نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 4-1-2025
السنة الثامنة عشر
العدد: 6335
ثلاثية المشى على الصراط
رواية: “مدرسة العراة” [1]
الفصل الخامس
غالى جوهر (3 من 3)
……………………..
……………………..
-5-
المظاهرات تملأ الشوارع وأنباء تقول أنها لا تهدأ بمرور الوقت، لم أشعر أن الله تخلى عنى تماما مثلما شعرت ذلك اليوم، حقيقة أنى تخليت عنه من سنين ولكنه هو لم يتخل عنى بهذا الوضوح والصراحة مثلما حدث هذا اليوم، انتهزت ملكة فرصة الاضطراب والتحطيم وأخذت تهاجمنى بلا هوادة، شعرت بالعجز والحيرة والرفض بطريقة أحسست معها أن الموت هو الحل، رحت أهتف فى وحدتى “يارب”، رغم يقينى بأنه غير موجود، كنت أحتج عليه آملا أن يحمينى من هجوم زوجتى الشامت وكأنها هى التى قامت بهذه الاضطرابات لصالح إثنائى عن العلاج، أحاول أن أخفى عنها هربى إليه وهو غير موجود.
- غالى، هل اكتفيت بالتدريبات الداخلية فى مصنع العواطف المستوردة؟
= أحتقر نفسى ولا أعرف كيف أشارك الناس حقيقة مشاعرهم؟
-….
-….
- لا مفر من المشاركة، هذا هو الحل الحقيقى، الشارع يغلى.
=…. دعينى أفكر.
- أفسدك العلاج.
= أحسن.
طرقت باب السماء فإذا بها مازالت بلا أبواب، مجرد انعكاس الضوء على ذرات لا تــُـرى، ليس للسماء باب كما أنه ليس للأرض قاع، كل شئ قبيح خادع ولسوف تنتهى المظاهرات إلى لا شئ، سوف تعتبرين نفسك بطلة التحرير وتأخذين نيشان الصياح الأعلى، ثم تعود الحياة كما كانت، نخدع أنفسنا بأحلام ليست أسعد ولا أقرب من أحلام الجنة المفقودة وعفو الأب فى الأعالى، المسرة ليست بالناس ولا بالجان، المسرة خدعة الأفيون القديم، والسلام حجة العاجز، وها هو ذا الأفيون الحديث يتضاءل تأثيره مع استمرارالإدمان.
آخر صيحة فى المخدرات الأحدث هو ما وجدته عندك يا دكتور عبد الحكيم، تتكلمون عن الحب “هنا والآن” وأنا لم أعد أفهم أى معنى لأى كلمة بعد أن انهارت كلمات المسرة والمحبة والسلام، ثم انهارت كلمات المساواة والعدل والكفاح…. لعبة الثلاث ورقات بشكلين مختلفين، فأين أخفيت البنت القلب يا ملكة يابنة مناع؟
= إذن ماذا؟ ما هذا الحب يا إبراهيم الذى تتحدثون عنه؟
- هو الحياة.
= سئمت التعاريف الشعرية، أنا جاد.
- وأنا لا أمزح، أنا أراه فى كل حركة من أول طنين ذبابة حتى ذروة الشهوة بين ذراعى امرأة مؤمنة.
= مؤمنة؟ مرة واحدة؟ ما لك جاهز بهذه الألفاظ يا إبراهيم بهذه البساطة؟
- أنت خائف يا غالى من كل شئ؟
= لقد فترت تجاه زوجتى بعد أن اكتشفت أننا كنا نكذب طوال هذه السنين، وأنها كانت تتصنع الاستجابة لى لمجرد إرضائى.
- ثم ها أنت تحاول طرق أبوابها.
= أية أبواب؟ ربى القديم تخلى عنى، وأبوابهم لا تفصل إلا بين الفراغ والظلام.
- أنت الذى تخليت عنه، عاود الطرق يا غالى، وسوف تستجيب الأبواب أسرع.
= أنا الطارق؟ وأنا المجيب معا؟
- نعم؟ .. نعم؟
= هذا ما خشيته حين قررت أن أحادثك، توقعت أنك سوف تضيعنى فى ألفاظك الحالمة الغامضة، يلوح لى أن الحل عندك، ثم تتركنى كما كنت وألعن، أنت أعظم كذاب فينا، بل فى الدنيا كلها، يا إبراهيم.
-…. لكل واحد حله الخاص، مهما تشابهت البدايات فالمصير هو نتيجة ما نختار،
= مصيرى يقترب من النهاية أسرع مما تحسبون.
- بل إنى أراك تتقدم للأمام رغم بطئك.
= سأقترح على جلالة مولانا نور الدين أن يعيـِّـنك حامل أختامه، تقسم الناس إلى متقدم ومتأخر، لو أنك تعرف ماذا تقول أو تدرك معنى للحياة لرأيت كيف أنى فى مصيبة لاأعرف لها بداية ولا نهاية.
- أعرف ذلك وأنتظرك.
= مصيبتى هى أنى كفرت مجانا، وحين عدت أطرق بابه لم أجد أحدا يرد.
- ولكنك فى طريقك للإيمان.
= تتشفى فىّ يا إبراهيم أم تبشرنى بدينك فى حظـيرة الأغلبية؟
- ماذا تقول يا غالى؟
= يراودنى خاطر ملح أن أرجع إلى دين أهلى بإصرار، أحتمى به منكم ومنهم، حتى لو عادت معه مشاعر الاضطهاد والنبذ، فهى أفضل من الضياع والوحدة.
- وهل تستطيع أن ترجع؟
= لم لا؟
- جرب.
= تسخر منى؟
-… أنا أحترمك يا غالى، وأحترم استمرار محاولة صدقك.
=…كلما رأيت طمأنينتك يا إبراهيم ازددت عدوانا عليك، كدت أقتلك فى خيالى ضربا بالقباقيب.
- طمأنينتى التى فى تصورك ليست هى، ثم إنها لن تنفعك، لن يطمئنك إلا استمرارك، استمرارى ليس لحسابك، لكنه يصب فيك، وفينا.
= ردودك تخترق عظامى وتغرينى باتهامك، أو احتقارك، أو تكذيبك.
- الصدق فى المحاولة، لا توجد آراء صادقة، وإنما محاولات صادقة.
= صــدق مؤلم، يكاد يـعجـِّـزنى.
- من يـَـعـْـجـَـزُ فى النهاية هو الخاسر.
= إذن لماذا لا تساهم فى العمل السياسى، معنا؟
- ما هذا الذى نعمله ليل نهار؟ أليس عملا سياسيا؟
= أعنى تنظيمنا تحديداً.
- كل الطرق الجادة تؤدى إلى “وجهه”.
= وجهه أم وجه الناس؟
- وهل يوجد فرق؟
= … هذه هى مصيبتى معك، كلما تحدتث بمثل هذا الكلام مادت الأرض تحت قدمى ولم أعد أفهم شيئا.
- بل تفهم، ولكنك لا تأخذ بالك.
= لا تحيرنى وتزيد الأمور إلغازا، قل بصراحة هل أنت معنا؟
- طبعا، رغم أنفك.
= أنفى أنا؟ رغم أنف ذاك المسئول عن انهيارى…. مـُلـْتـَهـِمُ العذارى المشويات.
– لا تهرب من مسئوليتك يا غالى… حكيت لك أن امرأتى فى أحضان من لا يعرف اسمها، ووجدانى يصطلى بآلام الوحدة والهجر، ومع ذلك تصر على تبرير انسحابك لأن فردا هوى تحت وطأة نزوة.
= المسألة ليست مسألة فرد، بل ما أثاره هذا الفرد من تساؤل حول طبيعة مـَـنْ مـِـنْ الثوار يستلم السلطة.
– يا أخى… ! يا أخى… ! قانون البقاء سيلفظ هذه الفقاقيع على الجانبين.
= وإلى أن يلفظهم ، كم عدد الضاحايا الذين سنقدمهم قرابين ونحن ننتظر؟
– هذه هى ضريبة المحاولة.
= حيرتـنى يا ابراهيم، أنت بعيد قريب، تدافع عنهم وأنت غريب عنا، أخشى أن أكتشف فيك أكبر كذبة..
– يا أخى أطلع كذابا، أذهب فى ستين داهية، كل هذا لايبرر ضياعك أو انسحابك.
= إبراهيم: صورة ملكة تخايلنى، وأنا خائف،
– معك حق.
-6-
حين فـترت عاطفتى تجاه زوجتى تفتحت بشكل مخجل نحو “بسمة”، لا بد من حب حقيقى جدا، وخاص جدا، حب يملؤ حياتى ولا يدع لى مجالا للتفكير فى أى شئ لا قبل الموت ولا بعد الموت، لم أعد أثق فى الأصل،…. ولا أقبل الهروب الجماعى تحت أى عنوان ولسوف أفعل ما أريد.
ـ ماذا تريد؟
= ….أن أعيش بأى ثمن.
ـ أنت حر.
= ياليت،
ماذا أريد منها على وجه التحديد، ليست على دينى ولا فى سنى، ولم أتجاذب معها الحديث إلا مرات قليلة، ومع ذلك فهى تشغل بالى هذه الأيام بطريقة مخجلة، ومضحكة، وأحيانا ممتعة، لا أنكر أن خيالى سرح بضع مرات فى مناظر جنسية مع نجوى مصباح، أما هذه العصفورة فهى لا تثير فىّ الحيوان وحده بل تعيدنى إلى دنيا ذات طابع خاص ، خيالاتى الجنسية معها لها رائحة عطرة، حبات عرقى الجنسى تتفتح فيها زهور بيضاء وينطلق من أكمامها عصافير منتشية.أليس هناك سبيل إلى الاتصال بها دون أن تنهار أحلامى أو أُقـْـتَـلُ رميا برصاص ملكة مناع زوجتى العزيزة، سوف أكتب لها خطابا أعبر فيه عن كل ذلك، هذا هو الطريق الأسلم.
”حبيبتى بسمه…
لا تتعجبى من ندائى لك بحبيبتى، هذا قدرى، أقولها دون لف أو دوران، أنا على غير دينك، لكنى بلا دين، فلا تضعى العوائق بيننا بلا مبرر، السن لن يحول بيننا لأنى لا أريد منك شيئا له دخل بالسن، لقد جئت هنا بلا عقيدة ولا مستقبل فما الذى جاء بك فى هذه الساعات المبكرة من العمر؟ هل نسعى جميعا إلى هدف مشترك لا نعرفه؟ نحن نقترب بعضنا من بعض دون قصدٍ معين، الذى يهمنى أنى اقترب منك أنت على وجه الخصوص، أنا أحبك يا بسمه، أنا لم أحب أحدا أبدا، أحلم بك ولا أشوهك بالجنس حتى فى الحلم، يؤلمنى حزنك، هذا الحزن مؤلم فى هذه السن الحلوة، أريد أن أتسحب تحت ملامح وجهك لأرى حقيقتك، فرحتك، ألقى بين عينيك بقشرة ترمسه ونحن نسير سويا فى صمت على شاطئ النيل فتضحكين مثل رضيع يتعرف على صوته لأول مرة …. حبيبتى بسمة.
ربما أنت الوحيدة التى تستطعين مساعدتى فى محنتى التى ورطت نفسى فيها دون مبرر، كيف تساعدينى؟ لست أدرى؟ ولكنى أحبك.
توقيع: “غالى جوهر”.
راجعت الخطاب مرتين ولم أصدق أنى أنا “غالى جوهر” الذى كتبته، نظرت إلى وجه امرأتى وهى نائمة تجز على أسنانها فى تـَـنـَـمـُّـر، تسحبت إلى الحمام وكومت ورقة الخطاب فى إصرار وخوف وألقيت بها فى الماء وأخذت أشاهدها وهى تدور حول نفسها مع تيار الماء المتدفق، ثم تنسحب بقوة إلى مكان عام حيث يختلط كل شئ بكل شئ.
هل هذا هو ما تفعلونه بالحب الخاص يا إبراهيم يا طيب؟ حين تتكلمون عن حب كل الناس لكل الناس، تعيشون فى الكذب ليل نهار وأنتم تدورون حول أنفسكم فى عيادة طبية مثل دورات هذا الخطاب فى قاع الماء القذر، الناس لا تتساوى إلا فى مكان عام مثل مصير هذه الورقة المطوية، ما أبشع خيالى ولكنى أحاول الصدق حسب وصاياكم العشره.
ما أبشع الكذب حين يسمى بغير اسمه، حين يسمى الأفيون الحديث مـٌنـَبـِّهاً للوعى… إسمع يا إبراهيم:
أنا ذاهب غدا إلى الكنيسة دون أن أقول لكم، وسأعترف بكل ما كان.
-7-
”جوهر غالى جوهر”، هل هذه هى نهاية المطاف؟ أو لعله بدايته.
ماذا بعد أن قبل أبونا اعترافى وانتصرتْ ملكة على خوفنا، فأهدانا الرب هذه الجوهرة الغالية النادرة؟ ولد ليس كمثل الأولاد، نتاج المعاناة والصبر، زهرة العمر “جوهر غالى جوهر” ما هذا الذى كان قد حدث بعقلى حتى أحرم ملكة وأحرم نفسى من هذه النعمة التى ستزيد عدد شعبنا المظلوم على أرضنا التليدة، نحن الأصل، ما أغباك يا نجوى حين تركت طفلتك إلى هذا الضياع الذى كاد يطير بصوابى، ولكنك تراجعت فى آخر لحظة حين قبلت الارتباط بإبراهيم، هذا هو عين العقل، سوف تعرف معنى الحب يا إبراهيم من الآن فصاعدا.
من الغرور والغباء والأنانية يا كمال يا نعمان أن نحاول أن نحقق فى حياتنا ما ينبغى أن يحققه أولادنا وأولاد أولادنا، قال أبونا فى موعظة الأحد كما كان يقول دائما: “الْمَجْدُ للهِ فِى الأَعَالِى……”، فهمتها ربما لأول مرة على كثرة ما ترددت على أذنى، كيف تحاول أيها العبد الحكيم – متخفيا تحت ستار العلم والطب – أن تجعل المجد للإنسان فى عيادتك القذرة، أمّا أنت يا ملكة، فلولا صبرك علىّ هذا الصبر لضاعت الأرض والسماء والأصول والفروع.
ولكن لماذا يفارقنى النوم بالليالى الطوال – ومتى ينتهى الواجب الزوجى الأسبوعى الثقيل..؟
يستحيل علىّ أن أهدم المعبد على رأس الجميع لأنى ضبطت حارسه يتبول بجوار جداره..، لا أستطيع أن أنساكم أو أنسى الناس، “جوهر” إبنى ليس سوى الناس رغم أن ملكة أمّـة تزداد بـُـعـْـدا يوما بعد يوم….. خائف خائف خائف أنا، مع أنى متأكد أنى على حق…. أننا على حق مهما تعثر بعضنا.
مازالت شهادتك بصدق محاولتى تطمئننى يا إبراهيم، أنا لم أفهمك أبدا وأنت تصر على ابتغاء “وجهه”، أنا خائف يا إبراهيم، مضت شهور ولم أركم فيها، كم أنا مشتاق لرنين صوتك يا أخى، ولـِغـَمـَّازَتـَا بسمه.
”جوهر” يا إبنى هل تكون لى بديلا عن الناس؟.
أو أنك سوف تكون طريقا إليهم؟.
****
ونبدأ الأسبوع القادم فى تقديم الفصل السادس “كمال نعمان”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “مدرسة العراة” الجزء الثانى من “ثلاثية المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1977، الطبعة الثانية 2005، الطبعة الثالثة 2019) والرواية متاحة فى مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية – المقطم – القاهرة.