نشرت فى جريدة الوطن
14/3/2001
ثقافتنا: بين الرمز والحقيقة
الخطر الحقيقى الذى يهدد البشرية عامة، ويهددنا بداهة، هو أن نغتر بما أنجزنا فنستدرج لنصنع عالما من الأرقام والمعلومات والخيال ليحل محل الحقيقة كما خلقها اله.
هذا ما شعرت به وأنا أقرأ كتابا رائعا صدر أخيرا فى سلسلة عالم المعرفة التى تصدر عن المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب. الكوويت. وهو عدد خاص فى 574 صفحة، العدد رقم 265 عدد يناسر 2001 م. ألفه الصديق الجميل أ.د. مهندس “نبيل على” الذى بدأ مهندسا للطيران لينتهى إلى هندسة اللغة، وما كاد يستقر به المقام فى رحاب اللغة، حتى وجد نفسه بفضلها، ومن أجلها، يخوض فى حديث هندسة الثقافة”.
هو كتاب جاد، محيط، يتكلم اللغة الأحدث، ويغامر بقبول التحدى، ويعلن نقصنا بأمانة حافزة، إذ يؤكد على ضرورة اللحاق بلغة العصر دون الاستسلام لتبعية، أو خزى من دونية. قضية الكتاب الأساسية هى محاولة “تطويع ثقافتنا المعاصرة لتواكب الإنجازات الإنسانية المتاحة من تقنية (=تكنولوجيا، أسماها هو تقانة، وسوف أوافقه على ذلك).
فى البداية: فرحت بالكتاب فرحة غامرة، كما كنت قد فرحت بكتاب المؤلف الأول “العرب وعصر المعلومات” العدد 184 سنة 1994فى نفس السلسلة غمرنى شعور بالفخر والامتنان. الفخربأن بيننا من يأخذنا مأخذ الجد هكذا، والامتنان للجهد الفائق الذى بذله المؤلف حتى يخرج لنا هذه الموسوعة المصغرة تتناول كل القضايا الأساسية التى على كل عربى، مهما كان موقعه، أن يقف عندها وهو يبحث عن دوره، أو مساره، أو مصيره، ذلك أن المؤلف قد غطى مساحة شاسعة: من أول منظومة تكنولوجيا العلم والمعلومات حتى منظومة القيم والمعتقدات، مرورا بالتربية والإعلام وختاما بالإبداع الفنى.
فى هذه الكلمة الموجزة لا يمكن أعرض نقدا للكتاب. فقط أريد أن أنبه إلى أنه مع تقدمى فى القراءة، أخذت المخاوف تراودنى حتى كادت تحل محل الفرحة. ذلك أننى تنبهت إلى أن المؤلف حمل نفسه فوق ما يمكن أن يحتمل مؤلف (أو بشر)، وهو يتناول كل شئ (تقريبا كل شئ)، حيث يقرر أن الكتاب”.. يهدف -أساسا- إلى اختصار الوقت والجهد اللازمين لاكتساب “……خلفية معرفية وتكنولوجية مغايرة تماما لما كانت الحال عليه فى الماضى”. وذلك من من منظور معلوماتى ”تساءلت: هل هذا ممكن أصلا ؟
بدا لى حين أتممت قراءة الكتاب، أنه بالرغم من فرط حماس المؤلف، وموسوعية اطلاعه، ودقة حسابات هندسته، وأمانة توصيات رؤيته، بالرغم من كل ذلك فإن الكاتب بدا لى وكأنه قد اقتنع، ويريد أن يقنعنا، بإمكانية (وربما حتمية) أن نعيش عالما من صنعنا، بديلا عن العالم الذى خلقه الله، هو لم يصرح بذلك فهو شديد الإيمان رائقه.
الذى وصلنى هو مأزق الإنسان المعاصر فى انبهاره غير المحدود بالإمكانيات التى أصبحت تحت أيدينا، عامة ومختصين، حتى تصورنا أن الزمان قد دان لنا، يبدو أننا قد سكرنا بخمر المعلومات كما سكر قديما الحسن بن هانئ (أبو نواس) بـالصفراء التى لا تنزل الأحزان ساحتها، فراح يتصور أنها “دارت على فتية دان الزمان لهم، فما تصيبهمو إلا بما شاؤوا”. التقانة (التكنولوجيا) الحديثة فى عصر وعالم المعلومات، صورت للإنسان أنه قادر على كل شيء، حتى على صنع طبيعته بنفسه، طبيعة خائلية تضاهى (وأحيانا يتصورها قادرة على منافسة) الطبيعة التى خلقها الله.
الخطر الذى وصلنى هو أن يحل الشكل محل الأصل، أن يحل الرمز محل معناه، أن يحل الدال محل المدلول، أن يحل الواقع الخائلى محل الحقيقة الطازجة المتجددة، كما حل المجرد محل العيانى. نبهت فى مقال سابق فى هذه الصحيفة الغراء على خطورة ما حل بنا حين حلت الحضارة الكتابية محل الحضارة الشفاهية. المفروض أن يحتوى الجديد القديم لا أن يزيحه ليحل محله.
يمكن القول أن الإنسان كما خدعه عصر الصناعة فامتلأ غرورا وظن أنه قادر عليها، فإنه على وشك أن يخدع بعصر المعلومات من حواسيب وإنترنت، فيعيش فى دنيا رقمية صنعها جزء من عقله، يستبدلها بما خلقه الله أصلا.
أخشى ما أخشاه أن نواصل تخليق الرمز حتى نعبده، فيصبح العالم الرقمي، بوعى أو بغير وعى، هو صنم العصر الجديد.
إن بعض ما استوحيته من تعاليم وعبادات ديننا الحنيف هو حرصه الشديد على الحفاظ على العلاقة المباشرة المتجددة مع مخلوفات الله وخلقه جميعا بلا وسيط. تذكرت ما كررته مرارا مما بلغنى من معنى التأكيد على رؤية الهلال بالعين دون حساب الفلك،قلت إن هذا ليس استهانة بالعلم، ولكنه تأكيد على ضرورة الحفاظ على هذه المباشرة فى علاقتنا مع الطبيعة. إن أرض الله الغفل هى مسجدنا فى أى مكان، (جعلت ل الأرض مسجدا وطهورا). وإذا كان التصوير الحديث والرسم قد اقتربا أكثر فأكثر مما هو إبداع فنى بعيدا عن احتمال تقديس، فإن العالم الخائلى الذى يقدمه لنا الحاسوب هو أولى بالانتباه ليظل فى موقعه أداة طيعة لما نريد، وليس خدعة تلمؤا غرورا ونحن نتصور أننا أصبحنا قادرين على الخلق، ثمنفاجأ أننا أصبحنا عبيدا لما خلقنا.
التحدى الملقى علينا هو أن نستفيد بكل معطيات العصر دون أن نسمح أن يوهمنا عقلنا المحدود بقدة غير محدودة،تشوه وجودنا وتقزمه ونحن نتصور أننا نمده وندعمه.