نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 13-7-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 6160
(ثلاثية المشى على الصراط)
رواية “الواقعة” [1]
الفصل السادس:
الزيارة (3)
…………………..
……………………
رجعت إلى البلدة أجر قدمى ولا أحاول أن أسترجع شيئا مما كان، هل كل ما حدث هو داخل مملكتى الخاصة؟ أشعر أننى فى حالة بين الائتناس والحذر، مما جعلنى أشعر بأنى أكثر قدرة على مواجهة الفلاحين دون أن يظهر علىّ تغيير يمكن رصده، أحس أنى أعود إليهم ومعى سند قوى من لقائى مع أبى ومع خالتى “شلبية” لم أعد وحدى تماما.
كان الظلام قد احتوى البيوت حتى لم يعد يمكن تمييز معالمها، زاد من طمأنينتى أن ملامح الناس – وبالتالى ملامحى – قد اختفت هى الأخرى فى هذا الرمادى الزاحف، عرجت إلى “البوابة” واخترت ركنا منزويا خلف الظلال المتراقصة، أصروا على أن أتوسطهم تكريما للقادم من مصر، بدأ يتوافد على الدكان بضعة نفر ممن أعرف ومن لا أعرف، كان العدد محدودا فقد فضل الباقون اتقاء البرد فوق الأفران المحمية، جلست وسط جو من الترحيب المعلن والتعليقات الهامسة، لم يخطر ببالى أى تفسير سيئ لهذه الهمهمات من خلفى لأنى كنت متأكدا أن النور الخافت يخفى ملامح وجهى، كما كنت أعلم أن هذه هى طريقة استقبال القادم من “مصر”، فما بالك بعد طول غياب؟ رجع إلىّ السؤال الأول “هل هذا هو مكانى؟ هل أجد هنا الحل؟” تطلعت فى وجوههم فى حذر فتبينت قفزات البسمات اللاذعة والتحدى، غمرونى بالأسئلة عن مصر وأحوال مصر، وكأن لى مصادرى الخاصة تزودنى بالمعلومات السرية، كان علىّ أن أجيب إجابات محددة، وألا أعتذر أو أؤجل تحت أى ظرف، حتى حين طلب منى ”رزق” المزين أن أوصى ناظر مدرسة الصنايع بالمركز على ابنه، لم يسمح لى بأن استفسر عن اسم الناظر تحديدا قائلا:
- دهدى، ..اسمه حضرة الناظر طبعا.
ولما سألته عن عنوانه قال فى دلال وعتاب، ..
- إيهييه، ..ماهو معكم فى مصر.
ولم أملك إلا أن أعـِدَهُ خيرا.
ابتدأت أحس بالاختناق من كثرة الأسئلة وطلب التوصيات من شخص عاجز جاهل وحيد مثلى، لم أشعر أن أحدا شعر بى منذ وصولى إلا شلبيه الهبلة، وأمى لبضعة لحظات، وأبى رغم عناده.
حتى فرصة التأمل الصامت لم يسمحوا لى بها، أستأذنت فى أول فرصة، وانصرفت مودعا بنظرات لا أعرف محتواها تفصيلا، ولكنها كانت كلها على حد إحساسى أحكاما، أحكاما، أحكاما تكاد تخترق ظهرى حتى كدت أجرى متجها إلى دارنا وأنا أتجنب أن ألتفت ورائى صائحا “والله العظيم ما عملت حاجة”، لم أكن أنفى الأحكام فقط، بل إنى كنت أرفضها جميعا، وخاصة الحكم علىّ بأنى “رجل طيب!!”
- هل ذهبت لأبيك يا ابنى.
- طبعا يا أمى.
- روح يا ابنى الله يهديك ويزيح عنك.
كانت تروح و تجئ بنشاط بالغ وسعادة حقيقية، رحت أتعجب من هذه الحيوية التى دبت فيها، وكأنها ليست الهيكل المتهالك الذى استقبلنى قابعا تحت الشمس منذ ساعات، كدت أسألها: “وكيف يهدينى الله وماذا يزيح عنى؟ إيش عرفك يا أمـِّـى بما بى، ياليتنى أعرف ماذا جاءنى بلا استئذان حتى أستطيع أن أزيحه عنى !، ياليت نظام نزح خزانات الفضلات يصلح لتخليص الإنسان من فائض أفكاره التى تطفو على عقله حتى تفسده، لا بد أن للعقل فضلات مثل الجسم، ولا بد أن نعرف طريقا للتخلص من الأفكار الزائدة التى لا جدوى منها فى الحياة اليومية، ولكن كيف لمثلى أن يعرف الأفكار الزائدة من الأفكار الضرورية؟ لماذا ترك لنا الحكم والاختيار فى محتوى العقل ولم يترك لنا الخيار فى مسائل الجسم، أكاد أجزم أننا لو كنا نخير فى مسألة وظائف الجسم والعقل ويسمح لنا بالتساؤل حولها بلا شروط إذن لتوقفت جميعها نتيجة لغرور الإنسان وسوء استعماله للحرية.
هذا ظلم لا يرفعه إلا الجنون، إما أن نوهب التفكير على قدر احتياجنا له أو قدرتنا عليه، وإما أن نوهب نظاما ما نفرز به فضلات أفكارنا، لو كنت أعرف ماذا تقصد أمى بدعوتها “يزيح عنك”، ولو كنت أعرف ما يدعو لى به أبى، لساعدتهما وساعدت الله على تحقيق دعواتهما، أنا لا أعرف ماذا أريد أن أُبـِقـْى وماذا أريد أن أدع، هل أريد أن اتخلص من عقل بالي؟ وهو أقرب إلىّ من عقلى؟ هل أنا أريد أن اطمئن وأرضى، أم أن أعرف وأمضى.
* * *
أخذت أمى تنسق الطعام على الطبلية فى سعادة لا تخفى، ثم جلست أمامى على بعد قليل لا تشاركنى الطعام، هذه عادتها من زمان، الأكل عورة، ولكنها تريد أن تطمئن على أنى أتيت على الدجاجة المحمرة حتى آخرها.
فى هذه المرة لم أجد عندى شهية تتناسب مع إصرارها على ألا تتركنى إلا وقد مسحت آثارهها جميعا، حاولت أن اتحايل على أفكارى حتى أتفرغ لهذا الواجب ولكنى لم أستطع، فى أول الأمر نظرت إلى الساعة فتبينت أنها لم تتعد السابعة مساء، ياطول ما ينتظرنى من سواد الليل، هجمت على الوليمة أملأ بطنى بها، أخذت ألتهمها التهاما بلا رحمة وكأنى لم أنصرف عنها منذ قليل آملا أن تتخمنى فتخدرنى فأنام.
جمعت أمى بقايا الافتراس من عظام مهشمة، فى سعادة راضية عن امتلائى لا تتناسب.
* * *
خرجت فى الصباح التالى محملا بالزيارة التى كادت تنقطع بعد انقطاعى عن البلدة، وجلست أنتظر قطار الدلتا فى ركن خلف المقهى المكون من بعض جذوع الشجر المغطاة بأعواد القش والقابع فى مكان ما بين بيت حضرة الناظر ودار خالتى أم عوض، انتهزت فرصة غياب القطار حيث لا موعد له وأخذت أرتشف الشاى الأسود واسترجع السؤال فى هدوء “هل أجد هنا الحل”؟
كانت الحمير والجمال تمر علىّ محملة بالسماد إلى الحقل، وبالتراب إلى الحظائر، يقودها الأطفال والرجال أو تقود هى الأطفال والرجال حسب موقعهم من بعض من أمام أو خلف، ملأنى الإعجاب بهذا العمل الدؤوب الذى لا يتوقف فيرحم العقول من التلكؤ حول “لماذا”، “أو إلى أين”؟ هذا الداء الوبيل الذى يستشرى فى خلايا العقل مع انتشار القراءة والكتابة والتلويح بأحلام أرضية،
تقدم منى شاب أشعت أغبر يخبط على صندوق الأحذية، تبينت فيه “زينهم” الذى كان آخر عهدى به صبى نجار، جلس تحت قدمى دون اسئذان وحيانى بترحيب حقيقى؟ ناولته قدمى فى استسلام وانتهزت الفرصة لأتبادل معه آخر حديث قبل أن أغادر القرية مهزوما تماما.
هل تركت الأسطى عبد الستار النجار يا زينهم !
- من زمان.
- وكيف حاله هو؟
- مشى فى حب الله.
- كيف؟ حدِّثـْنِى؟
- حدث ما حدث بين يوم وليلة، أصبحنا فإذا به ينادى أخاه ويسلمه العدة، ويوصيه بالأولاد، ويملأ مخلاته بالخبز الجاف، ثم يخرج دون سلام، منذ ذلك الحين لا أحد يعرف عنه شيئا، وإن كان يظهر أحيانا بالبلدة لبضعة أيام دون مناسبة، أو فى مولد سيدى الشيخ عمارة، وقد كثر الكلام ياسعادة البيه.
قالها وغمز بعينيه يستدرجنى لمزيد من التساؤل؟
- خير يا زينهم، ..أى كلام؟
- الكلام كثير، فمن قائل إنه عشق “الغزية” التى تحضر أيام المولد، ومن قائل إنه واصلٌ ومن أهل الخطوة، ومن قائل إنه يدخل البيوت يساعد النساء العواقر على الحمل، أرزاق يا سعادة البيه!!!
- كان سيد العاقلين وأنت خير من تعرفه يا زينهم.
- أحوال يا سعادة البيه، يدبرها سيدك؟.
إذا كان تدبير سيدى هذا هو التدبير الأمثل الذى يغرينى به كل ما يدور حولى فلماذا تصبح خالتى شلبيه الهبلة “هبلة”؟ وترفض هؤلاء الأحياء لتعيش بين القبور، ولماذا يسير عم عبد الستار النجار فى حب الله؟ أو لست أدرى ماذا؟ ولماذا يقتلون كل من يشذ عن المجموع دون حيثيات أو مذكرة تفسيرية؟
التفتُّ إلى “زينهم”:
- وكيف حالك أنت يا زينهم.
أجاب وعيناه تلمع فى خبث الصياد حين تغمز سنارته.
- زفت كما ترى يا سعادة البيه، ربنا يتوب علينا، …
- من ماذا يا زينهم؟
- من البلاوى والغلب، ياليتك تجد لى عملا فى مصر.
صرخت كالملدوغ.
- فى مصر؟؟!!
- أيوه فى مصر، ..مصر أم الدنيا، .. وهل هناك أحسن من مصر؟
حضر قطار الدلتا فى دلال، وساعدنى زينهم فى حمل الزيارة إليه.
أخذت أنظر من النافذة والقطار يبتعد فى دلال أيضا عن البلدة.
ماذا أرجع به من زيارة أمى؟
أنظر من النافذة ولا أستطيع، والقطار يزيد من سرعته التى لا تزيد، وأنا لا أستطيع أن أميز بين حيوان ونبات وجماد… وبين الناس.
***
ونبدأ الأسبوع القادم فى تقديم الفصل السابع “وبالناس المسرة”
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “الواقعة” الجزء الأول من “ثلاثية المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1977، الطبعة الثانية 2005، الطبعة الثالثة 2019) والرواية متاحة فى مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية – المقطم – القاهرة.