بسمة” مثلا؟ هل تعجبك هذه التجاعيد التى يفرضها هذا الرجل على وجهها الطفل بما يدعيه من ضرورة المشى على الأرض.
- مصلحتها تحدد خطواتها…. الأمل فى الشباب.
(-……… – ……… – …….).
= يبدو أنى أزعجتك، الصبر طيب.
– تحياتى للأستاذ عبد السلام.
= تسلمين يا اختى.
……
حجر صوان، جرانيت، ليس لها مسام أنفذ منها، أردت أن أستعين بها فخـلت بى، أنا واثقة أنها “تقول” والسلام، لابد أن لها مصلحة فى كل ما يجرى، خلية تدار لحَبـْك مؤامرة ما لقلب النظام؟ قلب أى نظام، وكل نظام، إلا نظامها هى وزوجها، أكاد أفقد سيطرتى على نفسى حين لا أفهم إلى هذا الحد، نجح الكلب عبد السلام أن يهزنى من داخل، “الحرملك بالديالكتيك”، آخر صيحة فى العلاج العصرى، سوف أقاوم حتى النهاية، وإذا لم أستطع، فالله وحده يعلم إلى أين سينتهى بى ما يتحرك بداخلى.
– 4 -
= ماذا تريد منى يا عبد السلام بعد الذى حدث؟
- ماذا حدث؟
= تستعبط حضرتك؟ أصبحت أفهم لغتكم الآن، فاستعـد.
- أستعد لـ ماذا ؟
= لا تحاول يا عبد السلام، أنت الذى بدأت الطريق وعليك أن تكمله بحلوه ومره.
- سوف أفعل.
= لا تكن واثقا من نفسك هكذا.
- أنا فى انتظارك يا فردوس من زمن بعيد.
= لا أظن يا عبد السلام، أنت لا تعرف ما تقول.
- نعم؟ نعم؟
= جاء الدور عليك يا عبد السلام لتبدأ من أول وجديد.
- ماذا؟
= يبدو أن هناك من أسرار اللعبة مالا تعرفه.
- وأنت؟ هل عرفتيه بهذه السرعة؟
= أحس بأشياء كثيرة قبل أن أعرفها.
- الإحساس وحده خداع.
= يتحدثون عن الحب أكثر من اللازم يا عبد السلام وكأنهم يتبادلون السجائر.
- نعم، هذه حقيقة، ولكنها لا تعنى ابتذاله،
= الأمر أخطر من كل تصور، ربما تندم يا عبد السلام يوما ما على أنك فتحت عينىّ، مسامـى تفتحت هى الأخرى فحذار.
- الحقيقة أصدق من كل وهم.
= تقولها بشروطك.
- أية شروط؟
= لا تدعى الغباء وتـَـحـَـمـَّـل مسئوليتك إن كنت رجلا.
- رجعنا للبذاءة، بماذا تهددينى بالله عليك؟
= أنا لا أهدد أحدا ولكنى خائفة من ثقتك بالحدود التى تحاول أن تطـلقنى فى داخلها.
- أية حدود؟
= لن تحتمل لو تخطيتـُها يا عبد السلام.
- يجوز، بصراحة يجوز.
= شئ يتفجر فىّ يا عبد السلام، فهل أستمر؟ هل تتحمل نتائجه؟
- كل واحد مسئول عن فعله.
= هذا كلام للاستعمال الظاهرى، أنا أشك أن أحدا منكم يعرف حقيقته،
- يجوز.
= يجوز، يجور، يجوز! كل شئ يجوز؟ أنت تميّع كل شئ.
- أنا معك إلى النهاية.
= كذاب، تكذب بنفس القدر الذى تكذب فيه حين تقول أنى حرة.
-…
= هل ما زلت مصرا على أن أستمر.
- لا تبالغى، لقد تفجر فى يوما ما شئ مثل الذى تتحدثين عنه، ولم تقم القيامة، جاءت سليمة.
= بل قامت، ولم تكن سليمة كما تعرف.
- ماذا تعنين؟
= النساء غير الرجال.
– هذا كلام قديم.
= أنت لا تعلم ما بى، بداخلى ثور أعمى وقرونه سيوف من ماس.
– عقلك يصحو مثل زمان يا فردوس، تتكلمين مثل الذين يعرفون ماوراء الألفاظ، نكاد نتفاهم من جديد.
= ليس عقلى فحسب، ولكن خلاياى كلها.
- لا تخافى شيئا.
= لست خائفة فلا تـلق علىّ خوفك.
(-……-…. ).
- أنا لا أنكر خوفى يا فردوس، أنا أشم رائحة التهديد أو المساومة.
= صوت بداخلى يقول لى: أنت لست حـِـمـْـلىِ يا عبد السلام، ولا حتى شيخ الطريقة هذا، كفانا هذا يا عبد السلام، ودعنا نربى الأولاد.
(-…….-…….).
- لم يعد لى فى الأمر خيار.
= لا تصدق هذه الأوهام.
- ليس أمامى طريق آخر.
= ذنبك…. على جنبك…. لقد حذرتك يا عبد السلام.
- 5 -
خوفه أكبر من خوفى، سوف أضاعفه حتى نهرب معا، هذا هو طريقى للعودة به إلى عشى الآمن، رأيت بعينى رأسى الفئران تجرى فى عبه، بدأ يهتز وهذا سبيلى الوحيد لأوقف هذا الخطر الداهم، عثرت على كعب عطيل وبدأت اتذكر بعض صفحات التاريخ، سأضرب على هذا الوتر، عرفت الطريق يا فردوس، لو أنى طاوعت غبائى الطيب ومكثت فى عقر دارى لظللت المتهمة طول حياتى بأنى سبب مرضه، وأنى العقـبـة فى طريق شفائه، أما الآن: سوف نسلخ وجه من يزعل، والبادئ أظلم.
= ميعاد الجلسة يا عبد السلام.
- أعرف،
= صاحبك لا يحب التأخير.
-…. هو يتأخر أحيانا.
= هو صنف آخر من البشر لا يسرى عليه ما يسرى علينا، أليس كذلك يا رجل؟
- ليس تماما، وإن كان مثل ذلك يخطر على بالى أحيانا.
= هل سيحضر إبراهيم الطيب.
- طبعا، مثل كل مرة، لماذا تسألين؟ وهو لم يتغيب ولا مرة ؟
= خاطر خطر، وقد علمتمونى التلقائية.
- عندك حق، إبراهيم إنسان رائع، وأنا أحبه، بل إنى أحيانا أحسده.
= أنا أيضا أحبه.
- هو يستأهل الحب.
= لا تصوِّر الأمر ياعبد السلام كما لو كنا نشرب قدحا من القهوة، الحب طريق شائك.
- عن ماذا تتحدثين؟
= هل أفقدك العلاج حـِـمـْـيـَـة الرجال؟
- ماذا تعنين؟
= أقول لك أحب رجلا، تقول لى يستاهل، إنى أحذرك، ذهابى إلى هناك يوقظ فىّ ما كان قد نام من سنين.
-…. ماذا تعنين؟
= أعنى أنى أحاول أن أتمسك ببيتنا، بالستر، أريد أن أحمى الأولاد من تجربة بلهاء، أحاول أن نعيش مثل الناس.
- وما المانع أن نعيش بمشاعر يقظة؟
= هذه المشاعر التى تهدد بالانفجار لا تستأذن أحدا ولا تحسب حسابا لشئ.
- ماذا تعنين؟
= لو تطاوعنى، أتركنى ألزم بيتى، فلا يقدر على القدرة إلا الله.
- عن ماذا تتكلمين؟
= عما أشعر به مما يمكن أن يسمى حبا أو غير ذلك، أنتم تحركون ماردا ليس له روابط ولا حدود، تثيرونه دون حساب، ثم سوف تحمّلوننى مسئولية خراب بيتى.
- خوفك أكثر من كل تصوُّر.
= لا تدعنى أقول لك مايدور بداخلى حتى لا يتوقف قلبك من الهلع.
- كفى غموضك وهات ما عندك.
= لا فائدة، كنت أظن أنك لم تنس رجولتك.
- تحاولين أن تجرحينى من جديد لأتراجع.
= أنا أعرفك فلا تدّعى الهدوء.
- هات ما عنـِـدك.
= هب أنى اكتشف أنى لا أحبك.
-…. قسمتى.
= استسلام مائع.
- يملؤنى كلامك جزعا، ولكن لا سبيل إلى التراجع.
= نحن ما زلنا فيها، المخاطرة ليس لها حدود.
- عندك حق.
= إسمع كلامى، وكفى رعونة.
- تذكرى أنت ما كنا فيه، كان أبشع من كل مخاطرة.
= يكفى ما تعلمناه، لقد أصبحت حياتنا أهدأ، يكفينا هذا.
– إنها أهدأ لأننا فى انتظار الأمل، ولكنها تنهار فورا لو توقفنا.
= وجهك الشاحب يا عبد السلام يقول غير هذا.
- لا أنكر خوفى… ولكنى مستمر.
= الناس يعيشون فى سلام، ولم يعد بك ما يدعو لكل هذا.
- الناس يعيشون فى سلام لأنهم لم يروا ما رأيت.
= وأنا مالى، لماذا تصر على أن أرى أنا ما رأيت أنت؟ على كل: هأنذا أرى ما هو أكبر وأخطر.
- …… هذا قدرنا إن أردنا أن نعيش “معا”، لابد أن نرى “معا”.
= هل تعنى أنه لا حياة إلا مع هذا الذى تسميه علاجا؟
- لا مفر من المخاطرة تحت أى اسم.
= عبد السلام.
- نعم.
= أنت تلعب بالنار.
- اللعب بالنار أهون من الحياة فيها.
****
ونواصل الأسبوع القادم استكمال الفصل الأول “فردوس الطبلاوى” (3 من 3)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “مدرسة العراة” الجزء الثانى من “ثلاثية المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1977، الطبعة الثانية 2005، الطبعة الثالثة 2019) والرواية متاحة فى مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية – المقطم – القاهرة.