نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 27-7-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 6174
(ثلاثية المشى على الصراط)
رواية “الواقعة” [1]
الفصل السابع:
“وبالناس المسرة” (2)
……………………
……………………
جاءتنى أصوات كوم “العيال” من الحجرة الأخرى واستطعت أن أتبين وسط الضجة كلمات من كتاب المطالعة مختلطة بآيات قرآنية وسباب من واقع الحال دون تداخل …
- أهلا وسهلا يا سعادة البيه زارنا النبى.
- إسمع يا عم محفوظ حتى أرتاح لا تقل لى يا سعادة البيه.
- أستغفر الله، ماذا أقول إذن.
- قل لى يا عبد السلام.
- يا خبر، …!!!،
- ألا تحب راحتي.
سكت قليلا ثم نظر إلى وكأنه يحتضننى بوجهه ثم ضحك بصوت رنان وقال وكأنه اكتشف الحل،
- أقول لك يا سيدنا، .
انزعجت وتساءلت: إلى أى طريق يأخذنى؟
- ما هذا يا عم محفوظ.
- أنت سيدنا والله العظيم وسوف ترى …
- أرى ماذا يا عم محفوظ، … ماذا جرى.
- كنت أكرم الناس لما نزل الماء الطاهر من عينيك وهذه كرامة الصالحين.
يبدو أنى أخطأت الطريق ثمة خطأ قد حدث ولابد من الإسراع بتصحيحه .
- أنت لا تعرفنى يا عم محفوظ، وكل هذا الكلام يربكنى ويخجلنى أنا ما جئت هنا إلا لأطمئن أن بيتك فى متناولى، وأنك لن تتركنى ..
قال بلا تردد:
- يوم الهنا يوم شرفتنا، أنت لا تعرف مقامك.
(مقامى ماذا يا رجل؟! هذا الكلام لا يمكن أن يستمر وإلا فأنا عرضة لتصديقه)
تمنيت أن أصدق ما يجرى بشكل ما، فلربما يوجد تحت أكوام القمامة الممتزجة بالنفط شىء طاهر.
- يا عم محفوظ كفى هذا، كتر خيرك، أخبـرنى عن نفسك.
- أنا عال العال بحسك.
لابد من الإصرار، لن أدع الفرصة تفلت من يدى تحت وهم طهارتى السرية.
- جئت أحدثك عن أزمتى يا عم محفوظ.
- لا أزمة ولا غيره، هذا رضا رب العالمين، كل الناس الصالحين لابد لهم من أزمة وأزمات، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكى حتى تتخلل الدموع لحيته، أنت لا تعرف نفسك فلا تحط من مقامك لأن الله كـَـرَّمك.
- لست على يقين من أنه كرمني.
- الله كرم بنى آدم يا رجل لا تكفر بالله.
لم أعد أطيق هذه المفاجآت، أين أنا؟ وأين هو؟ ماذا لو علم خبثى وأطماعى؟ ماذا لو علم نزواتى وعجزى هذه الأيام؟ لماذا يقطع علىّ الطريق هكذا؟ جئت إليه ألتمس بركته فلم أجده إلا بعيدا عنى بقدر ما هو قريب من شى ء مما فى داخلى، ولكن من أين له أن يرى داخلى؟ أنا لا أعرف داخلى، لن أخدع نفسى فما أنا إلا كومة قاذورات.
الأطفال يتقافزون حولى، زوجته تتحرك فى سهولة ويسر، ووجهها يمتلئ بشرا كلما راحت أو جاءت وكأنها تكتشف فى كل لحظة معنى جديداً للحياة.
لن أستسلم، سوف أدافع عن قذارتى، أو على الأقل عن عماىَ.
- يا عم محفوظ أرجوك أن تسمعنى وأن تقدر موقفى فما جئت هنا إلا لألتمس رضاك وأتعلم منك .
- ما هذا الكلام؟ لماذا لا تنظر إلى نفسك؟.
- المصيبة بدأت حين نظرت إلى نفسى.
- إحساسى لا يكذب لابد أنك لم ترها جيدا.
- أرجوك إسمعنى …
بدا عليه الرفض ومع ذلك استمر فى ابتسامته المشرقة، قررت أن ألقى عليه ما يفيقه، حتى أتمكن من إكمال الحديث كما أريد.
- أنا لا أصلى يا عم محفوظ .
صمت قليلا ثم قال:
- .. هذا شأنك معه.
(لا أكاد أعرف معنى ما يقول)
- أخشى أن تكون قد أسأت فهمى.
- قلبى أحبـَّـك ولا أعرف غير ما أقول.
(أصرّ على التحدى سوف أتجاهل كل ما فات) أسأله مباشرة:
- لماذا تعيش يا عم محفوظ.
قال دون تردد:
- العيال أحباب الله ونحن نكسب ثوابا فى تربيتهم.
تذكرت “لمعى” و”جميل” أولاد نصحى افندى.
- كيف نربيهم، ولماذا؟
- حتى يملؤوا الأرض خيرا وبركة.
لن أصل إلى شى ء حتى لو حكيت له عن مقبرة “وادى الملوك” حيث يقيم نصحى وزوجته وأولادهما، أحسست أنى نسيت نفسى وكأننى أناقش الأستاذ غريب، قلت وقد بدأ الغيظ يتراكم داخلى:
- ولماذا يعيش من ليس عنده أطفال يا عم محفوظ.
- الأطفال ملء الأرض وأنت سيد العارفين.
لن أصل إلى شىء علىّ أن أحترم كل ما يجرى دون محاولة فهم، حاولت أن ألغى ما حدث ويحدث، لم أستطع بأى درجة، فقد هزنى كل حرف نطقه، لم أنجح فى استجلاب الذهول أو النسيان، حاولت تشويه الموقف فتذكرت بعض ما تعلمته من نصحى افندى، فلابد أن هذا الرجل يرى كل الناس مثله لا أكثر، لماذا لا يرى ضياعى وقذارتى؟ لعل له شيخا واصلا من أهل الله علمه هذا، هذا رجل هارب والسلام، لم ينجح كل ذلك أن يجعل وجهه أقل نورا وإشراقا هل يكون هذا هو الطريق.
تذكرت أبى فجأة، …
- هل تمسك “وِردا” يا عم محفوظ.
- لماذا الورد.
- لـتذكر الله.
- أنا أذكره ليل نهار، ما حاجتى للورد .
زادت حيرتى وتذكرت والدى وهو يتلو ورده اثنى عشرة ساعة فى اليوم طوال أربعين عاما، لم يغادر العبوس وجهه إلا لحظات معدودة، أين هو من كل هذا البـِـشْـر على وجه عم محفوظ؟ ولماذا لم يعرف والدى هذا الطريق رغم طول تـسبيحه؟ حتى حين ظهر لى من القبر كان مازال عابسا يتلو ورده الذى حجبه عن الناس، وكأن ما قرأه فى الدنيا لم يكفه فكان عليه أن يكمله فى الآخرة، كأن عليه أن ينقل عداد المسبحة إلى مالا نهاية قبل السماح له بدخول باب الرحمة، حيرتنى يا عم محفوظ الله يسامحك. من أين آتيك وكيف أفهمك.
- ليس لك ورد يا عم محفوظ فهل لك شيخ.
- رد بإصرار:
- قل شاء الله يا أهل الله.
- أعنى هل أخذت العهد على شيخ طريقة، .. هل تسلك مع السالكين.
- العهد عهد الله، ماذا جرى يا سيدى البيه؟ لماذا تصر على وصل العبد والله أقرب إليك من نفسك…
- من نفسى أنا أم من نفسك أنت، لا تظن كل الناس مثلك يا عم محفوظ.
- مثلى ماذا يا سيدى؟ ليس كمثله شى ء يا رجل، لا تكثر من التفكير، إعرف طريقك، ولا تقلل من قيمتك.
إعرف طريقى؟؟ ماذا جرى لك يا عم محفوظ يا ليتنى عرفته، إذن لما جئت إليك، لن يخدعنى كرمك وإلقاء البركة علىّ دون حساب، لابد أن أعرفك أنت أولا حتى أعرف طريقى .. لن أدعك تهرب منى يا رجل. - وهل تخاف النار يا عم محفوظ.
- لماذا؟.
- نار الله للعصاة يا عم محفوظ
- وأنا مالى يا سيدنا؟
- لم ترتكب معصية أبدا.
- ربك غفور وهو عنى راض.
- من أدراك؟.
- طالما أنا راض عنه فهو راض عنى والحمد لله.
سكتُّ بعد يأس حقيقى من أن أهزه حتى يشاركنى أيـًّـا مما أنتظره منه، أطرقت إلى الأرض وساد الصمت فترة نظرت فيها إلى نفسى؟ هل أصدق أن فىّ خيرا ما؟ أين كان مختفيا قبل ذلك؟ وأين هو الآن؟ هل من حقى أن أشعر به فعلا؟ وماذا لو شعرت به فصفعنى والدى أو بصق فى وجهى؟ هل يحمينى عم محفوظ بحسن نيته؟ يقينه هكذا يزعجنى ولا أعرف كيف أتخلص منه أو أشك فيه،
قطع علىَّ تفكيرى واضعا يده على كتفى فأحسست برعشة تتملكنى، صعبت علىّ نفسى، قال فى حنان واضح وصدق لم أستطع أن أتجاهله:
- لماذا تشغل نفسك بكل هذه الأمور وأنت الخير والبركة، أنا أحبك ورأس سيدنا الحسين.
لم أستطع الاحتمال وأجهشت بالبكاء حتى علا صوتى، أقبل علىَّ يحيط بذارعه كتفى البعيد دون تردد، مال على يدى التى استراحت على ركبته يقبـلها وأنا فى استسلام ذاهل، شى ء فى داخلى يقترب فى تردد حتى كدت أصدق أننى “بركة”، ملكنى هدوء غامر ذكرنى بما عشته معه من قبل حتى عادت إلىّ نفس الصورة: “كأن طفلا تأكد من أن أباه قد عفا عنه إلى الأبد”،
حضرت زوجته تحمل أكواب القرفة ولم تفارقها الابتسامة التى استقبلتنى بها، يبدو أنها انتظرت حتى انتهى صوت النشيج الذى لم أجد حرجا فى أن أعلنه فى هذا المكان حتى لو وصل إلى أسماعها، هذا عكس ما شعرت به فى بيتى مع زوجتى، أخذت أحتسى كوب القرفة رشفة رشفة وأنا أتساءل: هل يكون علاجى بالحضور إلى هنا، أتلقى كل ما لا يوصف هكذا، كلما تعقدت الأمور.
نظرت إلى زكية ورأيتها جميلة جمالا آخر لم أره فى امرأة طول حياتى، نظرت هى إلى بود حقيقى وقالت فى إصرار.
- والنبى تدعو لى يا عم البيه.
قلت لها فى تسليم مضحك.
- ربنا يكرمنا جميعا، …..
غمرنى ما شعرت معه أن كل خلية من خلاياى قد استقرت فى موضعها، ومع ذلك فإن الأفكار ظلت تلاحقنى: هل يكون هذا هو الحل؟ هل نعيش لنربى العيال؟ كل العيال، فيملؤون الدنيا خيرا وبركة؟ هل نجد معنى للحياة حين نجد من يشعر بنا دون أن نخاف؟ إذا كان عم محفوظ قادرا أن يعيش كل هذا اليقين فمن أين لى بمثله؟ كيف أضمن بقاءه ولو بضع ساعات دون فكر يفسده أو يؤكده فيشوهه؟ كيف أتجنب الهجوم من كل ثغرة سواء كانت فكرة فى عقل غريب أم تحليل فى عقل نصحى أم نظرة من عين زوجتى أم تعليق من أهل قريتى؟ كيف يحمينى يقينى من عالم مجهول وأنا عـرضه لنهش الصقور والذئاب فى كل موضع كل ليلة؟ إذا كان عم محفوظ قد وصل إلى هذا اليقين لسهولة حياته أو نقاء فطرته فكيف أستقر أنا عليه وأنا على قمة بركان لا يهدأ إلا ليعاود القذف بحممه فى كل اتجاه بلا هدف؟ عم محفوظ لم يمرض ولم يذهب إلى أطباء ولم يسمع نصحى أفندى، ولم ير خيالا فى المقابر.
قلت أسأله فى آخر جولة …
- هل أنا مريض يا عم محفوظ؟
حمدت الله أنه لم يبادر باتهامى بالبركة والطهارة مثل كل مرة.
قال بعد تفكير:
- إيش عرفنى؟ لماذا تغلـِّـب نفسك بكل هذه الأسئلة.
- لقد ذهبت إلى أطباء وقالوا لى إنى مريض.
- القلب يمرض إذا نسى ذكره، وأنت لا تنسى ذكره، .. وعلى الطبيب أن يلزم اختصاصه.
ها هو يعاود اتهامى بالإيمان والبركة، لم أحاول هذه المرة أن أعاود ما سبق أن حاولت تذكره حول فسادى وعصيانى فواصل عم محفوظ كلامه:
- وسوس لى الشيطان مرة فعكفنى عن الناس والعمل أكثر من شهرين، ثم أنعم الله على برحمته فاستعنت بالناس على الشيطان فى نفسى، فأصبح يخاف منى ومنهم، .
ضحك من أعماقه حتى اهتزت أركان الحجرة،
قلت فى خبث:
- الآية ليست هكذا ياعم محفوظ.
- أستغفر الله العظيم.
- تعوذ بالناس من شر الوسواس الخناس.
- لا فرق بين الناس ورب الناس.
- الناس شر يا عم محفوظ.
- يا نهار أسود، ولا مؤاخذة يا سعادة البيه، الناس لا يكونون شرا إلا إذا ابتعدوا، عن خلقة ربهم، الناس الذين خلقهم الله على شاكلته هم الناس، وأنت سيد العارفين،
فرحت أنى استدرجته لهذه الغضبة رحت أتساءل: بداخلى إذا كان الأمر كذلك فلماذا يترك عبد الستار النجار الناس فى بلدنا ليمشى فى حب الله؟ ولماذا تترك خالتى شلبيه الناس الأحياء إلى المقابر لتأتنس بالموتى؟ ولماذا كانوا ينهشون لحمى بمجرد أن أغفل ولو بضعة ثوان؟ أليس ناس بلدنا هم أقرب الناس إلى ما يقول؟ لابد أن فى الأمر سرا ولن أستطيع الحصول عليه منه الآن، وحتى إذا حصلت عليه فلن آمن إليه مادمت لا أعرف كيف يجى ء وكيف يذهب.
لم أستطع أن أتخلص من السكينة التى غمرتنى بالرغم منى، خفت منها، فترحزت قليلا، لكن ما بقى كان يكفى.
***
ونواصل الأسبوع القادم فى استكمال الفصل السابع “وبالناس المسرة”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “الواقعة” الجزء الأول من “ثلاثية المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1977، الطبعة الثانية 2005، الطبعة الثالثة 2019) والرواية متاحة فى مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية – المقطم – القاهرة.