نشرت فى الدستور
2006-4-12
ثقافة البلطجة، وهيبة الدولة
لعلها كانت سنة 1940 أو قبلها بقليل، كان الشيخ عبد العزيز يدق البن بعامود حديد ثقيل أملس، رفعاً خفضاً طحناً فى جوف حجر عملاق، وهو يدندن أغنية تقول: “إحنا الغفر إحنا الغفر، مترصصين نفر نفر، شوف الغفير فى وقفته، وهوّا عاوج لِبِْدُتـُـه، ولما يزعق زعقته، تقولشى مدفع وانفجر، إحنا الغفر!!. إحنا الغفر”. رحت أرددها وراءه حتى حفظتها، فتسحَّبت إلى وعيى حتى قامت بالواجب فى فهمى معنى “هيبة الدولة طفلاً”.
كان الغفير له من الهيبة والحضور ما يخشاه الناس واللصوص جميعا، بل إننى تصورت فى تلك السن أن صيحة الغفير “مين اللى جاى” ليلا يمكن أن تطرد الجان حتى من حول المقابر. روح يا زمان تعالى يا زمان، اختفى الخفير بلبدته وصيحته وهيبته، ثم اختفى شيخ الخفر، ثم تراجع دور العمدة، ثم تدهور الحال بكل ما هو سلطة وحكومة، حتى هانَت الدولة وهى تصل إلى وعى الناس والأطفال فى صورة جندى المرور وهو يمد يده مثله مثل زملائه حاملى مقشات الشوارع، أو بائعى المناديل الورقية، أو فوط التنظيف عند إشارات المرور. تراجع حضور الحكومة على مدى كل طيف السلطات، من أول حضورها فى ضبط وإحكام البحث العلمى (فى الجامعات وغيرها) حتى جندى المرور كما ذكرنا، مرورا بناظر المدرسة الذى يخاف من سخط الأهالى فى الصعيد وغير الصعيد وهم يغششون أولادهم جماعةً وعلانية، إلى وزير التعليم الذى يخاف من الصحف التى تنشر آراء أولياء الأمور فى كل مواسم الامتحانات العامة وهم يشكون صعوبة مادة الكيمياء أو حساب المثلثات، إذْ يحكمون على الصعوبة من دموع ابنتهم الخائبة، أو ابنهم المدلل. فيسارع الوزير بالتصريح أن مادة الجبر كانت سهلة جدا جدا، وأنه سيعيد توزيع الدرجات حتى يخفف من سخط الأهالى والصحف.
أين الدولة؟ الشوارع والعربات على كلا الرصيفين ولا سبيل لمرور عربتين متقابلين فى شارع ذى اتجاهين، إشارات المرور لا تٌحْترم، قوانين ربط أحزمة السيارات التى أثرى منها الذين أثروا، لم يعد أحد يلتزم بها، ولا عقاب على ذلك إلا “تمحيكة” لسبب آخر… إلخ إلخ.
مع اختفاء عصا الدولة وهيبتها، إلا لتفريق المظاهرات وتنظيم المواكب الرسمية والحجز الاحتياطى أو الاعتقال الطوارئى، راح كل واحد من الناس يدبّر أموره بالحلول الذاتية مستقلاًّ (يدوّر على ميته تسخن)، الشيخ الخليجى له حرسه الخاص فى فندقه الخاص، وبلاج الباشوات فى مارينا يقف على مدخله أصحاب العضلات القبيحة كالأورام على صدورهم، حماية لرواد البلاج، ودور البلطجية المحترفين فى الانتخابات ما زال ماثلا فى الأذهان، والسنج المشهرة هى وسيلة الحماية فى الملاهى، ثم خذ عندك قانون الطوارئ فى السياسة، وحبس الصحفيين فى الرأى، وإهانة البشر فى أقسام البوليس، و “وضع اليد” فى تين وزيتون ومنازل البدو فى الصحراء الغربية، كل ذلك أصبحت له فرق مدربة، وقواعد مقررة وهيراركية محسوبة.
نلاحظ فيما ذكرنا كيف اختلطت البلطجة الرسمية بالبلطجة الشعبية حتى أصبحنا – حكومة وشعبا – نعيش ثقافة البلطجة، حتى دون ثقافة الفتوات. الفتونة لها قواعدها المعلنة، ولكل فتوة رجاله المعروفون، أما ثقافة البلطجة فهى احتراف مأجور، قد تستعمل بعض الوقت، وقد تستعمل بنظام “تحت الطلب”، أو “توصيل الطلبات” … أو لابتزاز المهمين إلخ.
لماذا بعد كل هذا نتعجب من تصرفات، أو نشكك فى القوى العقلية، أو حتى نعاتب السيد الأستاذ الدكتور القانونى العميد رئيس الحزب العتيد، وهو لم يعمل شيئا غريبا عن الثقافة السائدة والعرف الرسمى والشعبى معا؟
لعلنا نلومه إشفاقا عليه، لخيبته فى الحسابات، ولأنه اتبّع مشورة من هو دونه فى القانون والذكاء والعلم، أو لعلنا نلومه لإهانته لكل القيم التى كان من المفروض أن يحميها ويعلى من شأنها وهو يمثلها، من أول القيم التاريخية السياسية (سعد زغلول والنحاس) حتى القيم الجامعية والقانونية (عميد كلية الحقوق).
كلما زادت ثقافة البلطجة انتشاراً، أُعْلِنَ اهتزاز هيبة الدولة فى الشارع والمعاملات. لقد تنازلت الدولة عن حضورها فى وعى الناس كباراً وصغاراً، لتتفرغ لحماية أهل المصالح ورجال السلطة.
هل من سبيل إلى دعوة حقيقية وبداية جادة؟
ليكن الطريق طويلا، ولتكن العودة صعية، وليكن الثمن كبيرا لكن السؤال الأهم يقول:
أليس من حقنا أن نعيش فى ظل دولة لها احترامها تنظم حياتنا فنحترمها، فنحترم أنفسنا؟. هذا وإلا فسوف يكون سلوك الأستاذ الدكتور العميد رئيس الحزب هو المثل الأعلى لطلبتنا، وأطفالنا، وسائر الناس.