نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 7-9-2024
السنة الثامنة عشر
العدد: 6216
(ثلاثية المشى على الصراط)
رواية “الواقعة” [1]
الفصل العاشر:
“الحلقة” (1 من 2)
لم أكد أضع رأسى على الوسادة حتى اجتاحت المظاهرات البلاد تطالب بالجلاء التام، أو الموت الزؤام وبوحدة وادى النيل، أنتقل من المدرسة الثانوية بدمنهور حتى كلية التجارة بجامعة فؤاد الأول، يحملنى الطلبة على الأعناق مرة، وتفعصنى كتلة أجسادهم مرات، يترجع صدى الهتافات ”الجلاء بالدماء” “لا مفاوضة إلا بعد الجلاء”، أخطف خوذة شرطى وألعب بها الكرة، أتحمس للهتاف بوحدة مصر والسودان لأسباب خاصة “بيفين، بفين، يسقط بيفين” “صدقى الخائن، يسقط بيفين” تخرج الجموع إلى الشوراع وتجتاح كل المقاومة البوليسية وتتجه إلى كوبرى عباس، الناس تنضم إلينا بالمئات رجال النقراشى باشا يفتحون الكوبرى على الجموع فيتساقط الشباب بلاعدد، الجموع تدفعنى إلى الحافة، لا أكاد أهوى حتى أستيقظ مفزوعا قبل أن ترتطم رأسى بعوامة الكوبرى، تنقلب زوجتى إلى جنبها الآخر وتعطينى ظهرها كأنها تقول”على إيه يا فالح”! أمط شفتى استهتارا كأنى لم أسمع، أشعل سيجارة، أستمر صاحيا، بقايا نقاش ميدان التحرير تحضرنى دون تفاصيل.
هل يمكن أن أصنع شيئا أنا شخصيا – عبد السلام المشد – لهذا البلد الآن؟ هل هناك أمل فى أمثالى؟ هل ينقذنى ذلك من بعض ضياعى؟ هل تـَـبـَـقَّـى منى شىء يصلح لأى شئ؟
تأتينى الأجوبة كلها من داخلى بالنفى أو بالمعايرة أو بالسباب.
المكتب ينتظرنى فى الصباح، والسرير بما يحمل من مذلة وخزى فى المساء، ما بين هذا وذاك أموت غيظا وأنا أتابع الأستاذ غريب وهو مستغرق فى كتبه لـِـيُـفـْـشِلَ كل الحلول قبل أن تبدأ.
تتردد فى ذهنى الاتهامات الصادقة التى وجهها إلىّ (إلينا) الطلبة والتى لا أعرف طريقة أمينة للرد عليها، “أنتم رضيتم الكذب وإلا ما سكتم”، أين السبيل حتى لا أسكت أنا شخصيا”عبد السلام المشد” أعيش فى هذا البلد فى هذه اللحظة من الزمان؟ هل نحن ميتون فعلا؟ هل صحيح أن الميت لا ينتحر؟
تمر أمامى كلمات مثل”الثورة و”الانقلاب”، و”الحرية”، كلما حاولت أن أترجمها إلى شىء محدد يخص”عبد السلام المشد” بلحمه ودمه ووظيفته فى الحسابات، وشقته ذات الثلاث غرف وهو يتقلب فى الفراش الآن خوفا من الارتطام بعوامة كوبرى عباس بعد أن فتحه النقراشى باشا (هكذا قالوا)، تذهب منى كل معانى الكلمات، ماذا كان على عبد السلام المشد أن يفعله حتى لا يتهمه هذا الشباب النقى بالصمت والسرقة والخيانة والكذب؟ وماذا يمكنه أن يفعل الآن؟ هذا العبد السلام المشد على وجه التحديد؟
وددت لو أنى رجعت إلى هؤلاء المتحمسين أسألهم ماذا يمكن أن أفعل” أنا” شخصيا وبالضبط، الآن وليس بعد؟ أم أنها لعبة عيال وشطح أحلام؟
حتى لو كانت كذلك فهل يعفينى هذا من مسئوليتى وإحساسى بالعجز واليأس، هل أنا ناقص احتقار لذاتى حتى يتهمونى – شخصيا – بكل ذلك؟ وهم؟ ألا يهربون أيضا من عجز ما؟
- ولو، هم يمارسون الصدق، ولا يكفون عن المحاولة.
- لعب عيال، .. كل شاب منهم قد أطلق شعره ولبس المنطلون القذر الضيق، وجلس مع صاحبته ومقعداتهما متلاصقتان وراحا يلقيان التهم جزافا، ها هو الوغد الداخلى ينتهز الفرصة.
= … أيقظوك غصبا عنك.
- أيقظونى لأفعل ماذا؟
= لتكون بشرا له إحساس حقيقى.
- بدلا من الموت عجزا وأنت تردد حكما زائفة.
- ولكنى مريض، والشعور بالعجز جزء من مرضى.
= “الآن تدعى المرض، فإذا جاء وقت العلاج تدعى الصحة”.
- أنت مثلهم لا تكف عن الصياح ماذا تريدنى أفعل؟
= “تتحمل المسئولية وتسمى الأشياء بأسمائها”.
- ضيعتنى حتى ضاعت منى الأسماء، أنسيتـنى اسمى، جعلتنى أشك فى أنى أنا، والآن تريد أن أسمى الأشياء بأسمائها، أية أسماء وأية أشياء؟ ماذا تريد منى؟
= الثورة.
- ثرت على عجزى الجنسى وكدت أجن حين نجحت، ثم ماذا.
- أى عجز لا ينتهى إلا بثورة.
- ثم ماذا؟
- يوجد ألف طريق.
- لا ياعم، عجز المرض وذل العلاج أرحم.
***
لم يبق أمامى إلا هذه المحاولة الأخيرة، تذكرت حديثى مع إبراهيم الطيب فى عيادة الطبيب الذى هربت منه قبل أن أراه، هذا الذى لاح لى ولم أعرف معالمه بعد.
أصبحت لا أستطيع أن أنكر رغبتى فى القتل أو الدعارة، فإذا نجحت فى السيطرة عليها بعض الوقت عاودنى الصداع المتفجر أو الإحساس الميت، فإذا ما واجهت داخلى لحظات رعبت من التفتت أو الجنون، ناهيك عن المعايرة والسخرية،
ذهبت إليه هذه المرة وفى نيتى أن أحاول صادقا، فالحلقات تضيق علىّ والأمور تكاد تفلت من يدى حتى كدت أفقد السيطرة على بقية أجزائى، عرفنى الممرض وابتسم حين حاولت أن أعطيه كشفا جديدا وذكـّــرنى بأنى حجزت قبل ذلك، حمدت الله على أنه لم يسألنى عن سبب خروجى فى المرة السابقة، مع أنى كنت قد أعددت سببا وجيها للاعتذار، دخلت عليه فلم أجد ما يسترعى الانتباه، حين بدأ الحديث مباشرة بلا مقدمات أو استجواب أحسست وكأنى أكمل الحديث مع إبراهيم الطيب، وليس مع طبيب مختص، كان عاديا، وحكيت له عن مصيبتى السوداء،
-….هذا شىء يمر به أى إنسان يحاول أن يعيش بحق.
- ولكن حالتى قد وصلت إلى مراحل خطيرة جدا.
- كيف لك أن تميز درجة الخطورة، لابد من إعادة تحديد معانى الكلمات – هات ما عندك مباشرة.
(قلت فى نفسى لابد من تفجير سلسلة المفرقعات مرة واحدة بلا حذر أو حساب)
- رأيت فى أول المرض أمام عينى أحداثا وأشخاصا ثبت أنهم لم يتواجدوا أصلا، أظن أن هذه هلوسة لا تحدث إلا لمجنون.
- تكرر لغة أطباء يـُـسـَـمـِّـعون الدرس.
- ولكنها الحقيقة.
-……. ثم ماذا؟
- أشعر أحيانا بقدرة جنسية هائلة حين أطلق لجنونى العنان، ثم أعجز عن واجباتى الزوجية خوفا من بيع نفسى لها.
-…………… ؟
- أحيانا أحدث نفسى وكأنى عدة أشخاص.
- خطوة صعبة.
- … تجربتى مرعبة وأنت لا تعرفها.
- ليس تماما.
- أنت، أنت شخصيا، هل رأيت شخوصا لا وجود لهم؟
- ما دمتُ إنسانا، مثلك، فأنا معرض لكل شئ.
- مثلى؟ قل لى من أنت؟
- أنا من ترى.
- هل أنت منا، أم منهم؟
- أفضل أن ترى بنفسك.
- حين دخلت وقابلتك داخلنى إحساس لأول وهلة أن الطبيب لم يحضر بعد، وحين رأيتك تنتقل إلى جوارى وتتحرك فى الحجرة أثناء الحديث وتضحك بلا تردد زاد شكى… حتى كدت أخرج إلى الممرض لأتأكد أنك الطبيب، وأنك لست واحدا منا دخل مكتب الطبيب خلسة ليخدع أمثالى مثلما نشاهد فى مسرحيات هذه الأيام، أرجح أنك”منا”.
- …. لا مفر من المحاولة.
- حاولت ولم أنجح، تصورت أنى من كوكب آخر وأن لى شبيها إنسانيا يلعب دورى البشرى على هذه الأرض، حاولت أن أتفرج فى مساحة من السماح، لم أنجح، هل نجحت أنت؟
- نجحت؟ فى ماذا؟
- في”الفرجة” على البشر ثم خداعهم بالتصرف مثلهم؟
- الفرجة عار الرؤيـة، الحياة شىء آخر!
هذا كلام سهل فارغ، البلد محتل والجوع والخراب على الأبواب والذل والمهانة تتغلغلان فى خلايا كل إنسان حى، أين هذا الرجل من كل هذا؟ أكمل هو دون تردد.
- نحاول سويا ونبحث سويا.
تذكرت إبراهيم الطيب وما قاله لى أثناء الانتظار فى الزيادة السابقة.
- نبحث سويا ماذا ؟.
- نبحث عن طريقة؟
أنا أبحث عن أفضل طريقة للهرب.
(أنا هارب من شباب التحرير، لأختبئ فى لعبة العلاج)
- الهرب حق إنسانى، نحن نهرب إلى ما يمكن حتى نستطيع ما لا يمكن.
- الأستاذ غريب يلعب لعبة البحث الدائرية.
– من “غريب” هذا، لعله يبحث وحده؟ بلا تجربة؟ ولا آخرين؟
أحسست أن الحديث ينزلق بنا إلى مناقشات لا تحل ولا تربط”، كنت أتمنى أن يكون العلاج خدعة تعفينى من المسئولية مثل المرض تماما، هذا الرجل يملؤنى غيظا، يلوّح لى بعلاج ما، ليس علاجا بل لست أدرى ماذا؟
قررت أن أبدأ بالهجوم الاستطلاعى بلا لف أو دوران، سآخذ من ذقنه وأفتل له، أين هو فعلا من الناس والآخرين.
- والبلد؟
سكت وكأنه أدرك إلى أى منطقة أستدرجه، ثم قال:
- البلد هى أنا وأنت،
- ماذا تصنع أنت للبلد وهى تغلى وتــُــذَلّ؟ هل عندك غير الفرجة والكلام وجمع النقود؟
أطرق حتى كاد العرق يتفصد من جبينه.
- لا أعرف على وجه التحديد، ولكنها محاولات مستمرة للإتقان لا أنكر شعورى بالعجز، فتزيد محاولاتى لاختراقه معكم.
تذكرت عم محفوظ، ذهبت لأتبرك به فقذف إلىّ الكرة هذا الطبيب يعلن حيرته وعجزه ويطلب منى المساعدة.
- جئتك لأتخلص من الألم، لا لأزداد ألما وحيرة.
- لا أخدعك، ليس عندى إلا ما قلت.
- الألم العاجز ساحق، وهو وقود الجنون لا الثورة.
- لا أعرف سبيلا آخر، لك ولنا.
- جئتك لأهرب من العار الذى أيقظه فىّ هؤلاء الطلبة المهووسون، عار بلد محتل، لا بد وأنى أخطأت الطريق.
- يجوز.
أقفل هذا الرجل المدعى أمامى أبواب الهرب قبل أن أفتحها، كلما وصلت إلى ما يبرر عجزى، ألقى فى وجهى القفاز، يثير فىّ الرغبة فى العراك، جئته يساعدنى وإذا به وكأنه يطلب المساعدة، لست متأكدا من صدقه، لكنه يذكرنى بموقف ”عم محفوظ”، أحاول أن أختفى منه تحت سابع أرض فأجده ينتظرنى هناك لأحلق معه فى السماء السابعة.
أية مصيبة أن تكون رحلتك بكل هذه المشقة من أعمق درجات الضياع إلى أعلى درجات المسئولية، هذا ليس طبا، لا بد أن هذا الرجل أجن منى، ومن المرأة السودانية، ومن كل جنون الأرض والسماء، أو أنه كذاب هارب لا أكثر، هل عرف كل شئ؟ هل هو سيفرض علىّ معرفته هذه؟ هل هو يقتل وحدته برفقة أمثالى؟ لحساب من؟ من هو على وجه التحديد، وكيف عرف كل ذلك؟ لو كانت معرفته من الكتب لعرفها كل المختصين هذا التخصص ولصادرت الحكومة هذه المهنة؟ هل مر بمثل ما نمر به ثم اختبأ فى ثوب طبيب؟ قلت له وأنا أحول دون أفكارى حتى لا تظهر كما خطرت لى:
- وهل هناك أقراص وألاعيب مثل الآخرين؟
- كل شىء ممكن.
صمتَ، فصمتُّ.
مضى وقت طويل طويل حتى عاودنى رعبى القديم.
كنت أخاف العقاقير فقط فأصبحت أخاف الشفاء من أى نوع، قرب الشفاء منى أخطر علىّ من كل احتمال آخر، لابد من وقت للتفكير قبل اتخاذ قرار قد يكون بلا رجعة، انصرفت وأنا أحاول أن أتهم هذا الرجل بالجنون والهرب والارتزاق من جديد.
****
ونواصل الأسبوع القادم استكمال الفصل العاشر “الحلقة”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “الواقعة” الجزء الأول من “ثلاثية المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1977، الطبعة الثانية 2005، الطبعة الثالثة 2019) والرواية متاحة فى مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية – المقطم – القاهرة.