نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 23-11-2024
السنة الثامنة عشر
العدد: 6293
ثلاثية المشى على الصراط
رواية: “مدرسة العراة” [1]
الفصل الرابع
ملكّة مَنّاع (1 من 4)
= إلى متى تظل تذهب إلى هناك يا غالى؟
- إلى أن أعرف ماذا أريد؟ وماذا يريد هذا الرجل منى؟ أو لى.
= لقد عرفنا ماذا نريد من زمن، وانتهى الأمر، أما هو، فما هو إلا طبيب يسترزق، وهو يريد نقودنا ونقود أمثالنا.
- أعرف ذلك، لكنى أعرف أيضا أنه يمكن أن يحصل عليها بطريق آخر، ربما أيسر، وربما أكثر.
= أعتقد أنه مضطرب مثلهم، هذا ما يدفعه لسلوك هذا الأسلوب، هو لا يعدو أن يكون برجوازيا مدعيا رغم ما يتظاهر به من حسن نية، وزعم الشعور بالناس.
– قد يكون كلامك صادقا، ولكن عليك أن تواجهيه لتعرفيه أكثر.
= هو لا يهمنى فى شئ، أنا أذهب معك لأنك حبيبى، ورفيق طريق كفاحنا، هذا كل ما هنالك.
- لست أدرى ماذا كنت أفعل بدونك.
= حبنا أقوى من أى اهتزاز، لم نعثر على بعض مصادفة جمعتنا المبادئ والإصرار على رفض ظلم الكادحين واستغلالهم.
-…. طبعا، كفاح الشعب هو الذى سينتصر.
= أحيانا أشك أن هذا الطبيب يأخذ عمولة من القوى الرجعية والامبريالية لتحطيم الثورة التى تعتمل فى صدرى وصدرك وصدور الطبقة العاملة، هو يحاول جاهدا أن يقلب كل شئ إلى “مشكلة شخصية”، مع أن المجتمع هو المريض.
– يجوز…. ولكن.
= لا تلغى فكرك يا غالى، الامور تتضح كل يوم، هو رجعى هارب جبان، لا أكثر،
-عبد السميع يعتقد أنه عميل لنا، ويحاول اتهامه بين الحين والحين بالإلحاد.
= إلحاد؟ إنه أجبن من أن يلحد، حديثه ملئ بكلمات الإيمان والخير والتوحد، يضرب اليمين واليسار فلا يبقى إلا نفسه.
- بصراحة رجل محيـّر.
= ليس تماما، “الذى تغلب به العب به” هذا هو مبدؤه الذى لا يفتأ يردده.
- لو ثبت ذلك، فهى أكبر خدعة قابلتها فى حياتى.
= ليس هناك أدنى شك يا غالى يا حبيبى.
-…. ما الذى يدفع كل هؤلاء المختلفين أن يذهبوا إليه بكل هذا الإصرار،
= نفس الذى يدفعنا: ورطة، وأمل مجهول.
- لا بد أن شيئا ما بداخلنا يطلب بضاعته.
= بضاعته ليست سوى الخرافة فى صورة عصرية.
- سنرى.
= متى؟
- لست أدرى.
= أحيانا أدعو على صديقك الذى أشار عليك بالذهاب اليه.
- كنت أيامها لا أنام الليل.
= ياليتك أخذت أقراص الطبيب الآخر، وخلـصنا.
- كانت تقتلنى بلا نوم حقيقى، أنت تعلمين أن صاحبنا هذا قد عرض على أقراصا فى أول الأمر، أنا الذى قلت له أننى ما جئت لمثل هذا، أنا الذى فضلت حضور “المجموعة العلاجية” بنفسى.
=…أذكر ذلك، لم أكن مرتاحة أبدا، قلبى حدثنى.
- هذا ما جعلنى أحترم شجاعتك أكثر وأنت تصرين على الحضور معى من أول مرة.
= وسوف أكون أشجع حين نتوقف عن الحضور معا أيضا.
- تعجبت وهو يوافق، بل يرحب بحضورك وأنت لست مريضة.
= زيادة الخير خيرين، كله مكسب.
- لا تبالغى هكذا، ودعينا نرى.
= مالنا ومالهم؟ نحن ثوريون، وهم مرضى، ولا سبيل إلى الالتقاء.
- أحيانا، أعتقد أنهم ثوريون أيضا، بل إنى أحيانا أظن أنهم هم الثوريون ونحن الأدعياء، ياملكة.
= غالى !!.
- أقول ما أشعر به.
= بدأت مخاوفى تتحقق، حافظ على ثقتك بنفسك وبمبادئك.
- لا خوف إطلاقا، طالما نحن معا، فلا تهديد بالتغيـر.
= نفسه طويل، وطريقه يبدو بلا نهاية.
- الثائر لا يخاف المغامرة..ما دام على حق.
= … وهل يوجد حق أحكم مما نحن فيه، هذا معمار صنعنا به وجودنا بعرق عقولنا.
- من يدرى؟
= أنا أدرى.
- صبرك يا ملكة، أحيانا أقارن بين هؤلاء الناس وبين جماعتنا الثورية، وأتردد.
= إنتبه يا غالى، عقيدتنا أغلى مافى حياتنا، فكيف نقارن هؤلاء المجانين الذين يتذرعون بالمرض بجماعتنا وكفاحنا.
- لا تنكرى حقيقة ما يدور هنا، فلا أحد منهم يعتذر بالمرض أو يستجدى الشفقة، أشعر أنها دعوة لمواجهة الحياة بشكل آخر.
= واجهناها وعرفنا أولها من آخرها، الكفاح الكفاح، رفع الظلم والمساواة، ماذا هناك غير ذلك؟
- طبعا..طبعا، لم أقل شيئا.
= هذا الرجل خطير، أشعر أحيانا أنه ليس إلا عميل مهمته تمييع مواقف الناس لإجهاض الثورة بأن يلصق عليها لافتات طبية؟،
- يجوز،
= مؤكد.
- مؤكد، إن كان هناك أى شئ مؤكد.
= ماذا جرى لك يا حبى ؟!!!.
– 1 -
قلبى يحدثنى أن غالى يتغير فى السر، لن أفرط فيه ولو دفعت حياتى ثمنا لذلك، مسكين، طيب القلب، استدرجه هذا الرجل ليبتزه ويشوهه، لا أنسى كيف استقبلنى ببرود أول يوم حين فرضت عليهم نفسى دون استئذان، لم أصدق أنه رحب بمشاركتى كما يقول غالى، صدق ما ادعيت بعد ذلك من شكاوى أبرر له بها ما يلهفه منى كل جلسة.
ثقتى بنفسى لا يزعزعها شئ على الأرض، أريد أن أنهى هذه الورطة بأسرع ما يمكن، غالى مـُـصـِـرّ، لو عارضته فسوف يعاند كالأطفال، سوف أتركه حتى يمل هذا التكرار السخيف، نضالنا أشرف وأصدق من كل هذا، ماذا يفعل شيخ المنسر هذا إلا أنه يجهض النضال ويثير الشكوك حول كل حل شامل، زوجى يوافقنى غالبا على أرائى ولكنه ينقاد له بلا مبرر، فوجئت بوجود كمال نعمان، معرفة قديمة، سوابقه فى الهرب تبرر وجوده هنا، كمال زميل نضال قديم، خاف السلطة فأصبح فنانا، حين التقيته هنا تعجبت، لا أنكر أنى أحسست فى قرارة نفسى بالشماته، هذه هى نهاية الانسحاب من المسئولية الجماهيرية، المرض وعيادة الأطباء بدلا من الناس وإرادة التغيير، إدفع يا كمال الثمن حتى لو استمرت سخريتك لاذعة، وشكك قاتل.
لا أستطيع أن أخفى عن نفسى تساؤلا مذلا: إذا كان كمال قد مرض لأنه انسحب من ميدان النضال فلماذا حضرنا نحن هنا إذن؟ لابد أن تنتهى هذه القصة سريعا حتى أتخلص من هذه المذلة، لا أحتمل هذا الموقف الذى يذكرنى كل ساعة أنى مريضة، أو أن غالى مريض، أى مرض هذا الذى نضيع فى البحث عن اسم أو مبرر أو شكل له؟ لماذا نمضى هذه الساعات الطوال فى النقاش والعراك و”محاولة” الإحساس؟ كل إنسان يحس بكل شئ فما الداعى للتشكيك؟
حتى أنجح فى إقناع غالى بالكف عن كل ذلك؟ لابد من خطة مضادة، المسألة تحتاج إلى تنظيم وتكاتف لكسر هذا الوهم المحيط، أبدأ بكمال، أعتقد أنه أوهى الحلقات، صديق قديم أعرف مداخله وأحب فنه، لو نجحت فى إقناع كمال فلسوف يستجيب غالى أسرع.
= هذه المناقشات تذكرنى ببعض ما كان يدور بيننا فى اجتماعات الإعداد لمجلة الحائط، هل نسيت يا كمال؟
- ربما لهذا أنا هنا، يا ست ملكة.
= تسخر من جديد، “ست” فى عينك، أنت هنا، لأنك نسيت؟
- بل لأنى لم أنجح أن أنسى.
= ولماذا تريد أن تنسى.
- لابد للانسان أن ينسى الفشل حتى يستطيع أن يستمر.
= مازلت تتحدث عن الفشل كالقدر، وهو اختيارك، نحن لم نفشل يا كمال، الشعب لا يفشل.
- لقد فشلنا جميعا.
= أنت انسحبت، فلا تحكم علينا.
- ليكن،… لكلٍّ رأيه.
= تحاول أن تبرر فشلك بأن تثبت على واجهتك “لافتة مرضية” تعفيك من تحمل مسئولية الناس.
- أفضل من لافتة “ثورية” توهمنى بتحمل مسئوليتى فضلا عن مسئولية ناس لا أعرفهم.
= نجح الرجل أن يفسد عقلك، هذا هو ما حسبت حسابه.
- لا أحد يفسد عقل آخر إلا باختياره، الفشل اختيار، وفساد العقل اختيار.
= واختيارك الآن هو أن يـفسد عقلك؟
- خير من أن يفسد ضميرى وأخدع الناس تحت عناوين ثورية.
= ماذا جرى لك يا كمال، أنت فنان حساس، ولابد من عمل نضالى بين الجماهير.
- جماهيرك يا ملكة فى عقلك، لن تعرفى الجماهير إلا إذا كنت أنت الجماهير، إلا إذا عرفت نفسك، هذا هو ما أحاوله.
= من أين نبدأ يا كمال؟ قصة قديمة، الفرد أولا أم المجتمع؟
- لن أنخدع ثانية بمناقشة القضايا العامة قبل أن أحدد موقفى.
= أكبر خداع هو ما أنت فيه الآن، ماذا بك حتى تتردد على طبيب كهذا؟
- عاجز عن فعل أى شئ.
- أوْهـَمـَكَ الطبيب بالعجز والمرض، ولو لم تستسلم لهذه الإشاعة العصرية لكنت مستمرا معنا الآن.
= من أنتم؟ وأين انتم، الآن؟
- نحن مع الطبقة العاملة.
= ولكن الطبقة العاملة ليست معكم.
- الكادحون مسحوقون، والنضال مستمر، والعمال بدأوا يدركون حقوقهم.
= كلامك يوحى بأن القتال يدور من بيت لبيت ليل نهار، ولا أرى إلا تأجيل مواجهة الذات لأجل غير مسى.
= نترك الناس ونواجه أنفسنا؟ فى عيادة طبيب أرزقى؟
- أفضل من أن نترك أنفسنا ونضحك على الناس.
= حتى لو صح اتهامك، فالناس أقوى من أن يضحك عليهم مثلى ومثلك إلا بعض الوقت، ماذا جرى لك يا كمال؟
- لابد أن نعرف من نحن، من هو “أنا” “الآن”؟ وإلا..
= نوقف مسيرة العالم والتطور حتى نعرف من هو “أنا”… ومن هو “أنت”؟
- حتى لا تباع الثورات لغير أصحابها.
= الثورة للمطحونين من سواد الشعب.
- أنت لا تعرفين سواد الشعب ولا بياضه يا ملكة يا مناع، كل ما تفعلينه أنك تحافظين على “قلعتك الخاصة” بأسلوب أيديولوجى عصرى، أنت وغالى من مستحقى “وقف” الثورات، أما صانعوا الثورات فأنت لا تعرفينهم.
= ليس لى قلعة ولا بيت، حتى أمومتى ضحيت بها من أجل مبدئى.
- أنت لم تضحى بأمومتك، كل ما فى الأمر أن الحمل والرضاعة لم يعودا لازمين لممارسة الأمومة لديك، أنت تتبنين غالى سرا وعلانية، ملكية أضمن تكفيك وزيادة.
= خبيث، مهزوم تشوه الناس لتبرر انسحابك، كله من تأثير هذا الرجل المجنون.
-… لا تبالغى، لقد جئته مهزوما جاهزا.
= كنت تهرب منا فى الفن، والآن تهرب من الفن فى المرض.
- الحياة كلها تأجيل لمصيدة القبر، وعلينا أن نختار الشكل المناسب للهرب، قبل أن تطبق المصيدة علينا يوما ما.
= حكمة اليوم هى إضفاء صفة الشرعية على الهزيمة، ما أبشع ما يجرى هنا.
- ألا تحاولين النظر داخلك، ولو قليلا؟
****
يبدو أننى أخطأت الهدف، غالى أهون من كمال ألف مرة، شعرت أن كمال انتهزها فرصة ليسوى حسابا قديما، أردت أن أستقطبه فكاد يهزنى وأنا لا تهزنى قنبلة ذرية.
= أنا لست مريضة يا كمال كما تتمنى.
- تحضرين للفرجة؟ أليس كذلك؟
= زوجى يحضر وأنا مع زوجى للنهاية.
- تخافين أن يضيع وهو راجع إلى البيت، أو يخطفه أبو رجل مسلوخة؟
= شيخكم هو الخطاف الذى أخشاه.
- ليس لى شيخ.
= ينتهز ضعف الناس ليستولى عليهم لحساب جنونه الخفى.
- حتى لو….. فهو يعملها علانية، وعلى من يستسلم له أن يدفع الثمن،
= كذب، كذب.الطب سلطة خبيثة، الرهبان يمارسون الدعارة مع أطفال.
- إلى هذه الدرجة تخافين منه، وتكرهينه.
= هو يقتل وحدته بإلغاء كيانهم.
- هو لا يخدع أحدا.
= أنت أول المخدوعين به.
- لا أنكر أنى احتاج لرعايته بعض الأحيان.
= غالى له من يرعاه.
- تريدين أن تحتكرى رعايته حتى يظل طــفلك الكبير ملكك وحدك.
= أنا أكثر أمانة عليه من شيخ المنسر هذا.
- ملكة يا غالى، قوى التملك تتنازع زوجك مثل الحدود الصينية السوفيتية.
= سخريتك سخيفة، أنت لا تعرفه، غالى سيد الرجال.
- هل تتصورين أننى لا أعرف متى رفع الراية البيضاء بعد زواجه منك.
= وغد لا تريد أن تنسى أنك كنت غريمه، ألم تعرض علىّ الزواج قبله.
- قـَـدّر، ولطـَفَ.
= مازلت تريد الانتقام.
-…. أنت تحلمين.
= هو سعيد بحبى.
- أراه يسير ويداه مرفوعتان، وفوهة حبك مصـّوبة طول الوقت إلى ظهره.
= ترسم له صورة مثل صورك الباهتة وهو ظفره برقبتك.
- ها أنت تتشطرين فى تسعير الرجال بعد تسعير الطبقات.
= لن تستطيع أن تسخر حتى النهاية.
- أنا لا أعرف النهاية ولا أسعى لها.
= خيبت ظنى… إلى متى تنوى الاستمرار.
- حسب التساهيل، أنا أول الهاربين فى أى اتجاه، وكل اتجاه، أكره التحديد كرهى لعماك.
= وغد، تفخر بجبنك.
– أحسن من ادعاء غيره.
= لابد من وقف هذا العبث.
- تخافين المواجهة.
= قلبك ممتلئ حقدا.
- …. ألم يكن الحقد ثروتنا التحريضية؟ فلماذا تتنكرين له الآن.
****
ونواصل الأسبوع القادم استكمال الفصل الرابع “ملكَة مَنّاع”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “مدرسة العراة” الجزء الثانى من “ثلاثية المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1977، الطبعة الثانية 2005، الطبعة الثالثة 2019) والرواية متاحة فى مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية – المقطم – القاهرة.