نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 25-5-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 6111
(ثلاثية المشى على الصراط)
رواية “الواقعة” [1]
الفصل الرابع:
اللهو الخفى (2)
……………………
……………………
*****
ليال وأيام لا أعلم كيف تمضى، أحس أن كابوسا هائلا يكتم أنفاسى، أصحو وكأنى نائم، وأنام وكأنى مستيقظ تماما، ولكنى مقيد الحركة فى الحالين، أحاول أن أتخلص من هذه الأقراص اللعينة التى نجحت فى تجفيف ريقى بقدر ما كادت تطرحنى أرضا، كانت عملية إعطائى الحبوب تذكرنى بشربة زيت الخروع التى كانت مقررة علينا ونحن أطفال كل شهر لتغسل الجوف وتجلى الذهن وتعالج الدمامل، لم نكن نجنى منها إلا هذا الشعور بالقىء، كنت أحاول رشوة أبى ليعفينى منها لو أنى طلعت الأول فى امتحان الفترة الثانية، ماذا يعفينى من هذه الأقراص اللعينة الآن؟ أنا مستعد لأى شىء حتى لو وضعوا فى عينى ”ششما” فإنه أرحم، لماذا لم يفكر هذا الطبيب فى ذلك بعد فحص عينى بمصباحه السحرىّ؟ أنا طول عمرى أفضل الششم الأسبوعى على زيت الخروع الشهرى حتى لو كان كالشطة ذاتها، بدأت فى التحايل على إخفاء الحبوب ثم إلقاء بعضها خفية من وراء زوجتى حتى اختفت كل الأقراص من العلبة بحمد الله، أحسست كأنى كالطائر الحبيس الذى أطلق سراحه فجأة، رأسى صاف وأفكارى عادت تطير بأجنحة من نور فى كل مكان، لم يعد يقيدها هذا الثقل الكيميائى، استعدت حريتى فجأة وعرفت قيمتها ولن أفرط فيها ثانية تحت أى وهم من أوهام العلاج، حتى لو اقتضى الأمر أن أعيش فى السر بقية حياتى، سوف أخفى كل شئ، سوف أحذر كل نصيحة بعد الآن، المدير لا يفهم إلا فى الإدارة، والطبيب لا يفهم إلا فى الطب، ما عندى ليس طبا ولا إدارة، إنها أشياء لم تدخل بعد قاموس عالمنا الأرضى، لا يوجد فى الدنيا أغلى من الحرية.
*****
خرجت إلى الشرفة ووجدتنى أستنشق الهواء بعمق طال شوقى إليه، لعلى كنت أتأكد أنى طليق بعد إزاحة هذه الأحجار الملونة عن خلايا مخى، رحت أرى العربات فى الشارع وكأنى أشاهد لعب الأطفال تتصارع للوصول إلى هدف غامض، أحس بخلايا جسدى تتحرك تحت جلدى فى يقظة حديثة لاذعة، لا أكاد أعرف لنشاطها هدفا معينا، يبدو أن مجرد محاولة البحث عن هدف هو شىء سخيف ليس أسخف منه إلا محاولة البحث عن معنى، ماذا يقول لى هذا الإحساس الجسمى تحت جلدى؟ لا شىء إلا أنه يشعرنى بالحياة “كما هى”.. ربما دون هدف، تـرى هل كل هؤلاء الذين يتحركون فى الشارع يشعرون بهذا الشعور الخاص؟ وإذا لم يشعروا بشعور الحياة هذا فهل هم أحياء؟ وكيف؟
تحول نظرى إلى الشرفة المقابلة فلمحتها: “أمانى”، عصفورتى وروح قلبى، لوحت لها بيدى، كادت تقفز من الشرفة وهى تلوح لى هى الأخرى بعينيها ويديها ووجهها، وصدرها، وكلها، تذكرت مرة أخرى ذلك الإحساس القريب مما أنا فيه والذى غمر جسدى قبيل إعلان الرجولة، ذلك الإحساس اليقظ الذى يعطى نسمة الهواء معنى، كنت فى سن أمانى ولكنى لا أعلم متى وكيف اختفى هذا الشعور، ثم إنى لا أعلم أكثر لـِـمَ عاد هذه الأيام؟ لماذا أشعر أنى فى سنها وربما أصغر؟ لماذا أحس بنبض كل خلية فى جسدى وعقلى حتى أظافر رجلى؟ يبدو أن هناك ما ينبغى أن يسمي”لغة الخلايا”وهى أعظم وأصدق وأبهج من لغة العيون أو لغة القلوب، ناهيك عن تلك الألفاظ التى دخلت قاموس الإنسان لتفصـل بين عواطفه وعقله وجسده، ربما كان هذا الشعور الكامل هو الذى أشعرنى أن أمانى تلوح لى “بكـلها”، خلاياها تقفز من تحت جلدها وخلاياى كذلك، لم تعد مثل ابنتى الصغيرة، أحس أن خلايانا يمكن أن تلعب سويا، تقفز الحبل، تتدحرج على الشاطئ، تطير فى السماء، تذوب فى البحر، لم تعد أمانى ابنتى، ماذا أصبحت لى؟ حبيبتى؟ أختى؟ أمى؟ صديقتى؟ لا، هل هى “أنا “؟ يجوز.
اختفت من الشرفة، لمحتها بعد لحظات فى الشارع، نزلت دون تفكير، تسقط كل حسابات الأرض.. ابنتى، عشيقتى، لوليتا، عفريتا، هذا آخر ما يمكن أن أفكر فيه الآن، نزلت هكذا والسلام.
كانت أمانى تمسك بشىء ما بين ذراعيها ضاغطة بهما على صدرها – كتب أو حقيبة – وكان هذا الوضع يجعل جسمها يتحرك بأكلمه فى نعومة متماوجة تتناسب مع توقف حركة المجدافين عن ضرب الهواء، كانت مثل السفينة الشراعية تسير حسب الريح رافعة رأسها لتلتقط موجات النسيم فتنساب فى سحر هادئ، أيام الثانوى كنت أعجب من هؤلاء الطلبة الذين يتناوبون توصيل الطالبات إلى المدارس من المنازل وبالعكس، محتفظين ببعد ثابت منهن مثل الكلاب الأمينة، كنت أتساءل عن جدوى كل هذا؟ يبدو أن فى الإنسان قوى جاذبة للمادة الحية لا تظهر إلا إذا ترتبت أجزاؤه مثلما كنا نمغنط الدبابيس فى حصة الأشياء والصحة، لازالت خلاياى نشطة تخاطب أمانى فى صمت، ضجرت من هذا الصمت وأصابتنى شجاعة ليست فى الحساب، قفزت إلى الرصيف الآخر بعد أن سبقتها ببضعة أمتار ثم تمهلت حتى اقتربت منى، كادت تتخطانى وهى لا ترانى، التفتُّ إليها حتى لا تضيع الفرصة، أية فرصة يا أكبر عيـّـل؟ فرحت بى فرحة حقيقية، تحدثتْ معى بلا تردد وهى تكاد تتعلق برقبتى مثل ما تعودت منذ كان طولها لا يتعدى ركبتى، أطلقت فرحتى أنا الآخر دون خجل، مشاعر قريبة من المشاعر التى مرت بى مع آمال فى خيالى إلا أنها أعمق طفولة وأكثر جرأة أيضا، نفس الإشكال: لا تستطيع أن تسميها جنسية كما لا تستطيع أن تستبعد منها الجنس، شىء جديد أقرب إلى تفتح الزهر أو اهتزاز البطة لحظة خروجها من الماء، أو نشوة رذاذ المطر تحت الشمس، سألتها عن دروسها وعن واجباتها وعن ميعاد عودتها، أجابت فى فرحة غامرة عن كل سؤال، وكأن فى إجاباتها البسيطة إجابات لكل الأسئلة الحائرة فى الكون، عرضت عليها خدماتى فى الجبر والهندسة فسعدت بذلك سعادة بادية، ووعدتها بالمرور عليها لبدء الدروس تطوعا بعد استئذان والدتها الحاجـّـة.
*****
فى اليوم التالى مباشرة ذهبت إلى منزل أمانى فى الساعة الخامسة بعد الظهر، ولم أهتم بأن أخبر زوجتى عن وجهتى أو لعلى تعمدت ذلك، لا علاقة بين العائلتين إلا تحيات الشرفات المتقابلة، طرقت الباب وفتحت لى “الحاجة”مرحـِّـبة داعية شاكرة، اتجهت إلى حجرة “الجلوس”، أريكتان عربيتان متقابلتان مرتفعتان عن الأرض بشكل ملحوظ، أمامهما منضدة مستديرة، عليها قرص من الرخام مشقوق من جانب وقد عض على المفرش القديم الملقى عليه فى إهمال عضة يبدو فيها الإصرار وعدم الأمان بعد الكسر، جلست وحدى أنتظر تلميذتى، وابنتى، وصديقة رذاذ المطر، فى لهفة يقظة ساخنة.
ماذا جرى لى؟ ماذا أفعل؟
منذ أطلقت سراح عقلى بالكف عن تعاطى هذه العقاقير وأنا أتجنب مثل هذه الأسئلة خشية أن تؤدى بى مرة ثانية إلى إحدى هذه العيادات التى يديرها علماء جدا، ولكنى لم أكن أستطيع أن أوقف مخى عن التساؤل فى مثل فترات الانتظار هذه حيث تقفز الأسئلة دون استئذان، ولم يكن ذلك يخلو من فائدة على أى حال.
ماذا جرى لى، .. وماذا أفعل الآن؟
لم تمهلنى “الحاجة” إذ دخلت وقد وضعت على رأسها طرحة بيضاء تظهر بياض وجهها مشوبا بذلك الإشعاع الأحمر الهادئ الدافئ المشرب ببياض خفىّ كانت ملامحها تشبه ملامح ابنتها ولكن على بعد من السطح كأنما هى ملامح مختبئة وراء غلالة تشى بما صنعه حج بيت الله، وزيارة الرسول، وسنوات العمر، ثم التفكير فى مرض زوجها وجنون الأسعار، كل ذلك معا، لكل ذلك وغيره فأنت لا تستطيع أن تتبين عمرها، لتكن طفلة لم تتعد العاشرة أو عجوز تخطت الستين، يتبادل الوجهان فى حذر وراء الغلالة التى لا تميز بينهما.
سألتنى:
- قهوة أم شاى؟
تباطأت فى الإجابة عن عمد، ولكنى قلت فى النهاية.
- أريد أن أحدثـك.
كنت أريد أن أكتشف شيئا لاح لى من بعيد، كما كنت أريد أن أتعرف على حالتى أكثر.
قالت:
- لقد قالت لى أمانى كل شىء؟ لا أعرف كيف أشكرك.
كل شىء؟ ومن أدراها بكل شىء، لم تغير إجابتها اتجاهى الذى لا أعرفه.
- ولكنى أريد أن أطمئن على حضرتك أيضا.
- الحمد لله، صابرين على قضائه.
- أنا تحت أمرك.
- أكثر الله من أمثالك، أنت تعلم ظروفنا منذ مرض الحاج، والمدرسون أصبحوا ندرة، ولا بد من الحجز السابق مثل الأطباء هذه الأيام.
- أمانى ابنتى وأنا أحبها منذ كانت تحبو.
- فيك الخير يا إبنى.
إبنها؟ أنا إبنها وابنتها ابنتى، هى بنت من؟ ضاعت منى معالم الزمن، أحس أن كل الناس ليس لهم عمر، أو هم فى مثل عمرى، لا أرى فى الناس إلا ذلك الجزء من العمر الذى ليس عمرا، نحن الثلاثة أبناء بعض، “هيه”!.
نظرت إلى الحاجة بعمق لا أعرف معناه، ولكنى تصورت أنه يحمل دعوة للعب مثلا، التقت نظراتها بموافقتى على ما لا أعرف، احمر وجهها حتى تراخت العضلات وتباعدت التجاعيد عن بعضها فأشرقت من وراء نفسها، أحسست برغبة فى الاقتراب منها أكثر، عاودتُ النظر إلى العينين، امتقع وجهها هذه المرة فى رعب لا مثيل له، ماذا فعلت بهذه العجوز الوديعة؟ ماذا أحمل هذه الأيام فى عيني؟ ماذا أريد؟ وإلى أين؟ عاودها بعض الهدوء بعد أن كادت تهرول خارجة دون حساب، قالت فى براءة خائفة.
- ماذا؟ ماذا يا عبد السلام أفندى، .. فيه ماذا؟
أطرقت بسرعة وقلت بحزم حان،
- لا شىء يا حاجـّـة، .. كل خير.
- خير يا ابنى اللهم اجعله خيرا، .. سأذهب أنادى لك أمانى.
انصرفتُ، وأنا مازلت أتعجب مما جرى، سمعتها تهمس قبل أن تغلق الباب ناظرة إلىّ بربع عين “يا ساتر استر على الولايا”.
*****
جاءت أمانى بعد قليل كالوردة النضرة، “فرحانة”، لأول مرة أجد أن وقع هذه الكلمة له رنين خاص، تبدو كلمة أكثر تغلغلا فى الجوف من كلمات مرادفة مثل “سعيدة” أو “مبسوطة”، إنها تخرج من الأعماق مارة بكل خلية حتى تملأ الحلق فى وداعة نشطة، جاءت أمانى “فرحانه”، كل خلاياها فرحانه، ليس فى كيانها كله خلية واحدة ضجرة أو صامته، إذا تحدثتْ رقصتْ عيناها حتى تحس بتيار الرقصة يصل إلى لون ساقيها، وإذا ضحكت خدودها بغمازتيها ضحكت أحشاؤها وأصابع قدميها، بل إنى رأيت التآلف ينتقل إلى الجماد من حولها، كانت تجلس على الكرسى وتضع يدها على المنضدة فتدب الحياة فيهما ويصبحان جزءا من نغم الحياة الغامر، مددت يدى، ربت على خدها متظاهرا بأمور غير موجودة، كنت أريد أن أتأكد أنها من نفس المعدن الذى صنع الله منه البشر، كنت أريد أن أتحسس خامتنا فى صورتها الأولى قبل أن تتراكم عليها طبقات الصدأ والخوف والجشع، وضعت يدى على خدها لم أربت عليه هذه المرة، لم تجفل أو ترتعش، سـَـرَتْ فى جسدى رعشة رائعة وكأنى نهلت من مادة الإنسان الخام جرعة تكفينى أن أفخر أنى كنت يوما ما من نفس هذا النوع من الكائنات، الآن تأكدت أن هذه العواطف التى تجيش بصدرى ليست جنسا، وهذه الرغبة فى الاقتراب ليست شهوة، شعرت براحة هائلة، تيقنت أننى إذا عدت بشرا مثل البشر، لو يعاد صنعى من الأول بهذه المواصفات، فسوف أكون طيبا جميلا، هل تقدر الطيبة مهما كان لها من وهج جميل أن تواجه هذا العالم البشع؟ لا يمكن أن تكون هذه الإنسانه من طين إلا إذا كان هناك نوع من الطين المشع، ربما توجه البحث العلمى لإعادة اكتشاف هذا النوع حتى يعاد صنع الإنسان الذرى الذى يتناسب مع العصر، غير أن هذه المادة البشرية الخام غير قابلة للتحطيم أو الانفجار إلا إذا انفجر العالم كله، ربما أكون أنا هو حطام هذا التفجير الخفى، ثـَـمَّ إشعاع أمامى يعيد تجميع أجزائى.
قالت فى دلال:
- عمى عبد السلام، أين أنت؟
- هنا معك.
- أنت تنظر إلىّ كأنك ترانى لأول مرة، هل بى شىء غريب.
– نعم.
- ماذا؟
- أنا أحبك.
- أنا أعلم ذلك، أنت طول عمرك تحبنى.
- وأخاف عليك من الصدأ.
- من ماذا؟
- من التـفـتت.
- من ماذا؟
- من الناس.
- ولكنى لا أخاف، إطمئن.
- لا أعنى ما تعنيه أمك “الحاجة”أو أبيك شفاه الله، لا أعنى أنى أخاف عليك من الغواية أو الفساد ولكنى أخاف عليك من خوفهم.
- أنت خائف يا عمى، أنا أحبك أيضا.
كدت أحتضنها حتى أذوب فيها ويتبخر رذاذ المطر تحت جلدى فى دفء حبات النور التى تشع من كيانها كله على شرط ألا أعود أبدا.
فتحت الحاجة الباب ودخلت تحمل فنجان القهوة فى الوقت المناسب.
- على الريـحه، حسب طلبك، حصلت البركة.
- الله يبارك فيك ويحفظك يا حاجة.
لم أشعر بالحرج أو الذنب، لم يكن بداخلى ما يشين، يا حلاوة! هل يوجد فى العلاقات الإنسانية شىء مثل هذا: بلا جنس ولا ذنب ولا خجل، وبكل الجنس والطمأنينة وهذه الثقة؟ شىء لم نسمع عنه أو نقرأ عنه فى الكتب لأنه ليس فى متناول الوصف حيث هو أغنى من الألفاظ، وأكبر من مجموع الأجزاء؟ نظرت الحاجة بجانب عينها إلى الكتب التى لم تفتح بعد، وانصرفت دون أن يبدو عليها الرفض أو الخوف، غير أنى سمعتها تتمتم هذه المرة”يا منجى من المهالك يا رب”.
بدأنا الدرس مباشرة وتبينت أن أمانى لا تحتاج إلى جهودى التدريسية، بل إن حضورى يمكن أن يكون مضيعة للوقت، أصابنى نوع من السكينة يجعلنى أقول الصدق بلا حساب، حضرت الحاجة وأخبرتها ببساطة عما يجول بخاطرى.
- أمانى شاطرة، وأخشى أن أضيع وقتها فى الدرس دون داع.
قالت الحاجة بانزعاج.
- هل تتركنا يا عبد السلام أفندى ونحن ما صدقنا.
صدقتم ماذا؟ أترككم؟
- أنا تحت أمركم.
قالت أمانى بواقعية لا انزعاج فيها:
- تحضر لتراجع لى، وترى مستواى كل أسبوعين.
قالت الحاجة:
- وتسأل عنى يا ابنى.
- أنا تحت أمركم، ياليت كل الناس مثلكم.
- أكثر الله خيرك يا ابنى.
عادت الدائرة تدور: أنا ابنها وهى ابنتى، وابنتها ابنتى وربما تكون هى ابنة ابنتها، من منهما أكبر من الأخرى؟ شتان بين جوع الأم وجزعها وبين واقعية الإبنة وثقتها، الدنيا تكاد تكتمل فى دائرة أنا أضعف حلقاتها.
لم أنس أن أسأل عن الحاج، دخلت حجرته فوجدت وجهه قد ازداد بياضا من طول بعده عن الشمس، أحسست بنفس الشعور الغامر من السكينة والنشوة مما أكـد لى أن الأمر كله مشاعر إنسانية جديدة – ليس إلا – ولا داعى لتشويهها بالذنب أو حتى بمحاولة التفسير، انحنيت على يده أقبلها وأطلب منه الدعاء، هـَـمـْـهـَـمَ بأصوات غير مفهومة، أخذت من المريض الأبكم المشلول أكثر مما أخذت من الطبيب المختص فى الشلل، استطاع أن يغمرنى بعاطفته وأحسست به وكأنه يعالج شلل عقلى، يا سبحان الله.
خرجت إلى الشارع وكأنى اكتشفت كنزا فى هذا العالم، شيئا نفيسا جدا ولكنه ليس مثل الجواهر النادرة التى أحسست بها زمان، هو شىء عادى ورائع فقط.
لو أن أى واحد رأى رؤيتى فى هذا اليوم لوجد أن الحياة تستأهل أن نعيشها بكل وسيلة وبلا هدف.
إذا كان هذا الشىء موجودا فى عالمنا فلابد أن الله موجود، ما علاقة هذا بذاك؟
*****
كانت الساعة قد قاربت التاسعة مساء، وقدماى تقتربان من منزلنا، لمحت “الزاوية” فى الشارع الجانبى المؤدى إلى بيتى والتى تقع فى بدروم إحدى العمارات وكنت أتعجب وأنا أمر بها يوميا كيف يـُـعبد الله فى بدروم تحت الأرض؟ دخلتها دون تردد، أحسست أنى أدخل غار حراء، لم أجد بها إلا رجلا واحدا ملتحفا بعباءة تغطى رأسه ووجهه وهو يجلس فى ركن من أركانه، كان يهتز هزات رتيبه إلى الأمام والوراء، كأنه بندول الكون، اتخذت مكانى على بعد منه وجلست القرفصاء أنظر فى حجرى، “أحسست”أن جسدى قد بدأ يهتز بنفس النظام فى هدوء ذى نغم، بدأت النشوة تنساب تحت جلدى إلى كل أجزائى ثم إلى كل ما يحيط بى، نظرت إلى أعلى المنبر المكون من درجتين خشبيتين متآكلتين، وخيل إلى أن المكان أصبح أكثر إشراقا ونورا، صليت ركعتين دون أن أتأكد من وضوئى، أحسست بالخشوع الحى، طال سجودى حتى كدت أستوى بالأرض.
تسحبت فى هدوء إلى الخارج دون أن ألقى السلام على الإنسان المجهول القابع تحت عباءته يحسب الزمن الكونى باهتزازه المنتظم.
ما علاقة هذه الأشياء بعضها ببعض: أمانى، بالجنس، بالصلاة، بأمها، بالشلل، بالله؟ بالشيخ؟ بالسجود؟ بالجنون؟ هل تتآلف الأشياء هكذا ونحن الذين نبعثرها؟
حين اقتربت من منزلنا لم أشعر بالرهبة مثل كل مرة، لم أشعر أنى غريب ينبغى أن أتردد فى الطرق على الباب وكأنه ليس له حق الدخول، لم يزل التآلف بين كل الأشياء يملك علىَّ كيانى، وجدتها نائمة، قبلتها على جبينها، ابتسمت وهى نائمة وكأنها تحلم، أحكمت وضع الغطاء حول ظهرها، زادت بسمتها، أطفأت نور الأباجورة حتى لا تستيقظ، التف ذراعها حول عنقى وهى مازالت نائمة، أحسست بالعالم يتجمع بين يدى وكأننا عدنا إلى أيام الخطوبة أو بدء الخليقة، حين التحمت بها أحسست بخشوعى فى الصلاة، ونشوتى حين وضعت يدى على خد أمانى، وهى نفس مشاعرى حين قبلت يد والدها المشلول، خيل إلى أن استجابتها فى الأول قد خالطتها الدهشة أو الخوف إلا أن فيضانى أغرقها وسرى فى عروقها حتى حطم ترددها، وأسكت أسئلتها قبل أن تطرحها حتى على نفسها، فاحتوانا ما لا نعرف.
ونمت كطفل غلبه النعاس بعد أن شبع، وحلمة الثدى لا تزال فى فمه.
*****
فتحت عينى فى الصباح وحاولت أن أتذكر الحلم الذى كنت فيه فلم أستطع، كان واقعا آخر اختلطت به أحداث أمس حتى ابتعد عن متناول وعيى الآن، أخذت أبحث عن المشاعر الغامرة التى ملكتنى طوال أمس بين منزل أمانى وزاوية البدروم وحضن زوجتى فلم أجد شيئا من ذلك كله، نظرت إلى وجه زوجتى وهى نائمة فوجدتها لا زالت تبتسم، لم أستطع أن أستجيب لابتسامتها بـِـسـَـكـِينـَه أمس،
أين ذهب كل ما حدث؟ لم يكن حلما كله، لم يكن حلما أصلا، أستطيع أن أقسم، أنا ما زلت أستطيع أن أفرق بين الحلم والواقع بوعى كامل وحذر غير محدود، منذ ذلك الحادث الأول وأنا لا أسمح لخيالى بأن ينفصل عنى ولا لثوان معدودة.
أمس كان واقعا كله، أين ذهب إذن الآن بمشاعره وكل ما كانه؟
عقلى مازال يعمل بنفس النشاط، ولكن جسدى هامد مثل كيس الرمل، كأن شيئا أطفأ حبات النور حتى انقلبت حجارة من سجيل، إشراقة النور من وراء شفافية الحساب اختفت بعد أن أصبح السحاب كتلا من كثبان رمال متماوجة متحركة، رمال داكنة يمكن أن تغمر قافلة بأكملها فتقضى على كل نبض فيها.
إلى متى سأظل أعيش بالصدفة؟ تأتينى المشاعر دون إنذار فتدب فىّ الحياة وتغمرنى وأغمرها حتى أحس أنه فى قدرتى أن أسوى بشرا مثلى، ثم تذهب عنى دون استئذان فتتركنى مثل عود أذرة جاف فى مواجهة ريح الخريف ينتظر من يخلع جذوره، ويهرس خواءه،
متى يأتى اليوم الذى أضع فيه يدى على مفاتيح هذه المشاعر؟ آتى بها وقتما أريد، وأختزنها حين ترهقنى الحياة العادية، أو حين يغمرنى خدرها بما يفوق احتمالى أو يعوق حركتى، كيف يعيش بقية البشر؟ بها؟ بدونها؟ إذا كانوا يعيشون بها فكيف يتحملون تقلباتها تلك؟ وإذا كانوا يعيشون بدونها فلماذا يعيشون؟
*****
ونواصل الأسبوع القادم استكمال الفصل الرابع “اللهو الخفى”
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “الواقعة” الجزء الأول من “ثلاثية المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1977، الطبعة الثانية 2005، الطبعة الثالثة 2019) والرواية متاحة فى مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية – المقطم – القاهرة.
رائعة .نقس الحضور الحي الان
صباح الخير يا استاذي
اوحشتني وارغمتني الاسطر علي ان اعلق عليها ومعذرة لنفسي لتاخري وان كنت لا اغيب عنك و عنها . ومعذرة لمحدوتية كلماتي لكن .شعرت بحضور يخلطني دما ولحما بالحياه وكانه يوقظ مشاعر من سبات عميق لهفة. قشعريره. حب انسجام او نوبة حياة وشعرت بانك هنا كعادتك هنا واشياء اخري …