نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 22-6-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 6139
(ثلاثية المشى على الصراط)
رواية “الواقعة” [1]
الفصل الخامس:
عقل بالى (3)
…………………
………………..
كان الأستاذ نصحى ينسى أو يتناسى أنى أوهمه بالذهاب إلى ذلك المحلل فيأخذ فى ممارسة هوايته فى التفسير والتأويل، ذات مرة حاول أن يسألنى عن أحلامى فلما ألمحت له عن معارك الوحوش لم يعر الأمر اهتماما، ولكن حين ظهرت الثعابين فى الحلم قفز فى سعادة وكأنه وجد مفتاح القضية، فالثعبان “قضيب” بلا جدال، هكذا قال بيقين، تذكرت وأنا ابتسم كيف كنت فى طفولتى قد وقعت فى مثل هذا الخلط حين كنت أحس بأن قضيبى قطار الدلتا المار ببلدنا ليسا إلا ثعبانين لا أول لهما ولا آخر، ولما كبرت وواتتنى الشجاعة على لمسهما عرفت أنهما من الحديد، ولكنى أذكر أنى اضطررت للمشى عليهما أكثر من ساعة حتى أتبين أنهما لا يلتقيان مثلما كان يخيل إلى من بعيد، يومها كاد القطار يدوسنى وأنا منهمك فى محاولة إثبات أنهما ثعبانان يلتقيان فى مكان أبعد من مدى نظرى، هذه هى كل معلوماتى عن العلاقة بين الثعابين والقضبان، كنت أحيانا أخشى أن يفلت منى الزمام وأنا أستمع إلى الأستاذ نصحى وهو يقسم الناس إلى شخصيات “شرجية” وأخرى فميه، إلى آخر هذه التسميات العجيبه، أمنع خيالى بصعوبة أن يقفز منى وأنا أمام سيارة المدير “الشرجي”، أو وأنا أحدث أسعد أفندى “الفمي”، لعبة جديدة لا تخلو من طرافة.
لست أدرى لم خطر ببالى أن الأستاذ نصحى لو حاول التحقق من أوهامه بنفس الطريقة التى حاولت بها التحقق من أوهامى حول قضيب قطار الدلتا، إذن لداسه قطار آخر لا أعرف معالمه.
سألته فجأة:
- هل فى بلدكم قطار دلتا؟
أجاب فى دهشة:
- أى دلتا؟
قلت مستعبطا:
- دلتا النيل.
قفز عقل بالى فى عناد يعرض نظرية تتناسب مع مقتضى الحال: راح يثبت لى أن الوجه القبلى ”ذكر” لأن النيل فيه فرع واحد، أما الوجه البحرى فهو أنثى – وماعليك إلا أن تنظر فى الخريطة لتتأكد من ذلك، وإذا كنت رجلا مثلى، من وجه بحرى فقد يعتريك الخجل، ثم قد تـُـسـْـتـَـفــَـزّ لتحاول إثبات رجولتك بالتاريخ الطبيعى مادامت الجغرافيا قد شرعت فى وجهك هذا الاتهام، لوح لى عقل بالى ساخرا بأن مشكلتى ربما تنتهى بطلب نقلى إلى الصعيد، ..!!
سألت الأستاذ نصحى عن ذلك، فأجاب فى استغراب:
- ولماذا الصعيد، ..؟
أجبت بإحراج بادى.
- أظن أنى معقد من قطار الدلتا من صغرى، حتى أنى أتصور أن حالتى ستتحسن لو انتقلت إلى الصعيد.
انتبه صبحى أخيرا إلى تزايد شطحى دون أن يعتبر ذلك سخرية أو استهانة بنظرياته، نصحنى بحدة، بالقدر الذى تسمح به رقته، أن أكمل العلاج وكان مازال يخيل إليه أنى بدأته أصلا، خجلت من التمادى فى لعبة الكذب، وأحسست أن الأمور كادت تفلت من سيطرتى مثلما كان الحال فى بداية البداية، وبدأت أتمادى فى الحذر عند الحديث معه، وكنت ألاحظ كثرة تعاطيه لبعض الأقراص فى أوقات غريبة وحين سألته عنها وعن شحوب وجهه أجاب أنها أقراص للهضم وحموضة المعدة ولا علاقة لها بالأعصاب، زاد فضولى لأعرفه أكثر بعيدا عن الكلام والنقاش والتحليل، لم أتوان عن تلبية دعوته لزيارته فى البيت والتعرف على أسرته الصغيرة، ذهبت وفى نيتى التى لم أعلنها أن أتأكد من نتائج هذا العلاج السعيد.
****
فتحت لنا زوجته الباب بنفسها، سيدة نحيفة رقيقة تتحرك فى هدوء كأنهاتخاف على شعور الهواء وهى تخترقه، تعجبت من حضورى مع زوجها أو هكذا خيل إلى، إذ يبدو أن الزيارات تعتبر لديهم حدثا استثنائيا على حسب معلوماتى من حديثى معه، انحنت السيدة بأدب ظاهر ونظرت إلى الأرض، فغلبت الظن أنها تخجل من رفع عينيها فى وجهى من باب الحياء، إلا أن نظراتها تركزت على حذائى، أنقذ الموقف الأستاذ نصحى بأن تلكـأ وهو يخلع حذاءه بجوار الباب ويرتدى أحد” المنتوفليات” القابعة تحت الشماعة فى واجهة الباب، ترددت مع أننى فهمت أن المطلوب هو أن أحذو حذوه ولكن ترددى زال حين انحنى وهو يقدم لى فردتى منتوفلى آخر بدا لى جديدا، قررت أن أنفذ التعليمات فى صمت وهو يكرر أنه ما فعل ذلك إلا لأنه يعتبرنى كأحد أفراد الأسرة، وأن المنزل منزلى، وعليه فإن من حقى، حسب تعبيره، أن أفعل مثله تماما، تلكأت أكثر خوفا من المفاجآت، فأنا لا أذكر متى غيرت الجورب، فعلتها أخيرا وأغمدت قدمى فى المنتوفلى بسرعة مناسبة يمكن أن تخفى أية روائح خاصة.
دخلت وكأنى أزور معبدا من معابد العصر التحليلى النفسى، قادنى إلى الصالون وهو سعيد بى سعادة التقاء زملاء السلاح فى الحياة المدنية، راح يحدثنى عن زوجته التى استأذنت بعد أن اطمأنت لإنهاء الطقوس اللائقة، انهال عليها بالمديح وهو يقوم بإضاءة أنوار وإطفاء أخرى حتى يحسن توزيع الضوء حسب جلستنا الموقوفة عن التنفيذ لحين حضورها، ترددت فى الجلوس فعلا تحت زعم أنى أنتظر حضور “المدام”، فمازالت عندى فكرة عامة عن الذوق، ولكنى فى الحقيقة كنت أخشى على “الكرسى الفخم” من بنطلونى، نبهنى عقل بالى أن آخذ حذرى حتى لا يطلب منى أن أخلع بنطلونى تحت زعم أن المنزل منزلى أيضا، عادت زوجته بالسلامة تخطو بنفس الرقة.
بدأنا الحديث عن الطرق الحديثة فى تنشئة الأطفال، بدا الأستاذ نصحى أقل حماسا وأكثر خوفا، وكان ينظر إلى زوجته مستأذنا أو متسائلا عن الخطوة التالية، وجهه يزداد شحوبا أو احمرار حسب إيماءاتها، كان حضور زوجته مثالا للصمت المثقف والذوق الرفيع معا، أخذت تشير إلى بعض محتويات الحجرة من تحف ولوحات وتذكر لى أسماء لا أعرفها، وحين ذهبت لتحضر “الليموناده “بنفسها كان الأستاذ نصحى يستدعى الأولاد للسلام علىّ والتعرف بى، أحسست أنى أستطيع أن أسحب نفسا عميقا من الهواء لأول مرة منذ دخولى وكأنى قد توهمت أن التنفس أيضا هنا بالحساب والأصول، ذكرنى الصمت المخيم على المنزل كله بذلك الصمت الذى شعرت به فى عيادة صديقه المحلل، وإن كانت زوجة المحلل أكثر حيوية ونشاطا وبساطة، تذكرت فكرة المدافن المصرية القديمة، وأحسست كأنى فى مقبرة عصرية فى وادى الملوك الجديد، وأخذت أنتظر تشريف الأمراء من وادى الملكات.
عادت السيدة الفاضلة تحمل أكواب الليموناده فأغلب المشروبات والمأكولات لابد أن تصنع بالبيت كما قدرت، ثم عاد الأستاذ نصحى ووراءه ولدان متشابهان كأنهما توأمان لولا أن أحدهما أطول من الآخر، وعرفنى بهما ” لمعى، وجميل”، انحنيا معا ثم استقاما وجلسا على طرف الأريكة وبدأ الحوار: هذايقول وذاك يرد، ثم يصدر صوت من أقصى القاعة، فيتردد الصدى فى الجانب الآخر ويبدو أن ذلك كان عرضا لنموذج من التربية الحديثة وآثارها، وحمدت الله أنهما انصرفا بسرعة، ونهرت عقل بالى خوفا من تعليقه.
زادت البرودة فى مفاصلى وانتقلت إلى كل جسمى وكأن رياح الشمال تهب من النرويج مباشرة فى أدب اسكندنافى، تمنيت لو أنهم يوزعون علينا بطانيات مثلما يفعلون فى برنامج الصوت والضوء فى ليالى الشتاء، الاختناق يزداد رغم رقة نسمات الهواء لكننى أجد صعوبة مع كل شهيق، هل لا بد أن يستأذن الهواء منهم قبل أن يدخل إلى صدرى؟ حين طلبت الانصراف لم يتمسك أحد ببقائى ادعاء لمزيد من الكرم والحفاوة، هكذا الحضارة وإلا، ..، خرجت إلى الشارع أكاد لا أصدق أنه أطلق سراحى.
قال عقل بالى فى شماته.
- هل صدقتى.
ثارت فى رغبة التحدى فقلت له:
- وأى عيب فى هذا البيت النموذجى، كفى عبثا وتذكر قصر ذيلك وخيبتك.
= إذن فأنت تريد أن تكون ” هكذا” بإذن العلم والتحليل.
- لم لا؟ سوف أفعلها لو اضطررت يوما، أليس هذا أفضل منك ومما تخبئ لى؟ هو أفضل حتما من أن أعيش تحت رحمة شطحاتك وسخافاتك ومفاجآتك.
قال عقل بالى وقد بدا عليه أنه يخشى هذا الحل السعيد:
- أقتلك لو تفعلها، أو فى القليل سأعلن جنونك على الملأ، دعنا نستمر أصدقاء فى السر أفضل.
قلت فى شماتة نسبية.
- إظهر على حقيقتك، أنت وغد تضحى بكل شىء فى سبيل استمرار شطحك، حتى لو كان الثمن هو الجنون ذاته.
= الجنون أفضل من برامج الصوت والضوء المعادة فى مقابر البيوت الحديثة .
ثار غيظى وأنا أرد:
- أنا الذى أقتلك لو خرجت عن طوعى
= دعنا نمضى مثلما كنا: كل فى إختصاصه.
- ولكنك تتدخل فى اختصاصى أثناء الليل دون استئذان.
= الليل مملكتى أنا، وأنا أسمح لك بالتواجد فيها أحيانا.
قلت فى تحد:
- أنا وراءك والزمان طويل.
= أنت رجل طيب لا حول لك ولا قوة.
قلت فى عناد:
- أنا لا أقبل شفقتك، إحتفظ بها لنفسك ودعنى أراجع حساباتى.
لعب لى حاجبيه فهاجمنى صداع ثقيل.
****
لم تمض هذه الزيارة بسلام،
لم أعد أطيق سماع أحاديث الأستاذ نصحى وتفسيراته وتعليقاته، بالنسبة إلىّ بدالى أنه قد زادت تجاعيد وجهه كما شحب لونه أكثر، زادت رتابة صوته، لم أحاول أن أواجهه أو أجرح شعوره، ولكنى كنت دائم السؤال عن ” لمعى، وجميل، والمدام”، وكان هو مطمئنا بصفة عامة، طالما أنا أدعى الذهاب للعلاج.
وكأنى أذهب نيابة عنه، .
****
لم يعد فى مقدورى أن آمل فى أى حل من الحلول التى لاحت لى هنا أو هناك، نشاط عقل بالى الساخر كان يبالغ فى تشويه هذا المآل الذى انتهى إليه نصحى وعائلته، أغلقت خلفى كل الأبواب منذ سمعتهم يغلقون باب شقتهم ورائى، إذا كان الشفاء هو أن أدفن حيا فى إحدى مقابر الملوك العصرية، فيفتح الله.
………
أنا لا أستطيع الزعم أنه كان لدى أمل حقيقى فى التحليل أو غيره، تعمدت أن أنهر عقل بالى حتى لا ينفرد بى وأنا أفهمه ألا يبالغ فى التعميم، فلعل بيت الأستاذ نصحى فريد هو نتيجة لطباع مختلفة لم آلفها، ولا علاقة لها بالتحليل، رحت أعزو مقاومتى أن أسلم نفسى لعملية التجميل التحليلى هذه لاختلاف موطنى الأصلى، أنا لم أستطع أن أتخلص من قريتى بعد، أنا أحملها تحت جلدى، هذا الذى شممت رائحته عند الدكتور المستشار التحليلى ثم رأيته فى بيت الأستاذ نصحى لا يصلح لعلاج أمثالى ممن يقيمون فى المدينة كزائرين حتى لو مكثوا فيها قرونا دون الرجوع إلى قريتهم التى يحملونها معهم حيثما كانوا.
لم أزر أمى منذ لست أدرى متى.
****
ونبدا الأسبوع القادم فى تقديم الفصل السادس “الزيارة”
ـــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “الواقعة” الجزء الأول من “ثلاثية المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1977، الطبعة الثانية 2005، الطبعة الثالثة 2019) والرواية متاحة فى مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية – المقطم – القاهرة.