نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 30-11-2024
السنة الثامنة عشر
العدد: 6300
ثلاثية المشى على الصراط
رواية: “مدرسة العراة” [1]
الفصل الرابع
ملكّة مَنّاع (2 من 4)
………………..
…………………
– 2 -
الخوف يتزايد ويحيط بى من كل جانب، لو تركت نفسى استعمل لغتهم لاكتشفت مصدر التهديد من داخلى، أنا لا أخاف على نفسى، كل ما أخشاه أن يتغير غالى بالرغم منه، لو تغير بإرادته فقد أتحمل النتائج مهما كانت، أما أن يتغير تحت وهم العلاج وتأثير “شيخ الطريقة الصحية لتمييع الثورية” فهذا ما يهددنى.
غالى يكرر إعلان أنه لا يتغير ولكنه يستزيد من المعرفة، يقول إنه بذلك يستطيع أن يختار، أنا أتساءل هل سيختار من أول وجديد، لقد اخترنا طريقنا بعد طول عناء، لقد أجابت “النظرية” على كل شئ، ماذا بقى أمامنا لنختاره ونحن نتعرض لهذه الخدعة الامبريالية الجديدة، أحس أننا نستدرج إلى مجالات ميتافيزيقية ألعن من كل المخدرات التى تعاطتها الشعوب عبر التاريخ، هذه الخدعة العصرية تلبس مسوح العلم وتدعى الطب لقد اخترنا طريقنا بعد أن أنهكنـا البحث، فما الداعى لأن نعيد الاختيار، لقد بدأنا النضال من زمن بعيد وقطعنا فيه شوطا أعطى لحياتنا معنى، فماذا نريد أن نختار بعد ذلك يا غالى الله يهديك؟ وأنا..؟ هل أنا من ضمن ما سوف تعيد النظر فيه؟، يا غالى.
- أما آن الأوان أن نكف عن الحضور لننتبه إلى ما وراءنا من واجب تحرير الناس.
- نحرر الناس، دون أن نتحرر نحن يا ملكة؟
- نحن أحرار تماما، وأنت تعرف ذلك يا غالى يا حبيبى.
- مم تخافين إذن؟
- أنا لست خائفة.
أعلم أنى كاذبة، كل ما حولى يؤكد لى أن أخطر الخطر هو ما يقع دون سابق إنذار، هنا خطر متسحب، شئ ما يتحرك فى داخلنا ويقترب من السطح دون إذن.
لا أستطيع أن أنسى ذلك اليوم، لم أكن أتصور أبدا أن ذلك يمكن أن يحدث لغريب أو من غريب بالذات، ذلك الإنسان الهادئ المثقف، كيف فقد كيانه هكذا فى لحظة، مازلت أذكر كيف رُعـِـبت، وكيف تحرك داخلى يكاد يقفز ليحتويه ويحول دون تماديه، كنت أريد أن أحميه من كذبهم وادعاءاتهم “المحبة”، لو كان رحمى عباءة لفردته عليك يا غريب ساعتها، لو كان فكرى حـُصـَانا أشهب لاختطفتك عليه من وسطهم حتى أحميك من هذه المهانة يا غريب، فخورة بك أنا، سرعان ما رجعتَ محصـَّـنا أكثر من ذى قبل رغم محاولات نجوى التى لا تيأس، تلك السيدة المدعية لا تكتفى بإغراء مختار، أو الكذب على إبراهيم، هى لا تكف أيضا عن ملاحقتك بكل الصور، حتى الطبيب نفسه لم يسلم من محاولاتها، لا، لن أفرط فى “غالى” أبدا، لن أخدع فى أحاديثهم وتمثيلياتهم، ما أدراهم بالحب والمساواة والعدل التى يتكلمون عنها ليل نهار، صورة جديدة ليوتوبيا المأفونين، مقاعدهم وثيرة وكفاحهم بالألفاظ، يتعاطون أفيون العواطف فى حجرة مغلقة، لابد أن يتغير المجتمع من أساسه أولا، المادة أساس كل شئ، أما العواطف الإنسانية فلابد وأن تصان من هذا العبث والتشويه، الذى ينبغى أن نسارع بتحطيمه هو الملكية الفردية لا الكيان الشخصى، أما العواطف فهى شئ آخر، هذا هو التركيب البشرى الذى ينبغى احترامه، العواطف أمور هلامية ليس لها علاقة بالتطور المادى، العواطف ملكية خاصة لا ينبغى أن يقترب منها أحد، فما بالك بما يجرى هنا؟!.
-…. أصحاب الأملاك يقولون أيضا أن ملكية النقود والأشياء من طبيعة البشر.
= يدافعون عما يملكون بتشويه طبيعة الإنسان.
- لعلنا نفعل ذلك أيضا حين نصر على خصوصية العواطف.
= ألم أقل لك يا غالى إن هذا الرجل يتسحب إلى خلايا عقلك من الباب الخلفى.
- أنت تعرفين أنى أحب أن أفحص كل الاحتمالات مهما كان الثمن،
=…. حتى لو كنت “أنا” الثمن.
- أنت فوق هذه القاعدة…. بالنسبة لك…. استقرت الأمور من زمن.
= عن ماذا تبحث إذن بعد أن استقرت الأمور..؟
- عن أى احتمال يوصل للحقيقة، ربما للقدرة، أو للفعل.
= نعم، نعم..؟ وهل ستجد ما تتحدث عنه هنا عند هذا الرجل؟
- ربما.
= هذا الرجل لا يقدم إلا احتمالا واحدا، هو: ذاته.
-… أحس أنه هو ذاته لا يعرف من هى ذاته، فكيف يقدمها، لعله يبحث مثلنا، معنا، كل شئ جائز.
= هذا الرجل عنده جواب لكل سؤال، رؤيته حادة مثل السكين، تقطع كل من ينحرف عن حدودها.
- إذا كانت كذلك، فما هى؟
= لا أراها بوضوح.
- كيف إذن هى حادة كما تصفين.
= سألته مرة عنها، فقال إنها: “الحياة”.
- كلمة مائعة مثل “الفطرة”، كلمة تصلح لكل العصور، تختبئ وراءها كل الحيل.
= ها أنت تفهم أحابيله، مازلت غالى حبيبى اليقظ الثائر.
- لا أنال منه، المسألة أصعب من هذه البساطة، فلا تبالغى فى تجسيم اعتراضاتى.
= تدافع عنه ثانية.
- أنا لا أدافع عنه، ولا عن أحد، وإنما أنا أسعى إلى المعرفة.
= وفى سبيل ذلك تنسانى، وتغفل حبى يا حياتى.
- ما دخل حبك يا ستى الآن؟
= لا حياة لى بدونـك، لقد وجدنا الطريق من زمان فلا داعى لضياع الوقت.
- أى طريق؟
= هل نسيت يا غالى: الحرية للشعب، والسيادة للطبقة العاملة…. هذه هى المقدسات الحقيقية لأنها واقع الناس، مالك؟ هل كفرت بكل هذا؟
- لم أكفر ولا يحزنون، أنا انتهز هذه الفرصة لكى نتعرف على هذه الألفاظ من جديد، “الواقع”- “الناس”، ربما تكون مسئوليتها أكبر من احتمالنا، أو ربما عشنا أصدق.
= نتعرف على “الواقع” و”الناس” من فوق هذه الكراسى الوثيرة؟
- حيرتنا هى التى دفعتنا لهذه الكراسى الوثيرة، وهى جزء من واقعنا، وهؤلاء “ناس” من لحم ودم بغض النظر عن عدد “السست” التى تهتز من تحتنا.
= حيرتنا انتهت من زمن.
- فما الذى أرّقنى تلك الأيام؟
= كل الناس تصاب بالأرق أحيانا.
- ليست المسألة بهذه البساطة، أنت تذكرين جيدا كيف أنى فجعت فى صديقنا المسئول؟
= خطأ عادى وما نحن إلا بشر.
- عادى؟ ، أسوأ استغلال وأبشع سرقة، خادمة قاصر!!.
=…. لكل واحد هفوته.
- دفعنا حياتنا لمحاربة الاستغلال، وهو يعلمنا الدرس تلو الدرس، ثم أكتشف أنه يمارس أبشع استغلال.
= كفاحه المقدس لا تلغيه زلة عابرة.
- كفاحه أم صياحه؟
= زلة شخص واحد لا تهز المبدأ.
-..دفعتنى للتفكير فيمن يقدر على حمل مسئولية المبدأ.
=…. نحن قدرها يا غالى، حتى لو أخطأ أحدنا.
-…. بدأت أشك فى كل شئ حتى فى ما هو نحن.
= مازلت تغلى بالغيظ.
- بدأت حكاية الأرق من يومها دون ربط ظاهر.
= أزمة وعدت، أنت تنام هذه الأيام مثل القتيل،
- أغمض عينى فحسب، أشعر أن داخلى لا ينام، لابد من حل.
= وهل الحل فى هذه المسرحية المعادة بلا نهاية فى عيادة طبيب مجنون.
- الحل فى الحصول على حريتى الداخلية.
= داخلية ماذا، وخارجية ماذا؟ كلنا أحرار إلى قاع القاع.
- القاع ليس فيه أحرار مالم يسعوا إلى القمة المسئولة، هل نستطيع؟
= نحن نستطيع، ونصف، استطعنا ونستطيع.
- ليس بهذه البساطة.
ماذا جرى لك يا غالى؟ شكك يتزايد بدرجة لا تطاق، حتى حريتك التى لا جدال فيها، أصبحت مجالا للشك والمراجعة، أنت حر مادمت معى يا حبيبى، ماذا لو كنت زوجا لامرأة أخرى ليست “ثائرة” مثلى؟ امرأة تضيق عليك الخناق وتحاسبك على نظراتك وسكناتك، إننى لم أصر على حقى فى الإنجاب حتى لا أقيد حركتك، ماذا تريد بعد ذلك؟ فكر قليلا، ماذا لو أنك زوج ست البيت المتصابية فردوس هانم، أو ست الحسن المغرورة نجوى شعبان، ضبطتك آخر مرة متلبسا وأنت تتأمل جسدها ولم أفتح فمى، أنت حر حتى النخاع، مالذى أدخل إليك الشك بعد كل هذا؟ الحرية هى أن تحبنى كما تشاء وأن أحبك طول الوقت، أنت إبنى وأبى ودينى وعقيدتى، تستطيع أن تفعل بى ما تشاء من واقع حريتك، أنا أحبك يا غالى وليس لك سواى.
****
= كل شى تم تحديده بصفة نهائية يا كمال.
- نهائية !!؟ نهائية جدا طبعا، أفيدينا يا ملكة الحسم أفادك الله.
= تسخر منى؟
-…. أحاول أن أتذكر ما كنا نقوله ليل نهار.
= المادية، والحرية، والحب، ماذا تريد أروع من ذلك.
- بضائع الرصيف المستوردة.
= سخريتك قبيحة.
- كرشك يا ملكة يسع عشرين رجلا وطفلا بلا تمييز.
= لقد اكتفيت بغالى، فلا تحرك أمانيك القديمة.
- مجنون أنا إذا تمنيت أن أتمتع بعصارات هضمك الملتهبة.
= غيرتك تقتلك.
- غيرة ماذا يا ملكة؟ أنت أين؟ غالى يريد أن يتملص من سجن حبك قبل أى شئ.
= غالى ليس جبانا مثلك وهو لا يتمتع بحريته إلا بين أحضانى.
- حرية أن يختار إن كان يؤكل مسلوقا أو مشويا جدا أو نصف نصف؟
= تحقد عليه، مازلت أنت كما أنت، أنت لا تكف عن الحقد عليه.
- لا تحلمى، لا أحد يحقد على من يـُـشوى فى أتونك.
……
……
أفسدكم يا أغبياء إلى هذا الحد؟ ماذا لو انتهى غالى إلى ما انتهيتَ إليه يا كمال، سوف لا أتعرف عليه.
كيف السبيل إلى إيقاف عجلة هذا العبث البرجوازى القبيح؟
- 3 -
كان غريب هو الوحيد الذى يتعاطف مع مشاعرى العدوانية تجاه هذا الطبيب سرا وعلانية، حين يدخل فى نقاش معه، أو حين يتحوصل وينظر إلى هؤلاء الـبـُلـْه فى تعالٍ، أحس أنه يقوم عنى بما أود أن أفعله، حين يتكلم أحس أنه يستخرج الألفاظ من وجدانى، ها هو ذا ينقطع عن الحضور فيتركنى وحيدة تماما، كنت أحس به سندا قويا فى إدراكه لحقيقة ما يجرى، فرحت لغيابه، تماسك وقرر ونفّذ وغاب، طمأننى أننا يمكن أن نخرج من هذه الورطة ونحن أكثر صلابة وتماسكا بذواتنا وعقائدنا عن ذى قبل، ليس معنى أن يصاب إنسان ما بالأرق لبضعة ليال أن يفرض عليه التنازل عن كل تاريخه ومكاسبه لمثل هذا الطبيب الذى ينتهز الفرصة ليدعى أن ظهور الأعراض ما هو إلا طلب للتغيير، يشترط ضمنا أن يكون تغييرا فى اتجاهه، هذا الجاهل الذى لا يكف عن الكلام عن العلم وعن الحرية وعن التطور يخلط بين ذاته وبين العالم بطريقة بلهاء، العجيب أن أحدا غيرى وغير غريب لا يكتشف ذلك، أكاد أشعر أن قانونا غير مكتوب يحكم هؤلاء الناس، غاية أملى أن يفهم غالى خبث هذه اللعبة قبل أن ينساق إلى مالا يدرى، لماذا التغيير؟ ليس فى الإمكان أبدع ولا آمن من القوانين المادية الراسخة العظيمة، ما جدوى البحث فيما انتهينا من البحث فيه؟ أريد أن أحتفظ بغالى كما هو، لا يخالجنى شك فى أنه سيترك هؤلاء الناس يوما ما ويعود إلىّ هو، هو، متى؟ لماذا تطول هذه المسرحية كل هذا الوقت؟ ماذا ينقصه وأنا معه؟،
الرجال لا يحمدون النعمة.
كمال هو الذى أحذره أكثر من شيخهم نفسه، حين يكلمنى يعرينى دون استئذان هل يعيبنى يا كمال أن كل همى هو أن أحافظ على زوجى؟ غالى إنسان صادق، تألم بما فيه الكفاية واضطـُهد بما فيه الكفاية، أنت تعلم كيف تعامل الأقلية من الأكثرية بغباء لا نظير له، يكفيه ويكفينى ما كان من آلام.
= أليس الأفضل يا غالى أن نكرس حياتنا لتخفيف آلام المسحوقين بدلا من اجترار آلامنا الخاصة.
- لا نستطيع أن نكف عن معايشة الألم بقرار يا ملكة.
= الحب يخفف الآلام.
- الخطورة أنى بدأت أتساءل حتى عن الحب، اختلف معناه، أحيانا يعاودنى سؤال قديم يقول: هل ثم من يحبنى “أنا”، فعلا؟
= نعم؟ نعم..؟ ماذا أفعل أنا إذن؟ هل ألغيتنى يا غالى؟
- لا أقصد، أنت حياتى، ولكن….
= لكن ماذا؟ هل تشك فى حبى أيضا؟ أو أنه لا يكفيك؟
-….. أخاف منه أحيانا.
= فيم الخوف؟ نحن على وفاق حتى فى أفكارنا.
- ربما هذا هو سر خوفى، لقد ضحيتِ بكل شئ من أجلى، حتى حقك فى الأمومة، أخشى ألا أستطيع دفع الثمن.
= لا أطلب منك ثمنا إلا استقرارنا وسعادتنا.
-…. ماذا كنت أفعل بدونك؟
= آن الأوان للانسحاب من هذا الذى تسميه علاجا.
- ما بالك منزعجة هكذا؟
= هذا رجل صاحب دعوة سرية، هى تسرى فينا تحت شعار الصحة، لا تنس أننا أقلية ولابد أن نحمى أنفسنا بكل وسيلة.
- لا أشعر هنا معهم أنى أقلية.
= نحن أقلية مهما انتمينا إلى أعضاء هذا السرك الجديد.
- أريد الحقيقة، حتى ولو كنت وحدى.
= قوانين المادة تفسر كل شئ حتى التاريخ، لماذا نعود لطرق أبواب الخرافة؟
- لست واثقا إن كان ما نحن فيه علم أم خرافة.
= هذا الرجل يستغل ظروف المجتمع وآلام الناس لترويج أفكاره.
- أحيانا أشعر أنه عالم حقيقى.
= وهذا سر خطره.
- أى خطر؟
= خطر أن ننسى عقيدتنا وواجبنا إزاء نضال الشعوب.
- المواجهة الداخلية هى الضمان لاستمرار الشعلة التى تشعل نضال الشعوب.
= تقول داخلية، هلى سنغير العالم من الداخل؟ هذا العبث يكاد يلهينا عن بيتنا الذى أسسناه لنكمل النضال من أجل الشعب العامل.
- هل تخافين على الشعب العامل، أو على بيتك؟
= تنسى تضحيتى بأمومتى لنتفرغ للكفاح؟،
-…أنت لم تحبى الأطفال أبدا.
= لا أحب تعريضهم لخطر حياة كلها ظلم واستغلال.
- الخطر الحقيقى هو أن نخدع أنفسنا.
= نحن نعرف طريقنا.
- أحيانا أعتقد أننا نهرب فى الناس من أنفسنا، بلا انتماء حقيقى لنا.
= صرت تتشكك فى كل شئ، ما الحكاية!!.
- نتحدث عن حتمية التغيير، أرعب من تغيير بعض من سبقونا ممن أتيحت لهم فرصة أن يـُختبروا بكرسى السلطة.
= ماذا جرى لك؟ هذا الكلام أشبه بهمس رجال المباحث.
- أراجع مواقفنا، أتساءل وأرعب من تصور منظرنا على كراسى الحكم يوما.
= نتركها لهم بالسلامة يمصون دم الشعب حرصا على نقاء داخلك، ماذا تكون النتيجة إذا توقف الجميع عن النضال نتيجة لمثل أفكارك؟ سيقيم الطغاة الأفراح، وتسحق الأقليات بلا هوادة.
- هذا يرعبنى أكثر.
= من إذن سيغير المجتمع؟ أصحابك المجانين، وشيخهم الأرزقى؟ فى هذه العيادة السرية.
- هذا ما يزعجنى أيضا.
= يخيفنى !!! يرعبنى !! يزعجنى !! أهذا ما نجنيه من صحبة هؤلاء المعوقين داخل عيادة مجنون؟
- عجز هؤلاء المعوقين كما تقولين، لا يبرر كذبنا نحن.
= نحن لا نكذب.
- ضرر هذا الرجل إن وجد لا يتعدى عشرة أو عشرات، أما نحن، فثقة الناس لو ملكنا أمرهم ترعبنى وتلزمنى بمواصلة طريق المعرفة الشائك ضمانا لى ولهم.
…..
أنا لا أستطيع أن أوقف تدفق الشلال، بيتى مهدد، حريتى مهددة، عقيدته تهتز، كل هذا نتاج عناده وإصراره على الاستمرار فى لعبة حمقاء ليس لها معالم، أنزعج حين أفكر فيما وصل إليه من عـَمَى، ماذا يريد منى؟ أحيانا يعرض علىّ أن أدْلـِى بدلوى فى العلاج، وأن أتوقف عن موقف الفرجة ؟ هل يريد لى أن أكون مثل فردوس العروس الحلاوة الحمقاء، تلك المرأة لا تخجل من وصف نشوتها الجديدة، وكأنها عثرت على كنز قارون، كيف تجرؤ على هذه الوقاحة أمام طفلة مثل بسمة؟ أنا امرأة مثلها ولا أعرف تلك الأحاسيس التى تخترعها فردوس هذه اختراعا لتثبت لنا شفاءها الشبقى، وكأنه النجاح الأعظم فى حياة البشرية المشمولة برعاية زوج متفرغ، كيف لا تخجل من تصابيها المنفـر؟ كلامها يثيرنى أحيانا لدرجة تشككنى فى أنوثتى، ما هذه القمم المجهولة التى تصعد إليها مع زوجها؟ ما تلك الغيبوبة التى تصفها وكأنها انتقلت إلى الجنة فى كل مرة؟ لن أشك فى نفسى مهما كان، ممارستى الخاصة هى الطبيعة ذاتها، أنا أعطى غالى كل ما يرضيه وأنام راضية مسترخية أغلب الأوقات، أرفض، وأخاف من هذا الحديث العابث الكاذب عن الأجنحة التى تطير بها هذه المرأة متعبدة فى فحولة زوجها راقصة تحت سمائه، أراهن أنها تعد له خفية وصفات رجب العطار مع توصيات سحرية سرية.
هل هذا هو ما تبحث عنه يا غالى فى روضة أطفال الدعارة هذه؟ هل هذه هى حقيقة الداخل الذى تريد مواجهته؟ هل هذا هو طريق المعرفة الشائك؟ هل أصبحت فردوس مثلك الأعلى فى المرأة ؟ أم أنك تريد نموذجا آخر مثل نجوى المغرورة بجمالها وهى تريد أن تكمله بالديكورات العلاجية الحديثة، والإكسسوارات الثقافية المناسبة؟ إلى متى أظل محكوما على بتأمل “غرائب الطبيعة” هنا على هذه الصورة؟ نجوى التى كانت لا تفهم معنى كلمة أيدلوجية تتحدث الآن عن الصدق والحرية والناس، هى تروج بضاعتها الجديدة عند مختار وإبراهيم بعد أن هرب غريب بجلده، ليس أمامى خيار، علىّ أن أستمر فى التمثيلية إلى النهاية حتى أسترده وأرجع به إلى مكانه الطبيعى، كيف أستطيع أن أتحمل كل هذا الذى يجرى هكذا؟ كيف أسيطر على مشاعرى إلى النهاية؟ كيف أمنع شكى فى أنوثتى من خلال تفجـرهم الصناعى؟ هؤلاء المجانين يخلطون بين كل شئ وكل شئ: الجنس والـله والحب والناس، كلام خطير يحرك خلايا الحجر.كيف أتحمله؟ وإلى متى؟ هل أنا باردة حقا؟ هل هو يرغبنى هكذا، إن كان يعرف أصلا، ما هذا، هذا يكفينى، هذا الرضا يخفف آلام الاقتراب الجنسى ذاتها.
أحيانا تساورنى رغبة مجرمة للتحدث معهم فى موضوع هذه الآلام وخاصة بعد أن أكد لى طبيب أمراض النسا سلامة أعضائى، لن أسمح بذلك ولو بعد ألف سنة.
****
ونواصل الأسبوع القادم استكمال الفصل الرابع “ملكَة مَنّاع”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “مدرسة العراة” الجزء الثانى من “ثلاثية المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1977، الطبعة الثانية 2005، الطبعة الثالثة 2019) والرواية متاحة فى مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية – المقطم – القاهرة.