نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 6-7-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 6153
(ثلاثية المشى على الصراط)
رواية “الواقعة”[1]
الفصل السادس:
الزيارة (2)
……………………
……………………
* * *
للمقابر عندى معان مختلفة حسب الظروف والهدف من الزيارة، فهى: العيد والبلح، والطيارة الورق، والمراجيح، أو هى العفاريت والظلام والأرواح والجان، أو هى عذاب القبر وحساب الملكين، أشعر هذه المرة بمشاعر جديدة، أشعر أنها ليست مقابر يسكن فيها الموتى، ولكنها شكل آخر من أشكال الحياة، كأن الحد الفاصل بين الحياة والموت قد اختفى عندى حتى اختلط بعضهما ببعض فأصبحت أحس بأنى فى وادى الملوك عند الأستاذ نصحى، فى حين أنى فى مساكن الذين عرفوا الحقيقة وبخلوا علينا بها وأنا أزور المقابر.
توجهت إلى قبره مباشرة وأنا أفتقد أية مشاعر مثل الشوق والحنين مثل أيام زمان، حتى الرحمة لم أترحمها عليه، أحسست أن الحكاية مستمرة بشكل أو بآخر ولا داعى لكل هذا الجزع لمجرد الجهل بهذه الحقيقة الواضحة: “الحكاية مستمرة”، صرفت المقرئين والعجزة الذين تعودوا أن يحوموا حولى كلما ذهبت إلى هناك لأنى لم أجد مبررا لوجودهم هذه المرة، نفحتهم المعلوم وكأنهم قاموا بالواجب المعتاد كاملا، أردت أن أختلى به ربما أعيد التعرف عليه فى هذه الظروف الجديدة، اقتربت من المقبرة وأخذت أدقق البصر حتى وجدته جالسا يمسك بمسبحته الطويلة ويتمتم بالوِرْد الذى لا ينتهى أبدا، يهتز أحيانا ويتصلب حينا وينتفض نادرا، ولكنه مستغرق فى دنياه الخاصة طول الوقت، ليست صورة رمزية نتيجة للتصور والخيال، وليست روحا تجسدت مثلما كنت أسمع فى حكايات الرعب، لم تخالجنى ذرة خوف، كنت متأكدا أن وجوده لاجدال فيه وقد تمثل لى حتى عشته بعمق ربما أكثر من أى وجود آخر يدعى الحياة لمجرد أنه يخرج أصواتا من فمه، كنت فى كامل وعيى أعلم تماما أن ما أراه ليس مجرد منظور للعين، كنت أحس أنه جزء منى أو من الطبيعة الكونية التى هى أنا أيضا بشكل أو بآخر، لا ذرة خوف ولا مجال للتساؤل عن طبيعة الأشياء، عجبت لهذا التحول الذى قلب كيانى فجعلنى أخاف من سلالم دارنا وكنت أقفزها ثلاثة ثلاثة وأنا صغير، وفى نفس الوقت أذهب عنى الخوف وسط المقابر والأرواح، وقد كنت أرعب لمجرد سماع سيرتها.
جلست على الأرض مسندا ظهرى إلى جدار قبره ونظرت إلى الأفق الرمادى، مازال هذا الوجود الحى متمثلا أمامى رغم أن ظهرى للقبر، قلت فى نفسى “أجرب أن أحدثه”، بدأ خوف آخر، خوف له مذاق آخر، بدأ من مفاصل أقدامى يصاعد إلى أعلى ثم توقف عند منتصف البطن، كنت قد تعودت هذا الحوار الساخر بينى وبين عقل بالى وسميته مرة التفكير الداخلى، ومرة أخرى تصورته وسواسا، ولكنى أتقدم الآن نحو مسرحيات حية متعددة الأشخاص، يقينى بحيويتها لا يدع مجالا للشك فى صدق ما يجرى، لا أملك أن أتراجع، ماثل هو أمامى، فلا مناص من الحديث،
سألته:
- هيه؟ هل يعجبك هذا؟
استمر فى اهتزازه وأشار لى بيده أن أنتظر حتى ينتهى من السورة التى يتمتم بها، حاولت أن أرهف سمعى فإذا به يقرأ “وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ” لم أحاول أن أدقق ولكنى ازددت خوفا، عدت أسأله :
- ماذا تريد بعد ذلك؟
وضع المسبحة فى جيب سيالته والتفت إلى:
- أنت السبب فى كل هذا، …. وكم نصحتك؟
لم أكن أتوقع بعد كل هذه السنين، وحتى وهو تحت التراب أن يستمر فى نصائحه ومعايرته لى بأننى السبب فى كل المصائب، سوف أتمادى معه حتى النهاية.
- وما العمل؟
- ترجع إليه بلا تردد.
تشجعت هذه المرة وقلت له:
- وأنت، ماذا فعلت بهروبك إليه؟
تلكأ فى الإجابة ووضع يده فى سيالته يعبث بمسبحته دون أن يخرجها.
- أستغفره، وأتوب إليه؟
قلت فى تحد:
- ذنوبك لا تنتهى عند هذا الحد؟
نظر فى غضب حتى تصورت أنه سيطردنى:
– رحمته وسعت كل شئ، وأنا أطمع فيها وهو راضٍ عنى.
- ومن أدراك؟
- ما أنا فيه.
- وماذا أنت فيه غير التمتمة والاهتزاز والاستجداء؟ هل عرفت شيئا عن أى شئ؟ هل تستطيع أن تجيب عن سؤال واحد من أسئلة الوجود؟ أم أنك احتميت بجهلك وخوفك، الأمور تغيرت والناس تريد أن تعرف.
- هذا تطاول لا يجلب إلا الضياع.
- وهذا عَمـَىَ، لا يجلب إلا الفراغ.
- ليس هناك سبيل آخر.
- أعلن عجزك وفشلك، ..نتفاهم !! هو الله الذى لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم.
مضيت فى حديثى وكأنى لم أسمعه تماديت فى السؤال.
- أين الطريق ما دمتَ واثقا هكذا؟
- الصور تختلف والسبيل واحد.
- تصر على أن أكون مجرد نسخة منك، وأن أمضى بقية حياتى فى التمتمة والاهتزاز.
- دعنى إذن، … واجن ثمرة تطاولك على ما لا تعرف.
(يعيرّنى بالضياع وسأعيره بالشقاء)
- وهل أنت سعيد؟.
قلتها بتحد حقيقى وشوحت بيدى وكأنى ألقى قنبلة يدوية، اهتز قليلا وعقد ما بين حاجبيه وظهر الألم على وجهه حتى كدت أبكى لألمه، ندمت على جرأتى وقسوتى، ولكن أساريره سرعان ما انفرجت بعد لحظات ليقول لى فى صرامة.
- أسعد منك على أى حال.
- أنا أعرف شقاءك فهل تعرف شقائي؟.
- كنت أتمنى أن تكون أسعد منى.
- هذا ما أحاوله، أنت لا تستطيع أن تتحمل عاقبة أمانيك، أنا أشك فى نيتك، ساعدنى إن كنت صادقا.
- كيف ترفض طريقى ثم تطلب منى العون.
- أنت نفسك تنتظر أن أجد بديلا.
تراجـَـعَ فى صمت وكأنه يخفى ألما بعيدا يشككه، و قال وكأنه يذكر نفسه لا يخاطبنى،
- أطلب العون من أهل العون.
- أنت لا تعرف من هم أهل العون.
– ولا أنت، أنا مستمر فى البحث عنهم، أما أنت فتوقفت.
– أنت تعايرنى؟! ومع ذلك أنا لا أكرهك، ..ولا تـَـنْـس أن الفرصة مازالت أمامى.
- لا يا شيخ، دعنى أدعو لك.
أخرج مسبحته من سيالته ونظر إلى الأرض وابتدأ فى الاهتزاز الرتيب من جديد، سمعته يقول فى ورده “قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شىء قدير”.
هل يدعونى للاستسلام إلى ما لا أعرف؟ هل كتب علينا أن ننتظر العزة والذل مغمضى العينين؟ هو نفسه لم يستسلم أبدا ومازال دائب السعى إليه – نظرت إليه فإذا به قد استغرق تماما فعرفت أنه لن يرد على مهما حاولت، لكننى صدقت أن الفرصة أمامه.
التفت إلى الأفق الرمادى فإذا بالسحاب الداكن يتجمع ليتعجل قدوم الليل، وحين رددت بصرى إلى حيث يجلس لم أجده، نظرت إلى جوارى فلمحت على مقربة منى كومة من الخرق الملونة القذرة، لم أكن قد لاحظتها من قبل ذلك، هممت بالانصراف ولكنى سمعت سعلة جافة ضعيفة تصدر من تحت كومة الخرق، انزعجت فى أول الأمر، ..إلا أن هذه الأماكن وما تحتويه لم تعد تزعجنى بقدر ما تزعجنى زيارة عائلية عادية، سعلت الكومة مرة أخرى فتأكدت أنها كائن حى، هززتها بلا خوف، اهتز جسمها وأخرجت يدها تهشنى بها مثل ما تهش أى حشرة تحاول التدخل فى حريتها، أو تبحث عن وجبة دسمة من دمها، لم أتراجع فهززتها مرة ثانية حتى كشفت عن وجهها فى غضب واشمئزاز، عرفتها، خالتى “شلبية الهبلة”، حاولتْ أن ترجع إلى تكورها تحت كومة الخرق فهززتها أكثر مناديا عليها باسمها، أزاحت هذه الكومة من على جسدها فظهرت من تحتها كما عرفتها طول عمرى، لم يتغير منها شىء أبدا، لا عمرها ولا وجهها ولا بقايا جسدها، … ولكنى أنا الذى تغيرت حتى استطعت أن ألمح فى عينيها معنى آخر للحياة …
- كيف حالك يامـّـه شلبية …؟
نظرت إلىّ طويلا وهى تحاول أن تتعرف علىّ، ثم أشاحت بوجهها عنى دون رد وكأنها عدلت عن الترحيب،
- أنا عبد السلام يا مـّه شلبيه ..
قلتها رغم علمى أن هذا الاسم لم يمر على سمعها قبل ذلك أبدا، فأنا لا أذكر أنها نادت أحدا باسمه مرة واحدة، ..
نظرت إلى ثانية وقالت:
- إن شا الله .
فرحت بردها، كنت أود أن أسمع صوتها بأى ثمن، حاولت أن أتمادى معها فى أى اتجاه:
- إن شاء الله ماذا يامه شلبيه؟.
نظرت إلى باستنكار ثم ضربت على صدرها بيدها عدة مرات صائحة، ..
- خلِّ الجدعان، خلِّ الجدعان، .. خلِّ الجدعان، ..
ومضت مسرعة بين القبور حتى اختفت عن ناظرى تماما، .. وكأنها دخلت أحدها.
* * *
ونواصل الأسبوع القادم فى استكمال الفصل السادس “الزيارة”
ــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “الواقعة” الجزء الأول من “ثلاثية المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1977، الطبعة الثانية 2005، الطبعة الثالثة 2019) والرواية متاحة فى مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية – المقطم – القاهرة.