نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 18-5-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 6104
(ثلاثية المشى على الصراط)
رواية “الواقعة”[1]
الفصل الرابع:
اللهو الخفى (1)
كلما حصلت على درجة من التوازن، أو عقدت صلحا خفيا بين شخوصى، أو حاولت أن أكمل ما بقى لى من حياة بطريقة سرية، انقلبت موازينى فجأة بمجرد اقتراب مخلوق بشرى منى اقترابا صادقا خطرا، لو أنى كنت أملك القدرة على فعل شىء آخر، غير الفرجة والتخفى والمخاطرة غير المحسوبة، لاستمر توازنى – بشكل ما – لفترة أطول، ربما أصبحت فيلسوفا، أو ممثلا فى فرقة مجهولة، أو على أسوأ الفروض “مثقفا”مثل الأستاذ غريب، ولكنى كنت خلوا من المواهب – رغم فترة المراهقة العنيدة التى أمضيتها فى البحث والقراءة التى انتهت بفرمان سلطانى بالكف عن إضاعة الوقت فى الكلام الفارغ، بعد أن تكرر رسوبى فى شهادة “الثقافة العامة “، قاومت هذا الفرمان بعض الوقت إلى أن استسلمت له لما لم أجد جدوى من كل هذه القراءة، وكأنى أصدرت أنا الفرمان الفعلى من داخلى، أتعجب حين أذكر كيف صدر هذا الفرمان فجأة، انتقلت من النقيض إلى النقيض، الظاهر أن كل التغيرات الحقيقية فى حياة البشر تحدث فجأة، إما إلى أعلى أو إلى أسفل، ولكن من المؤكد أنها تحدث فجأة، أو على الأقل: هى تبدأ فجأة،
منذ لقائى الفريد مع هذه المخلوقة العجيبة التى وضعتها بين السماء والأرض، قدمها على الأرض بلا جدال ورأسها فى السماء بلا تفكير، وأنا فى دوامة أكاد لا أفيق منها، نجحت فى الانتقال إلى مكتب آخر، واستقبلنى الزملاء الجدد بالترحاب وحب الاستطلاع أول الأمر، ولكن سرعان ما تغير الحال، لم أحاول أن أبدو طبيعيا طول الوقت، فهم لا يعرفونى قبلا ولا مجال للمقارنة بين ما كنته وما هو أنا الآن، تصرفت بتلقائية نسبية حتى يحسبوا أننى “هكذا”منذ البداية، فيقبلوني”هكذا”أيضا، صمتى المفاجئ، وحديثى البعيد عن اهتماماتهم، وتعليقاتى الساخرة أحيانا، الشاذة أحيانا، هى أنا، عرفت بينهم “هكذا”: إنسان غريب الأطوار، وكأنى طول عمرى “هكذا”، أحسست أن من حقى أن أفرض عليهم بعض أطوارى التى أصبحت جزءا من وجودى هذه الأيام، حتى أتمكن من الاستمرار، ومع ذلك فأنا غير قادر على الاستمرار، الهمس يزداد، وأحوالى الداخلية لا تهدأ، تذكرت كلمات المدير فى ذلك اليوم البعيد “كل هذا يسمونه اضطراب فى الأعصاب أنصحك أن تستشير أحد المختصين فى الأعصاب”.
وماذا فى ذلك؟ خلق الله الطب والمرض، ولكنى سأذهب هذه المرة خفية من وراء زوجتى، يبدو أن حياتى كلها قد أصبحت حلقات فى مسلسل سرى، ربما نحن نعيش جميعا بعقود سرية، وغاية ما يمكن عمله هو أن ننقل هذا السر من جيل إلى جيل لنحافظ عليه من الضياع ربما يتوصل الجيل الأخير إلى اللغز، أو لا يتوصل أبدا، كل من يحاول أن يكتشف هذا السر يصيبه ما أصابنى هذه الأيام، فما بالك بإفشاء هذا السر، .!! يكفى أن أعيش وحيدا بطريقتى الخاصة فى كوكبى الخاص حتى أكفــر عن خطيئتى حين اقتحمت المنطقة الخطرة فى محاولتى للأكل من الشجرة المحرمة، حين جرؤت ذات صباح أن أبحث عن معنى لما يقال، لأجيب بصدق عن سؤال تلك المرأة عن “إسمى” “هويتى”، بالرغم من كل ذلك فسوف أذهب إليه، ربما وجدت عنده بعضا من هذه الوصفات الكيميائية التى تتزايد مع عدد الأتوبيسات ومسلسلات التليفزيون.
دخلت إلى عيادته المزدانة حوائطها بأشياء كثيرة، وشهادات عظيمة، وعضويات فى جمعيات عالمية عليها رموز علمية لا أفهم منها شيئا، إلا أنى أعرف أنه كلما زادت الحروف المرصوصة بجوار الاسم زادت كمية العلم المرصوص فى الدماغ، كما يوجد على حوائط العيادة عدد من المعلقات الشعرية التى ذكرتنى بمعلقات الكعبة فى الجاهلية، وهى تحوى قصائد مديح تطمئن كل من يبحث عن العون من أهل العون، إلى ما ينتظرهم من معجزات، استرعى نظرى من بين هذه المعلقات قصيدة تبدأ هكذا:
”أتيناك وقد شـُـلـَّـت أيادينا، خرجنا من لديك وقد شفيـنا”.
أى والله، إذن فأنا فى رحاب ساحر عالم قادر والحمد لله، يبدو أننى اهتديت أخيرا إلى ضالتى، تلفت حولى أرى الزملاء فى المرض، فوجدت عددا لا بأس به ممن شلت أياديهم أو أرجلهم، وقلت فى نفسى “إن شاء الله سوف يخرجون من لديه وقد شفوا بإذن العليم القدير” أخذت أنظر إلى أعضائى أبحث عن عجز مشابه حتى أشارك فى هذا الأمل الأكيد، ولكنى لم أجد شللا قد أصاب عضوا بذاته، تعجبت وخشيت أن أكون فى المكان غير المناسب، لكن طمأننى أن هناك آخرين مثلى لا يبدو عليهم علامات الشلل الظاهرة، سمعت صوت أمى زمان وهى تدعو على غاضبة بأن أصاب “باللهو الخفي”، ربما يكون هذا هو مرضى الحقيقى أو ربما يكون الشلل قد أصاب مخى دون أطرافى، فكثيرا ما يخوننى مخى فجأة حين يعجز عن مواصلة تتبع فكرة معينة كنت ألاحقها بإصرار، أتعجب من هذا الذى الذى يحدث: الفكرة فى متناول يدى، ألمسها، وأتركها تبتعد قليلا لألاحقها بثقة القط يلاحق الفأر، ولكن المطاردة تنقلب فجأة لتصبح بين غزال جامح ودينصور غبى، يركض الغزال ويختفى بين غابة من المشاعر المتضاربة، والدينصور فاتح فاه فى دهشة الأبله المتجمد من هول المفاجأة، أليس هذا هو الشلل بعينه: أن تنقلب المطاردة بين القط القادر والفأر العاجز إلى مطاردة بين الغزال الهارب والدينصور الغبي؟ هذا هو مرضى :”شلل فى العقل”.
كيف كنت أفكر قبل ذلك؟ لماذا لم ألاحظ هذا الانفصال العجيب بين الفكرة والمفكر قبل اليوم؟ ما أروع أن يسألك أحدهم سؤالا فتجيبه على الفور، عمل تلقائى يفرز الأفكار فى كتل متراصة بطريقة آلية مثل ماكينة الجيلاتى فى ليالى رمضان فى سيدنا الحسين أو على شاطئ الاسكندرية، يضغط على الذراع فيخرج قمع الجيلاتى متعدد الألوان فى كتلة مخروطية متماسكة، هكذا يعيش إنسان اليوم دون حاجة إلى تفكير آخر، يبدو أن المرض يبدأ حين تضطر إلى تقليب أرشيف مخك للبحث عن إجابة مناسبة ذات معنى لسؤال ليس له معنى، فأنت معرض أثناء تقليبك الأرشيف أن تقفز إليك أسئلة لا حصر لها ولا لزوم لها، وكأنها مجموعة من الكلاب الضالة الصغيرة التى التقت بصاحبها بعد طول هجر، ثم تمضى فى تقليبك للأرشيف تبحث عن معنى حتى تقترب من الطبق الأوسط المغطى منذ الأبد، والمحرم رفع غطائه كشرط لإكمال الوليمة، فإذا كنت أهوج أحمق فسوف تفعلها، وهنا يقفز الفأر من تحته ويجرى على المائدة يقلب الآنية ثم يقفز ليختبئ فى ركن من أركان الحجرة، وتبدأ المطاردة بين القط والفأر النشط، حتى هذه اللحظة أنت ما تزال متمكنا من اللعبة، تترك الفأر وقتما تشاء لأنك واثق أنك ستلحقه كما تشاء، ثم تثور عاصفة المشاعر الهوجاء لتجد نفسك فى غابتها، وتنقلب المطاردة إلى لعبة الغزال والدينصور ويحدث الشلل المرعب.
يا “نهار أسود”.. كيف تتوارد هذه الأفكار بهذا التسلسل الغريب العميق، .؟ على كل، .، شىء يقطع ملل الانتظار! فلأستمر فى التفكير (وكأنى أستطيع ألا أفعل):
لست أدرى إلى أين تجرنا تلك الحماقة التى حذرتنا منها كل الأديان والأساطير القديمة”لا تأكل من الشجرة المحرمة” ” لا تسأل عما لا يعنيك، “لا تسألوا عن أشياء إن تـبد لكم تسؤكم”.”لا يغلبك حب الاستطلاع حتى تكشف غطاء الطبق الأوسط، لا تفتح الحجرة المقدسة فى سرداب سكة الندامة”، كل هذه النصائح الأزلية هى لتحافظ على آلية ماكينة الجيلاتى التى تضخ الأفكار السابقة التجهيز حتى لا يصير الإنسان إنسانا قبل الأوان، متى الأوان؟
وأنا؟ أنا مالى بكل هذا؟ لم يخطر فى بالى أن أكون “إنسانا”فى يوم ما، أنا لا أعرف معنى الكلمة، كنت قد تبت إلى الله أن أعود لهذه المحاولة من بعد خيبتى فى المراهقة، ما ذنبى أنا الآن فى كل هذا؟ أنطق بشىء كالحكمة، وأبحث عن مجهول اسمه الحقيقة، وأدّعى إمكان المعرفة دون قصد.
المصيبة أننى لا أكف عن التفكير فى هذه المسائل وتناولها بجد وحماس لا يتناسب مع إدراكى بأنى مقحم فيها دون إرادة كاملة، تُـرى هل سأجد عند رب الطب هذا أجوبة لهذه الأسئلة؟ هل سيعيد حـَـبـْــك الغطاء على الفأر الهارب؟ وإذا فعل فكيف أستجيب له؟ يبدو أن المحظور قد وقع بغير رجعة، حتى لو عاد الغطاء إلى مكانه فإنى أعلم أن تحته فأرا، هذه الخدعة لا تصلح إلا للمواطنين المسالمين الذين لم يرتكبوا هذه الحماقة أصلا، أما من فعلها مثلى، .. فماذا يكون مصيره؟
أفقت من ذهولى الظاهرى على صوت الممرض يسألنى هل أخذت ميعادا سابقا؟ لماذا؟ هل هو موعد غرامى لابد من الاتفاق عليه مسبقا؟ ولكن النظام هو النظام لا يستثنى إلا بنفحة سخية لإقناع ماسك مفاتيح خزائن الحكمة.
- حالة مستعجلة، .. الله يستر عرضك.
- ربنا يشفى، ولكنك، …….الحمد لله.
- الله لا يوريك، تعبت من الجرى وراءه وأريد من يمسكه معى.
- آه، ..!!!
قالها بشفقة حقيقية وكأنه وصل إلى التشخيص المبدئى لحالتى، حمدت الله أن حالتى لها تشخيص سهل يمكن أن يدركه رضوان الممرض من جملة أو اثنتين، ومع ذلك فقد وقف فى هدوء حذر وعيناه تقولان شيئا آخر، ناولته ما قسم، فأصبحت بقدرة قادر من الحاجزين، الوقت يمر ببطء، لا أحاول أن أتبادل الحديث مع أحد، يقترب منى بنظراته شاب خجول من المنتظرين، يهم بالكلام ثم يعاود الصمت قبل أن يبدأ، أحمد الله على أنه لم يبدأ، أمتلئ شعورا به، أكاد أقول “لا”دون أن أعلم على ماذا أعترض.
…..
دخلت إلى غرفة الكشف، واستقبلنى هذا النطاسى العالم بابتسامة بشوشة مرحة، الغليون فى فمه، والدخان الرمادى يتصاعد منه فى هدوء الواثق الذى يشبه هدوء صاحبه، المكتب بينى وبينه يبدو كبيرا جدا، يزداد حجمه فى نظرى بسرعه هائله حتى أتخيل أنى أحتاج إلى بضعة شهور لو حاولت أن الف حوله لأصل إلى الجانب الآخر، عقلى لا يتركز فى حالى، دائم التخيل والشطح، دائم السخرية، نظرت إلى عينيه وراعنى ذلك المنظر المهيب خاصة فوديه اللذين صبغا باللون الرمادى وقد غزاهما الشيب على استحياء، أحسست أنى أمام مخلوق بشرى “خاص”، صحيح أنه من كوكب الأرض ولكن لا بد أن موطنه الأصلى فى قارة اخرى، أحسست أنى أجلس على شاطئ الإسكندرية وهو على الشاطئ الاخر، وأن المكتب هو البحر الأبيض المتوسط.
أخذ يسألنى عن اسمى، وعنوانى، ووظيفتى، وعدد أولادى، وأخذت أجيب عليه بما سمح له أن يقوم بتسجيل أشياء محددة فى أوراق أمامه، وبما سمح لى بمواصلة محاولة تحديد موطنه الأصلى عبر البحر المتوسط، فسمرة وجهه تقول إنه من جنوب إيطاليا، وتلك الراء اللدغاء تقول إنه من فرنسا، يسألنى:
- ماذا يقلقك الآن؟
كدت أقول إن ما يقلقنى هو تحديد موطنه الأصلى، ولكنى سارعت فى آخر لحظة بالإجابة.
- النوم.
- ماله النوم؟
ما أدرانى ماله، لو كنت أعرف، لما جئت هنا.
- صعب على هذه الأيام.
- بسيطة.
بسيطة !!!؟ ما هى تلك التى هى “بسيطة”؟ طريقة العلاج؟ أم صعوبة النوم؟ لماذا لا يأخذون المسائل جدا؟ وكيف يصلون إلى هذه الأحكام بهذه الثقة والسرعة؟ أم هو نوع من التشجيع الطبي؟ بسيطة، بسيطة، أنا مالى، هو أدرى، أنا عملت ما على، ولتعالجنى البساطة، “عالباساطه الباساطه”، كم أحب هذه الأغنية فعلا، لابد أن موطن هذا النطاسى هو فرنسا لأن العلاقة بين فرنسا ولبنان مثل العلاقة بين صباح والبطاطة.
طال صمتى وإن كان وجهى قد أشرق بهذا الاكتشاف، نظرت إليه فوجدت أن وجهه قد أشرق هو أيضا بهذا البشر البادى علىّ، لعله اطمأن من ابتسامتى أن الحالة فعلا بسيطة، وأنه استطاع أن يطمئننى، ظهر البشر على أكثر لما أيقنت أن الهوة بيننا تتسع، مضى يسأل فى اهتمام ظاهر:
- وماذا أيضا؟
- تغيرات لا أعرفها ولكنى أصاب أحيانا بدوار ويقل انتباهى عما حولى، ولا أتذكر أسماء الأشياء جيدا فى بعض الأحيان.
- وماذا أيضا؟ مم تشكو غير ذلك؟
أشكو؟ أنا لا أشكو ولكنى أتعجب من الذى يحدث، أريد تفسيرا، أحس أننى بعيد، بعيد جدا، بعيد عن ما لا أعرف، ثم هب أننى شكوت فهل تسمعنى وأنت على الشاطئ الآخر وأنا لم أتمكن من تحديد موطنك الأصلى، أحسست بإشفاق شديد عليه إشفاق مشوب بالاحترام لقدرة هذا الإنسان على التخيل، رددت عليه فى هدوء أقرب إلى اليأس.
- أبدا.
طلب منى أن أخلع حذائى وتذكرت ذلك الموقف مع جارنا طبيب الأطفال وأمراض النساء، ولم أسمح لخيالى أن يرجع بى إلى هذا العهد القديم فوق ظهر أم صبحى أثناء حمام ليلة العيد، اكتشفت أن الحال غير الحال، ولم يعد خيالى ساذجا مثل الأول، الآخر كان طبيب أمراض نسا وأطفال، وكنت أنا بادئا فى الكار، أما هنا فإن تطور الأمور يلزمنى بالتركيز والمحاولة الجادة، رغم البساطة المطروحة كحل سعيد.
حيرة عجيبة تلك التى مررت بها مع هذا الإنسان العظيم الصبور العالم، لم يترك فى جسمى شبرا إلا وشكه بدبوس أزعجنى فى أول الامر، ولكنى رويدا رويدا أخذت استمتع باللعبة الجديدة، حاولت أن أتعاون معه إلى أقصى مدى: كلما شك شكة وطلب منى أن أقارن بين هذه المنطقة وتلك، ازداد احترامى لإتقانه عمله – ولكن يبدو أنى خيبت ظنه فى أغلب الأحوال لأن استجابتى للدبوس كانت تتوقف على أفكارى الخبيثة لا على مدى إحساسى بالشكة، حين وجدت وجهه يعبس، خفت وقررت أن أجامله بأن أصطنع فرقا بين إحساسى هنا وإحساسى هناك، حتى أعطى لعمله معنى.
- لا، .. هنا أكثر.
- طيب، .. وهنا أكثر؟ أم هنا؟
- أكثر قليلا.
- وهنا؟ أم هنا؟
- لا، هنا.
فشلت مرة أخرى فى إرضائه فقد”زغر”لىّ” زغزة”طبية محترمة ألزمتنى حدودى وأعادتنى إلى أفكارى السابقة تاركا له جسدى يفعل به ما يشاء من ثنى ومد أشبه بتدريبات الرياضة البدنية، وحين طلب منى أن أرفع حواجبى وأصفـر، كدت أظن به وبنفسى الظنون، استمرت اللعبة حتى هرش أسفل قدمى بمفاتيحه، قلت وصلنا إلى “الزغزغة”وربنا يستر، حاولت أن أقاوم الاستجابة للدغدغة فلم أفلح، انفجرت فى الضحك ولم يسكتنى إلا إطفاء نور الحجرة.
أحسست بهدوء غريب، وقدرت أننا نقترب من اكتشاف الحقيقة، أحسست به وكأنه قفز إلى من شاهق فى صاروخ عابر للقارات ليقترب منى فى هذا الظلام المريح، نور مستدير يصدر من جهاز بيده أيقظ الأمل فىّ بشكل لم أعرفه من قبل، هل يأتى النور أخيرا من جوف الظلام؟ اقتربت الدائرة أكثر ثم اختفت حين غمر عينى شعاع ساطع، اقترب هذا النطاسى الفذ منى حتى أحسست بلفح أنفاسه تغمر وجهى، الآن فقط تبينت أنه من لحم ودم مثل سائر البشر فهو يتنفس مثلنا، مثل الآخرين، انتقل النور من عين إلى عين وأنا فى حالة من الانتباه والانبهار والأمل معا، كنت أحس بجديته وهو يبحث فى عينى عن كنز خفى ويأمرنى أن أنظر إلى إصبعه، وأن أثبت نظرى حتى يتمكن من الرؤية، ذكرنى بمصباح ديوجين وهو يبحث عن الإنسان فى وضح النهار – هل يبحث هو الآخر فى عينى عن الحقيقة، يبدو أن الطب الحديث قد عثر أخيرا على طريق مباشر لاكتشاف الحقيقة فى أعماق العين، كان ينبغى أن يعلنوا هذا فى كل مكان حتى يستريح الناس “يا خلق يا هوه!! الحاضر يبلغ الغائب: إنهم وجدوا الحقيقة فى قاع العين، فلا ترهقوا أنفسكم وأنتم تبحثون عنها خارجكم” (حلوة هذه)، لو بلغ هذا الإعلان جارنا الاستاذ غريب لتوقف عن الغوص فى كتب الفلاسفة بلا طائل، ولتوقف كثيرون غيره عن الشقاء والضياع والتساؤل، العلم الحديث قد نجح أخيرا فى تحديث مصباح علاء الدين السحرى.
ملأ النور الحجرة فجأة، أفيق من سرحتى بسرعة مناسبة لأكتشف أن ذلك الإنسان العالم قد انتقل بقدرة قادر إلى الناحية الأخرى من البحر المتوسط، وأنه قد استغرق فى أوراقه بوجه حازم وأخذ يكتب أشياء واضحة باهتمام بالغ، هل هذا هو نفس الرجل صاحب الأنفاس الدافئة تلفح وجهي؟ هل هو نفسه الباحث عن أصلى وفصلى عن الحقيقة فى قاع عينى بمصباحه السحرى؟ أكاد أحس بأنهما شخصان على الأقل، هل هى مجرد خيالاتى التى صورته لى إنسانا دافئا جادا يحاول مساعدتى وهو فى الحقيقة ذلك الإنسان الآخر العالم ذو الغليون واللكنة الأوربية؟
قال لى بوجه حازم.
- فعلا، بسيطة.
رجعنا إلى البساطة ثانية، سبحت خيالاتى مع رياح البر والبحر عبر الأبيض المتوسط، كتب لى بضعة أقراص بعد الأكل، وأخرى قبل النوم، كما أمرنى بالامتناع عن مأكولات عزيزة على منها الجبن والزبادى والفول، والطعمية والسلمون والسردين، ما علاقة هذه الأشياء بمرضى العصبى؟ هل هو تسمم غذائى؟ عادت تقتحمنى أغنية البساطة والبطاطة فلم أتردد أن أسأله:
- هل أمتنع أيضا عن الزيتون والبطاطة؟
نظر فى دهشة، ولكنه قال فى علم أكيد.
- لا، .. هذه المأكولات التى منعتك عنها لا تتناسب مع بعض الأدوية التى ستأخذها، أما باقى المأكولات فأنت حر تأكل ماتشاء.
وفوق كل ذى علم عليم، ما علاقة الأقراص بالأعصاب بالجبن بالسلمون بالبساطة بالبطاطة، ما أعظم هذا العلم الحديث!! وإيش عرف الحمير فى علوم الجنزبيل،
خرجت من لديه شاكرا محترما كل ما حدث وإن تملكتنى شفقة غريبة عليه، هذا الإنسان الذكى العالم: ماذا عرف عنى؟ من أنا؟ أين ذهبت به ظنونه؟ أيهما أقرب إلى الواقع: خيالى المريض أم خياله العالم؟
خرجت وأنا شاعر بالامتنان، وأنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان، أثناء مرورى بالصالة لمحت المعلقة إياها فنظرت إلى نهايتها، كان آخر بيت يقول:
”سنبقى شاكرينك ماحيينا، وأنتم رب طب العالمينا”.
ملأنى شعور بالخجل أن أخرج “هكذا” بلا عرفان حقيقى بالجميل لـ”رب طب العالمينا”، كيف يكون هو كذلك، وأنا لا أحمل تجاهه إلا نوعا من الشفقة، وبضعة علامات استفهام تتراقص أمامى فى تحد، ثم شىء فى داخلى يخرج لى- وله – لسانه،
رغم كل هذا الجحود وتلك الشقاوة والشك والتردد تناولت الأقراص كما وصفها لى، ولم أستطع أن أخفى عن زوجتى هذه الزيارة حتى أجد مبررا لهذا النظام الغذائى الخاص، لم تخف زوجتى فرحتها بأنى عقلت أخيرا وذهبت لأستشير أصحاب الرأى، واطمأنـَّـتْ إلى أن مابى عارض يمكن أن يزول بأقراص بعد الأكل، وأخرى قبل النوم وممنوعات فى الطعام.
*****
ونواصل الأسبوع القادم استكمال الفصل الرابع “اللهو الخفى”
ــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “الواقعة” الجزء الأول من “ثلاثية المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1977، الطبعة الثانية 2005، الطبعة الثالثة 2019) والرواية متاحة فى مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية – المقطم – القاهرة.
شكرا