نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 1-6-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 6118
(ثلاثية المشى على الصراط)
رواية “الواقعة” [1]
الفصل الرابع:
اللهو الخفى (3)
…………………….
……………………
* * *
كان اليوم يوم جمعة بمحض الصدفة، واعتبرت ذلك عبئا ثقيلا لا قـِـبـَــلَ لى به، إذ كيف أمضى كل هذه الساعات تحت كثبان هذه الرمال المتماوجة بعد أن اختفى كل شىء آخر، وكيف أواجه زوجتى طول النهار؟ تـرى هل تتوقع تغيرا فى معاملتى بعد ما كان؟ أنا لم ألاحظ شيئا فى تصرفها حتى الآن، ربما كانت أكثر واقعية فاعتبرت الأمر كله مجرد حلم عابر، وعزمتُ ألا أفاتحها، لا أحد يضمن شيئآ، هل من مهرب؟
لبست ثيابى بسرعة وخرجت وليس فى نيتى وجهة معينة، أقفلت الباب خلفى وقبل أن ألتفت إلى الدرج لأهم بالنزول، توقفت نظراتى على باب الشقة المقابلة، مازال ذهنى يستطيع أن يفكر بالرغم من انطفاء شعلة أمس، هذا وقت الأستاذ غريب، سوف أذهب لأبحث عن بعض مفاتيح هذه المشاعر التى اختفت، حتى لو كان هو بلا مشاعر فقد يعرف مفاتيحها حتى لو لم يحسن استعمالها، لن ألعب معه “كيكا عالعالي”، لن أسمح لتصورى أن يرسمه لى وقد غمرته الشماتة إذ أطرق بابه، لن يحول بينى وبينه شيء، لن أقرأ فى عينيه”أخيرا جئت”. لقد تقدمت في”الكار”وتمركزت على قاعدتى المقامة فى كوكبى الخاص الذى لا أتركه إلا لأحتوى أهل الأرض بلا تمييز، هذا ما حدث يوم أمس، أعتقد أننى أستطيع أن أعرف الآن من هو غريب على وجه التحديد، ولعلنى أعرف “لماذا”أيضا، مع أننى لم أعرف بعد من أنا، قدرتى على الحكم على الأشياء قد شحذت لما تطايرت الأقنعة القديمة رغما عنى، أصبحت قادرا على الرؤية متحملا الخطأ، أتذكر أيام المراهقة وأحس بوجه الشبه، هناك اختلاف واضح، فأنا هذه الأيام لست متحمسا لأن أهدى أو أهتدى، أنا فقط قادر على المواجهة.
طرقت باب غريب وفتح لى مرحبا فعلا وكأنه كان ينتظرنى فى نفس اللحظة، لا شماتة ولا تحد كما توقعت، ربما كانت الشماتة فى المرة السابقة مجرد تصوراتى أنا،
- تفضل.
دخلت دون تردد، وجلست فى الصالة وبقايا قطعة جبن أبيض منزوية فى ركن طبق من البلاستيك على المنضدة، ونصف رغيف جاف يرتجف بجوارها من البرد، وأربعة كتب متناثرة بجوارهما، وكراسة مغلقة على قلم مختبئ فى طياتها فى استحياء، أحسست كأنى رأيت هذا المنظر قبل ذلك رغم أنى لم أدخل داخل شقته هكذا أبدا، بدا وجهه طيبا ومرحـبا عكس كل تصوراتى وأنا بعيد عنه، وجهه لم يخل- طبعا – من بعض الدهشة،
- تشرب شيئا ساخنا فى هذا البرد.
- شايا لو سمحت.
- ليس عندى شاى؟ عندى ينسون أو حلبة.
لم أتردد فى طلب شىء ما حتى تتاح لى فرصة التأمل والتفكير والاستعداد لشىء لا أعرفه تفصيلا، عندى رغبة فى الاستكشاف يصاحبها خوف من الامتحان، كنت أشعر أنى أفتح على نفسى بابا كنت أغلقته واسترحت، لكن ما وراءه ظل كامنا فى نفسى كالشقة المقابلة، حتى آن الأوان.
هل حقيقة آن الآوان؟
ياليته يحدث.
ويارب لا.
ذهب غريب يعد المشروب الساخن.
من فرجة باب الحجرة المقابل لمحت سريره وقد تكور عليه غطاء كالح لا تستطيع أن تميزه إن كان “لحافا”أم بطانية، الملاءة البيضاء – تاريخا – أصبحت أميل إلى السواد، تسحبت إلىّ ابتسامة قديمة وأنا أتذكر القرداتى يسأل قرده “نوم العازب أزاى”، لم لا يتزوج هذا الغريب الطيب؟ كيف يصرّف أموره؟
- تفضل يا أستاذ عبد السلام.
- شكرا.
جلس بجوارى فى وداعة طفل، وأخذنا نرتشف هذا السائل الذهبى فى هدوء، وانتظر كل منا أن يبدأ الآخر بالحديث.
- لماذا لا تتزوج يا أستاذ غريب؟
انزعج قليلا ولكنه سرعان ما استعاد ثقته وهدوءه.
- هل عندك عروسه؟
(هل بدأت المباراة؟ واحد صفر)
(……..)
سخيف هذا الصمت، لا، لن أرد على الهدف حتى لو تمزقت شباكى كلها من كثرة أهدافه، سوف أغامر لأكتشف، ورزقى على الله.
- أنا أمر هذه الأيام بشىء جديد، تصورت أحيانا أنك تعرف عنه أكثر منى.
- خير يا أستاذ عبد السلام؟
- الأسئلة عندى زادت عن الأجوبة، ولا أكاد أمسك بخيوط تفكيرى، أشعر أحيانا أن كتلة تفكيرى مثل لفة الصوف التى تشابكت خيوطها بلا أمل فى سـلسلـتها مرة ثانية،
- أنا سعيد بلقائك.
لا، … ليست شماتة، .. ولن تكون صحبة، هو مجرد لقاء، أنا لا أحتمل المشاركة الحقيقية لأى درجة، أنا لم أقفل باب زوجتى لأفتح هذا الباب، ليقف كل فى مكانه، ..”كما كنت”. سألته فجأة دون مقدمات ولا تردد.
- لماذا نعيش ياغريب، ياأستاذ غريب، هل تعرف؟
- يقولون: لنعبد الله.
- هذا ما تعلمناه فى رياض الأطفال، ومن فوق المنابر، ولكن كيف نعـبد الله فى هذا الزمان؟
- وأنت ما رأيك، ؟
- جئت هنا لأقول لك إنى لا أعلم.
- ولا أنا.
واتتنى الشجاعة لأواصل انسحابى الهجومي.
- – إذن، لماذا نستمر؟
- لا أشعر أنى مستمر.
- وماذا تنتـظر؟
- لا أدرى.
…… ولم تهتز خلجة فى وجهه!.
تُرى هل مر يوما بمثل مشاعرى أمس، وهل يستطيع أحد أن يمر بمثل هذه المشاعر ثم ينتهى كهلا باهت اللون حاد القطع هكذا؟
اسيقظ فىّ الإنسان السيف فجأة:
- ولكنى أحس أنك تدرى يا غريب.
شىء ما يحدث عندما تسقط الألقاب وحدها، أشعر أن حاجزا ما يتحطم؟ أشعر بالراحة أكثر من ذى قبل، لأول مرة أشعر أنى أصل إلى طبقة الخوف داخل أعماقه، تقدمت بخطوات حذرة، يتقدم هو الآخر، ولكنه تراجع وأستأذن وهو يتساءل:
- كيف عرفت أننى أدرى يا أستاذ عبد السلام؟
- انفتحت فى بلا مناسبة طاقة من المشاعر تصحبها معرفة تلقائية، قل لى يا أستاذ غريب ماذا تنتظر، ما دمت ترى أنك غير مستمر؟
لابد أن يسلم، لا أحد - مثله – يستطيع توقى هذا الهجوم،
- لعلى أبحث عن السبب.
- كيف؟
- فى هذه الكتب.
- السبب، فى الكتب؟
امتقع وجهه وزاد غموضا وتحفزا.
- إذن، .. أين نجده يا أستاذ عبد السلام؟
- هذا ما جئت أسألك عنه.
تغير وجهه وأحسست أنى نجحت حين بدا مدافعا محتجا، قال على غير توقع:
- تجاورنى عشر سنوات، وتتجنبنى فى منزلك أغلب الوقت، ثم تزورنى بلا استئذان، لنتبادل حديثا كالاتهام، ماذا تريد منى الآن بالضبط يا أستاذ عبد السلام؟
انهار اتفاق وقف إطلاق النار، اكتشفت أنه تخطى حدودا كان قد رسمها لنفسه، حاول أن يتراجع فلم يستطع، تماديت فى الهجوم مهتما ببحثى عن جواب لى، وليس لتحقيق أى نصر خائب.
- إلى متى ستنتظر يا غريب؟
- حياتى انتهت إلى هذه الوقفة المتوازنة، ليس أمامى إلا مواصلة البحث وأنا أنتظر ما أنا على يقين أنه لن يكون.
- يخيل إلى أنك لا تبحث ولا تنتظر.
من أين لى بكل هذا يا ناس !.
- كل شىء وارد فى صفحات الكتب.
- فلا داعى إذن للبحث، مادام واردا بهذه الإحاطة.
- علينا أن يعثر كل واحد بنفسه على ما يؤكد له تمام نفيه.
انتبهت إلى أننا نتكلم عن مجهول يقينى بشكل ما، واصلت بالرغم من ذلك ولكنى غيرت الاتجاه حين تذكرت أنى جئت أبحث عن مفاتيح تلك المشاعر فأحالنى إلى قاضى القضاة، سألته مباشرة:
- أحسست يا غريب مؤخرا بشىء كالزلزال، هز كل كيانى، وكأن القيامة قد قامت، جعلنى هذاالشىء أشك فى كل شئ، كل شىء فجئت أسألك عن طريق لمعرفة ما حدث ظنا منى أن كثرة ما قرأت قد يفيدنى فيما أنا فيه، لكنك خيبت أملى.
يبدو أنى كنت صادقا دون قصد، رأيت وجهه يضطرب حتى اهتز جسمه، فتماسك بجهد قبل أن يقول وكأنه يحدث نفسه:
- لا، … لن أخوضها ثانية.
أدركت أنه يعرف ماذا أتحدث عنه أكثر مائة مرة من ذلك العالم الطبيب النطاسى صاحب مصباح علاء الدين، لكنه يعرفه من شىء جـَـرَى، وليس من هذه الكتب.
- أحس يا غريب أننا لو عرفنا مفاتيح تلك المشاعر فإننا نعرف مفاتيح الحياة ذاتها.
- هذا سبيل خطر، أنا كل همى أن أعرف ماذا عرفوا، لا أن أحاول من أول وجديد.
- ليس المهم ما عرفوه، ولكن كيف عرفوه.
- من أين جئت بكل هذا يا عبد السلام، يبدو أنى أسأت بك الظن، لم تشرب حلبتك،
- أريد ملعقة صغيرة، فأنا أحب أن آكل “الحصا”.
- طعمه مر.
- ليس أمر من أشياء كثيرة، ثم إنى أضع سكرا كافيا.
ذهب ليحضر الملعقة، ولماعاد أحسست أن فراغا قد ملأ رأسى بحيث لم أجد قدرة ولا رغبة فى مواصلة الحديث، جلس مترددا متحفزا على طرف الأريكة، طال الصمت بيننا فاستأذنت فجأة، .. ولم يحاول أن يستبقينى.
* * *
خرجت من عنده وأنا مضطرب متعجب، من أين جاءنى كل هذا الكلام الصعب؟ أنا لا أعرف مـن أنا ولا إلى أين، ولكنى كنت أتكلم معه وكأنى أعرف، أو كأنى أستطيع أن أعرف، ذهبت لزيارته وأنا أحسب أن تحت القبة شيخا، ولكنى وجدت أن ما تحت القبة كتابا، ليس مقدسا على أى حال، أحببته أكثر من أى وقت مضى، كنت أخاف منه، كنت أحس بالنقص تجاهه، أحسده على شىء لا أعرفه، ذهبت كل هذه المشاعر ولم يبق إلا الحيرة والشفقة والألم، ما معنى الألم؟ لقد نسيت هذا اللفظ فى زحمة المشاعر العملية المحسوبة مثل”الرغبة، والشبع، والعطش، وحتى الحزن لم يعد له شكل يحتوى معنى الألم، هذا ألم آخر غير ألم إصبعى “المـِـدُوحس”فى العام الماضى، ألم أحس معه بسريان الحياة وقسوتها فى نفس الوقت، بم يشعر الأستاذ غريب؟ .. هل يشعر أصلا؟ هل يتألم؟ هل يحب؟ وأنا؟ إلى متى، .؟ ..إلى أين؟
زمان – قبل الواقعة – كنت أحسب أن غريب يكاد يعرف كل أسرار العالم، كانت نظراته تقول لى دائما”أين أنت”؟ ماذا تهبـب؟ أنا لا أنسى ذلك اليوم الذى وقعت فيه الواقعة حين كنت أقف أمام شباك إيصالات النور وأنا أستعيد زيارته فى اليوم الاسبق للواقعة، كنت أحس حينذاك أنه يدعونى – سرا – إلى عالمه، فلما استجبت له رغم أنفى وذهبت إليه، ..ولو بعد حين، بناء على دعوته تلك – بشكل ما- وجدته بلا عالـَـم، كان مثل زهرة محنطة مضغوطة بين صفحات كتاب، لا هى تتحلل إلى ذرات يذروها الريح ربما وجدت بذورها أرضا أخرى، ولا هى تعلن موتها باختفاء لونها، مازال لغريب لون محدد لون تحت الجلد، لكنه بلا رائحة، ألمح بذورا جافة يا غريب تلمع بين صفحات كتبك، هل مازالت يا ترى قادرة على الإنبات؟
* * *
لم تمر هذه الحادثة بسلام، كأن ركنا هاما فى تكوين ما – كنت على وشك إقامته – قد انهار قبل أن أبدأ، لم أيأس، ولم آمل فى شىء محدد.
* * *
فتحت لى ” أمانى ” بنفس الوجه الصبوح وتخيلتها تقفز لتتعلق برقبتى مثل زمان، واستقبلتنى الحاجة بنفس الترحاب ونفس الطيبة، مع مسحة من الخوف ذى النداء الخافت، ولكن الأمر بالنسبة لى كان قد اختلف، ما حدث يوم اللقاء الأول لا يعود.
كنت أخشى أن تلاحظ موتى وكذبى، فضلت أن أجلس فى الصالة، أقبلت على الدرس وكأنى أنهى آخر ملفاتى فى العمل، أحسن ما فى الموقف أن أمانى لم تلاحظ شيئا واستمرت فى حيويتها تقفز كل قطعة فيها وكأنها نحلة تحمل العسل، لا تكف عن الطنين حوالىّ، تريد أن توقظنى بأى وسيلة حتى تمنيت أن تلدغنى، جزعت حين تصورت أن لدغتها قد تنهى حياتها بلا ضمان لإحساسى بها، كنت على بعد ملايين الأميال، غبت فى عمق كونى البعيد غير مختار، مرت أمامى الحاجة عدة مرات بمناسبة وبدون مناسبة، كانت تنظر إلى فى كل مرة وكأنها تبحث عن شىء لم أحضره معى هذه المرة، وكلما تأكدت من غيابه أقبلت أقل خوفا وأكثر احتجاجا، كدت أسمعها
- لماذا لم تحضره معك؟
- لست ولى أمره.
- إذن لماذا أحضرته معك فى المرة السابقة؟ فقلبت كيانى.
- هو لا يستأذن فى حضوره أو غيابه.
- إخص عليك.
- إحذرى: إنه قد سمع نداءك.
أفيق من خيالى على صوت أمانى تسألنى سؤالا ما، فأجيب عليها إجابة صحيحة رغم ما كنت فيه، كيف أمكننى ذلك؟ لا أعرف، تقترب لحظة الانصراف التى كنت أنتظرها بفارغ الصبر فإذا بى أفزع، تغمرنى شهوة غريبة نحو أمانى، شهوة جنسية صريحه لاجدال حول طبيعتها، أو هدفها، شهوة مستقلة منفصلة عن كل شيء، ضبطت أعضائى متلبسة بها، خيالى يتصور أو ضاعا جنسية مبتذلة مع هذه الطفلة البريئة، أسرعت بجمع أشيائى وخرجت مهرولا أكاد أعدو.
* * *
فى المرة الأولى كانت مشاعرا من نوع جديد فريد، لا تصلح أن توصف بأى صفة من الصفات الشائعة، لم تكن جنسا ولا حبا ولا فرحة ولا نشوة، كانت كل ذلك مخلوطة بالألم والصحوة، لو أن لى حقا فى أن أسميها لسميتـها “الحياة”يمكن أن يخرج منها الجنس أو الشعر أو الثورة، يمكن أن تحطم بها الذرة، أو تغير تنظيم الكون، أو تجعلك تسبح فى السماء، أو تطير فى قاع البحر، أما هذا الشىء الذى حدث اليوم، وأنا أغادر بيتهم فهو الشبق الجنسى بلا زيادة ولا نقصان، الجنس جنسا مع طفلة هى ابنتى بكل المعايير العادية.
أمر ما يحدث فيقلب أروع الأشياء إلى أخبثها، أمر أنا لا أعرفه.
إذا انفصل الشىء عن الأشياء ضاع كل شىء فى اللاشئ.
ما هذا الكلام الفارغ.
ماذا يجرى فى الداخل؟
هل أجرؤ أن أذهب إليهم ثانية؟ هل أنجح أن أهرب بلا عودة؟
* * *
رجع الغيام يلف فكرى، أظلمت كل مصادر النور ولم يبق لدى سوى هذه الشهوة التى أخذت تتزايد يوما بعد يوم، شهوة تذكرنى بحمار أزرق اللون كبير السن كان من علامات عراقة حظيرة المواشى عند أبى، وكان شديد الاعتزاز بنفسه، يحمل السماد والتراب دون بنى البشر، لا يقبل أن يستعمل “ركوبة”على ما فى ذلك من مزايا، كان ذو فحولة يخشاها بقية الحمير حتى حمار أبى الركوبة المزدان بما يليق، كانت إذا “طلبت”أتان الحمل احتكرها لنفسه بعد كل نقلة سماد، فلا يجرؤ غيره من الحمير الاقتراب منها فى وجوده، كان يجرى فى اتجاه أى أتان يلقاها فى الطريق فإذا حال دونه حائل رفع رأسه إلى السماء وكأنه يستجير بها فاتحا شفريه وهو يجز على أسنانه، كنت وأنا طفل أعجب به أشد الاعجاب وأرهبه فى نفس الوقت أشد الرهبة!! عادت صورته تراودنى وأنا أغلى بالشبق الجنسى المستقل وهو يدفعنى فى كل اتجاه وراء أى عضو أنثوى يظهر فى الطريق، وحتى المصائب التى كانت تحدث فى “الأتوبيس”أحيانا لم تنبهنى إلى تدهورى السريع،
ماذا جرى لي؟ هل أنا الذى لم يكن يعرف كيف ينظر إلى جارته فى مدرج الكلية؟ هل أنا الذى كنت أبتهل إلى الله ساجدا فى الزاوية منذ أيام حتى كدت استوى بالأرض؟ هل أنا الذى كنت أناقش الأستاذ غريب، أدعوه للحياة وأرفض انتظاره السلبى؟ هل أجرؤ على الذهاب إلى بيتهم ثانية؟ لا مفر من معاودة التجربة، ..
لم تمر هذه الحادثة بسلام، كأن ركنا هاما فى تكوين ما – كنت على وشك إقامته – قد انهار قبل أن أبدأ، لم أيأس، ولم آمل فى شىء محدد.
* * *
فتحت لى ” أمانى ” بنفس الوجه الصبوح وتخيلتها تقفز لتتعلق برقبتى مثل زمان، واستقبلتنى الحاجة بنفس الترحاب ونفس الطيبة، مع مسحة من الخوف ذى النداء الخافت، ولكن الأمر بالنسبة لى كان قد اختلف، ما حدث يوم اللقاء الأول لا يعود.
كنت أخشى أن تلاحظ موتى وكذبى، فضلت أن أجلس فى الصالة، أقبلت على الدرس وكأنى أنهى آخر ملفاتى فى العمل، أحسن ما فى الموقف أن أمانى لم تلاحظ شيئا واستمرت فى حيويتها تقفز كل قطعة فيها وكأنها نحلة تحمل العسل، لا تكف عن الطنين حوالى، تريد أن توقظنى بأى وسيلة حتى تمنيت أن تلدغنى، جزعت حين تصورت أن لدغتها قد تنهى حياتها بلا ضمان لإحساسى بها، كنت على بعد ملايين الأميال، غبت فى عمق كونى البعيد غير مختار، مرت أمامى الحاجة عدة مرات بمناسبة وبدون مناسبة، كانت تنظر إلى فى كل مرة وكأنها تبحث عن شىء لم أحضره معى هذه المرة، وكلما تأكدت من غيابه أقبلت أقل خوفا وأكثر احتجاجا، كدت أسمعها.
* * *
فى اليوم التالى: فتحت لى الحاجة بنفسها ووجهها الطيب هو هو، بسمتها الوديعة تملأ صفحته ورائحة المطبخ تفوح منها، وفى إحدى يديها حزمة ملوخية وفى الأخرى سكين، أمانى تكاد تقفز “من”داخلها لتتعلق برقبتى مرحبة، كدت ألتهم العجوز من أول وهلة، لاحظت نظراتى وبدا عليها الغضب والدهشة والرغبة فى آن واحد.
- أهلا وسهلا تفضل استرح من السلم، أمانى لم تحضر بعد، وسوف تتأخر فى حفل المدرسة السنوى.
هز الحمار ذيله فى أحشائى ودخلت دون تردد.
- كيف حالك يا فتحية (سقط لفظ “الحاجة”وحده، أو بفعل فاعل).
- الحمد لله، … ها نحن نحيا
– ليس تماما، المرأة كالزهرة تذبل إذا لم يروها الماء المحمل بالطمى.
نظرت إلىّ فى دهشة حادة مستثارة، وتظاهرت بالغباء، ..
- كله من عند الله.
أكملت وكأنى لم أسمع.
- النار فى داخلك لم تهدأ رغم مظاهر ذبولك.
نظرت فى حذر أكبر، وتمادت فى التغابى.
- يرحمنا الله من عذابها ويهدينا جميعا.
- ربنا لا يرضى الظلم، وأنت تظلمين نفسك.
- هو أرحم الراحمين.
- خلقنا لنعيش، نارك لم تنطفئ، أنا ألمح جمرها يتوهج تحت رماد الصبر المزعوم.
احمر وجهها ولم تفلح فى أن تستمر فى الغباء، ارتجف جسدها وكأنه اشتعل فجأة، راح لهيبها يقوى العاصفة ويقاومها فى آن، حاولت أن تتمالك نفسها قائلة:
- النار للعصاة فى كل زمان.
قالتها وكأنها تذكر نفسها، حتى لا تنسى.
- نار الآخرة فى علم الغيب.
- علمه عند ربى، كيف حال المدام يا أستاذ عبد السلام.
تجاهلت الإنذار للتذكرة، سقطت كل الحسابات التى لم تكن موجودة أصلا، واصلت بلا تردد.
- أنت لم تعرفى الحياة يوما، كل جزء منك ينبض ويستغيث قبل قهر السنين.
- ماذا جرى لك يا عبد السلام يا ابني؟ أنا فى عمر والدتك.
نهق الحمار بأعلى صوته وهز ذيله بلا انقطاع.
- أريد أن أريك شيئا لم تعرفيه فى حياتك، .. أنا أحبك.
رغم تحفـزها الدفاعى رأيت كيانها يهتز، كادت تسقط حزمة الملوخية من يدها،
لم أتردد، شفتاها فى فمى والنار تغلى فى عروقى، دفعتنى بعنف، سقطت الملوخية على الأرض لم أتراجع، راحت تدفعنى بيدها الأخرى الممسكة بالسكين، لمع النصل فى عينى، ذعرت ذعرا حقيقيا وبدأت فى التراجع، وقبل أن أتبين ما يحدث غـمرت وجهى بصقة هائلة.
* * *
خرجت أجرى إلى الشارع، ليس معى منديل، أمسح السائل اللزج من على وجهى بأصابعى فينمحى معه كل ما كان، حتى معالم وجهى، ياليت.
*****
ونبدأ الأسبوع القادم فى تقديم الفصل الخامس “عقل بالى”
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “الواقعة” الجزء الأول من “ثلاثية المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1977، الطبعة الثانية 2005، الطبعة الثالثة 2019) والرواية متاحة فى مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية – المقطم – القاهرة.