نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 14-9-2024
السنة الثامنة عشر
العدد: 6223
(ثلاثية المشى على الصراط)
رواية “الواقعة” [1]
الفصل العاشر:
“الحلقة” (2 من 2)
………………………
………………………
كلما مرت الأيام ازدادت حاجتى إليه وازداد خوفى منه، مجرد علمى بوجوده ”هناك” كان يطمئنى بشكل ما، حتى أنى كنت أحوم حول عيادته لأطمئن أن سيارته بالباب، ثم أنصرف قبل أن أضطر إلى العودة لزيارته، لا، .. ليس هذا هو حلى أنا، حتى لو كان هو حله هو، لا توجد قوة على الأرض يمكن أن تستدرجنى إلى أن أغامر هذه المغامرة المرعبة.
أين البديل؟
الشعور بالعجز يزحف علىّ فى كل مجال رغم نجاحى الظاهرى فى مجال العمل واختفاء أغلب الأعراض، واستسلام زوجتى يأسا أو انتظارا لفرج يأتى من المجهول.
لا أستطيع أن أنسى: لا حديث الطلبة فى ميدان التحرير ولا حديث الطبيب الذى أكاد أجزم بجنونه، ذهبت إليه أريد التخلص من هم هذا البلد الذى أحاط بى دون ذنب جنيته، فما عمرى اشتغلت بالسياسة ولا فكرت فى ذلك، ومع ذلك أشعرنى أنى المسئول الأول والأخير، كنت أحسب أن الطبيب سيـُرجع لى عقلى ويقنعنى بأن كل هذا كلام خادع، فإذا به يحملنى هم الإنسان فى كل مكان.
***
يخطر ببالى أحيانا أن خير سبيل لاستعمال جنونى بشكل”خلاق” كما يقولون – هو أن أنمى تجربتى مع المرأ ة السودانية، أحيى العظام وهى رميم، أخترق أسوار النساء اللاتى يخفن المتعة وينكمشن وراء التردد والبرود، هذا عمل جليل أفضل من هتافات الطلبة وكلام هذا الطبيب المجنون، يرسم لى خيالى أحيانا صورة لعلاقات راسبوتينية تسبح فى أنهار اللذة والخدر، ربما وجدت بذلك حل الإنسان الجديد بأن أصنع نسلا أرقى من خلال الجنس المجنون.
***
أحسست أنى أنتهى إلى وضع قريب مما وصل إليه الأستاذ غريب، أنا أنتظر شيئا مجهولا أتصور أنه يمكن أن يتم بين يوم وليلة، شىء يهبط من أعلى أو تتفجر عنه الأرض، شىء يجيب على الأسئلة الحائرة ويضع حلا لكل هذا الضياع، هل هى عدوى من غريب أم أننى فهمته خطأ، غريب لا يكل من الانتظار ولا يستعجله، هو يستطيع أن ينتظر طول الدهر.
- هيه؟ ماذا وجدت يا غريب؟
- التاريخ يعيد نفسه.
- وهلى نعيش – أنت وأنا – فى التاريخ الذى يعيد نفسه، أم أننا خارج دائرته.
- وعينا به هو الذى يصور لنا أننا خارج دائرته.
- نكف عن الوعى أم نستسلم بإرادتنا فى دائرة التاريخ الذى يعيد نفسه؟
- لا أعرف، أنا أبحث وأنتظر.
- طال انتظارك يا غريب.
- لن أخدع نفسى بالحلول الجاهزة.
- عرض على مؤخرا حل جديد بعد أن خفت مثلك من الحلول الجاهزة.
- أى حل تعنى؟
- علاج جديد، يسميه صاحبه بحث مشترك؟ أو رفقة طريق،” أو علاج جمعى” وهو يتحدث بألفاظ مغرية ولكنه لا يعطى ضمانات، وليس له معالم.
قال بانزعاج وحذر:
- تقول علاج؟ وهل أنت مريض؟
فوجئت أنى لم أذكر له، إلا تلميحا، ربما، طوال هذه المحاولات عبر شهور وشهور لم أذكر له، أى شىء عن تجربتى مع المرض والأطباء.
- اختلفت الأسماء، أشعر أن الحال لا يمكن أن تستمر على هذا الوضع،
- وماذا قال لك هذا الطبيب؟
- هذا آخر ما يهم، فقد خيل إلى أنى وجدت أفلاطونا عصريا، أو مجنونا هاربا من المستشفى.
- هذا طريق خطر ستسجن نفسك فيه بقية عمرك.
- أنا سجين أصلا.
- العلاج زنزانة مفردة بفتحة واحدة، عليها سجان غبى.
- من أدراك يا غريب؟
- لى خبرة فى هذا السبيل ظننت يوما أنى مريض، وترددت على كثير منهم حتى أنقذنى أحدهم.
- أنقذك؟ كيف؟
- واحد ذهبت إليه بعد أن كدت أعتقد أنى مجنون فإذا به يرجع لى حريتى، ويدعنى وشأنى، واقتنعت من خلال صدقه أن من حقى أن أكون كما أشاء حتى لو كنت مجنونا، لن أنسى جميله ما حييت فقد استعدت حريتى وبدأت حياتى.
- بدأت ماذا؟
- حياتى الخاصة الحرة تماما من أى أوهام بالمرض أو بالعجز.
- …. أو بالعجز، !!! هل تتكلم عن العجز يا غريب؟ فماذا عن الانتظار المؤبد؟.
قال متجاهلا تلميحى:
- دعنى وشأنى، أو اعمل مثلى.
- وهل ما أنت فيه هو الحياة الحرة بلا عجز؟ هل هذا هو الحل.
- أنت لا تعرفنى.
- هذا صحيح، وقد فشلت حين حاولت، حتى وصلت إلى أنه نوع من العجز.
– هذا نتيجة لضيق أفقك وضعفت علاقتك بالتاريخ.
- فماذا تسميه أنت إن لم يكن عجزا.
- اختر ماتشاء من أسماء قيمة: الحكمة، أو الحرية، أو عين العقل،
- والبلد؟
- ما لها؟
- هل يمكن أن تنتظر الفرج حتى نجد الاسم المناسب؟
- الحل فى النظرية،
(قفز عقلى الآخر يعاود نشاطه فجأة قائلا” النظرية فى النملية” نهرته بلا رحمة)
- أيه نظرية يا غريب؟
- النظرية المتكاملة.
- ولو أصبحت يوما فوجدت اليهود يسيرون فى الشوارع.
- لست قائدا للقوات المسلحة، ولا رئيس جمهورية.
- يا نهار أسود يا غريب، هل تعنى ما تقول؟
- لن أخدع نفسى.
- ولو اعتدوا على نسائنا وحرماتنا.
- ليس لى نساء ولا حرمات، أنا حر تماما.
ضبطت نفسى بأقصى ما أملك مما تبقى لى من عقل وواصلت.
- وثورة الطلبة فى ميدان التحرير؟.
- وها هم أولاء قد عادوا إلى الدراسة مثل كل عام، قصة مكررة .
- أنا لا أصدق حرفا مما تقول، أنت تشوه كل شىء حتى تستمر كما أنت، ألا تحسب أن علينا أن نحارب؟
- لا أمل فى الحرب، ولا فى السلم.
انصرفت مليئا بالغيظ، ولكنى كنت أعيد التفكير فيما قال، …
***
اقترب منى الأستاذ أسعد صباح الأحد وأنا جالس على المكتب.
- هل سمعت البيان رقم 5؟ [2]
- سمعته، ولكن من يدرى فكم سمعنا بيانات؟
- هل تشك فى جدية ما يجرى؟
- مازلت أذكر 67 ولا أقوى أن أعيش نفس الأحداث والمشاعر،
- الأمر مختلف، نحن الذين بدأنا الهجوم.
- مؤتمر”السلاطة” سنة 67 مازال يخايل ناظرىّ.
- الحرب دائرة من الثانية ظهر أمس، والعبور كاد يتم،
- صوت أحمد سعيد يرن فى أذنى مساء يوم الاثنين المشئوم من ست سنوات”سقط المكبر يا عررررررااب”” سقط المكبر يا عرب” حتى حسبنا أن الحرب ستنتهى فى ساعات، وكلما رن صوته فى أذنى بعد ذلك ضحكت حيث تبينت أنه كان يعنى أن الميكروفون، هو المكبـّر الذى قد سقط من يده، لا أكثر.
-هل هذا وقت سخرية يا أستاذ عبد السلام، ارفع رأسك يا أخى.
- حاسب من رفعها أكثر من اللازم حتى إذا سقطت لا تنكسر منك.
- أنت انهزامى متشائم،.
- سوف أصبح أول المناضلين فى اليوم السابع من الحرب.
- ولماذا السابع؟
- لا أنسى الأيام الستة.
- الأمور اختلفت.
- لست متأكدا.
- أنت حر، لكننا نحارب.
***
قال الأستاذ نصحى فى حكمة تحليلية:
- هل رأيت يا عبد السلام، فشل التقمص بالمعتدى؟
كدت أصعق وتساءلت فى استطلاع خبيث:
- فشل ماذا؟!
- اليهود تقمصوا النازى ولا بد أن ينتهوا نفس النهاية،
تعجبت من أن فكره التحليلنفسى، لا يهمد أبدا، قلت فى إثارة:
- وهل اليهود مرضى مثلى (لم أقل، .. ومثلك)
- مرضى ومجانين أيضا، قل ما شئت فى شذوذهم وعقدهم،
قلت متماديا فى الفكاهة الخبيثة حتى أخفف من توترى وأنا أتمتع بتتبع تعصبه وحماسه التحليلى ونحن فى ”عز الحرب”.
- وحكاية الجنس، الله يفتح عليك؟
- طبعا وما الحرب إلا مظهر جنسى.
تذكرت لفورى المرأة السودانية، لماذا تطل على هذه الصورة فى مثل هذه الظروف؟ طردت الصورة بسرعة قائلا:
- اسمع يا أستاذ نصحى ادع معى بالاستمرار مهما كانت النتائج.
البيانات تتوالى ومعارك الدبابات متواصلة، مر اليوم السادس ومازلنا نحارب، عاد لى شعورى بالحياة بشكل لا يوصف، هذا هو.
قالت زوجتى كأنها ترقص بعينيها.
- الحرب يا عبد السلام.
قلت وأنا ممتلئ بكل شئ.
- أخيراً.
- الحمد لله.
- ربنا يتمم بخير.
رأيتها كما لم أراها من قبل، اقتربت منها دون تردد، ضحكنا بعد أن نجحنا وكأننا عبرنا القنال معهم وحطمنا خط بارليف.
قلت لها مازحا منتشيا:
- سيولد فى عهد الحرية.
****
خاتمة، …….
صفقت الباب خلفى ودخلت هائجا أريـد أن أحطم أى شىء فى طريقى. كاد غريب يقفز من صوت ارتطام الباب، ولكنه كالعادة – سرعان مازاد شحوبا وهو يتمالك نفسه، كان ذلك مساء الأربعاء المشئوم.
قلت فى غيظ قاتل:
- أمازلت تنتظر يا غريب ؟؟
سكت بلا أية نية فى العراك، ولمحت لأول مرة الدموع تتساقط من عينيه فواصلت:
- كتب علينا أن نعيش كل بضعة سنوات هذه المسرحية المعادة، الذل – الأمل – المحاولة – الخيبة – الكذب – الموت.
لم يرد وزادت دموعه حتى كدت أهزه من منكبيه ليرد على ولا يدعنى وحيدا أكلم نفسى:
-… فقد كنتَ معنا يا غريب طول الوقت وأنت تتصنع الوحدة واللامبالاة.
رفع حاجبيه وكأنى ضبطه متلبسا بعدم الوحدة.
- لا داعى للكلام.
- ولا إمكانية للعمل.
- انتهى كل شئ.
- وبدأنا الصراخ والاستجداء.
-…هل سقطت السويس حقا؟ ما حكاية الثغرة؟.
- وحوصر الجيش الثالث.
- القصة مكررة.
- لم تصدقنى حين قلت لك إن التاريخ يعيد نفسه.
ثرت بلا قصد:
- ولكنا حاربنا يا غريب.
- العبرة بالنتيجة.
- الحرب لم تنته.
- سنقبل وقف إطلاق النار، ثم نبدأ الحديث من جديد عن النكسة الثانية والخيانة،
- لو حدث هذا فنحن نخون أنفسنا بالاستمرار فى هذه الحياة،
- ماذا تعنى؟.
- إما أن نعيش أو نموت، ..،نعم أو نموت، فاهم!!؟.
قال لى وكأنه يحاول أن يرجع إلى قوقعته قسرا ولكن دون حماس
- أو ننتظر؟.
- ماذا تقول؟ ما هذا؟
***
خرجت إلى الشارع مباشرة بعد أن نظرت إلى باب شقتى نظرة أخيرة، لم أجرؤ على الدخول لتقبيل أولادى فى هذه الساعة، كنت أسير فى الشارع بخطى عجلى وكأنى أخشى أن يفوتنى قطار ما على وشك الرحيل، كان قرارى واضحا بلا غموض، عجزت عن الحياة مثل الناس، وها هو ذا العار يقضى على بصيص الأمل الذى تخايلت به من أيام،
وقفت فى منتصف كوبرى قصر النيل، الهواء البارد يصفع وجهى يذكرنى بالحياة رغم قرارى بانهاء كل شئ، نظرت إلى الماء الساكن كالبركة الحزينة بلا أمل فى فيضان أو حتى طوفان، اقترب وقع أقدام الحارس منى، مازال يظن أن الحرب قائمة، مخدوع غبى، لن أرد على ندائه، لا يستطيع أن يلحق بى.
مصيرى فى يدى لأول وآخر مرة بلا حاجة إلى ادعاء المرض، أو استشارة طبيب،
ارتد بصرى إلى الماء الساكن، وشعرت براحة عميقة وانا أقفز لأتخطى الحاجز وأسرع إلى نداء الماء من تحتى وألتفت للوراء خوفا من أن يكون الحارس قد رآنى فيحاول أن يلحق بى.
*****
انتهت رواية “الواقعة”
ونبدأ الأسبوع القادم بتقديم فصول رواية “مدرسة العراة”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “الواقعة” الجزء الأول من “ثلاثية المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1977، الطبعة الثانية 2005، الطبعة الثالثة 2019) والرواية متاحة فى مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية – المقطم – القاهرة.
[2] – الصادر عن القيادة العامة للقوات المسلحة التاريخ : 6 / 10 / 1973