الاهرام: 25/8/2003
ثقافة الإنترنت
أحضر لى صديقى الشاب مقالين عثرعليهما أثناء تجواله عبر العالم (على شبكة الإنترنت): الأول عن ‘ميتافيزيقا المناعة’Metaphysics of Immunity والثانى عن الشواش (الفوضى) والوعى Chaos and Consciousness.. سألته كيف عرف أنهما ضمن اهتماماتي، فأجاب بما أكد لى أنه صديق (هو يراني!). طلبت منه المزيد حول المقالين، فوعدنى خيرا، وأن هذا سهل لأن صاحب الموقع هو صديق أمريكي، وهما يتفاهمان منذ أكثر من عام، صداقة معرفية مبدعة عبر الشبكة، قلـل ذلك، فجأة، من خوفى من تدميرية غباء بوش وجبن صدام، وإجرام شارون، وأمثالهما
صديقى ‘محمد’ هذا (16 سنة، متفوق جدا، دخل مختارا مؤخرا الكلية التى يريدها، دون كليات القمة الأشهر)، أستعين به فى إعادة تشكيل موقع لى (تحت الإنشاء) على شبكة الإنترنت، فضلته رغم صغر سنه، بل بسبب صغر سنه (ربما مقتديا ببيل جيتس). حين عرف محمد بعض تفاصيل ما أريد أن أضمنه موقعي، اقترح على أن أضيف موقعا ‘تعليميا’ مستقلا، ثم راح يشرح لى تفاصيل إمكانات الموقع حين يصبح تعليميا على مستويات مختلفة. شعرت أنه يعتقنى من إسار لم أكن أتصور إمكانية الخروج منه قبل رحيلي، شعرت أننى أتحرر من وصاية شركات الأدوية على النشر العلمى وشركات الورق والإعلانات والطباعة على كل النشر، شعرت أننى أقفز فوق أسوار الجامعة، متجاوزا حواجز المؤتمرات الاجتماعية شبه العلمية الخالية من أى نقاش حقيقى (عشر دقائق لكل خمسة أبحاث مثلا!!!).
نحن نعيش عصرا آخر، له شكل آخر، قد يخلق بشرا آخرين. ‘ثقافة الإنترنت’ ليست قاصرة على الخاصة الذين يستعملون هذه الآلية، وهى غير ما يسمى ‘عصر المعلومات’ و’ما بعد المعلوماتية’. الإنترنت ليس فقط للدردشة، أو الإثارة الجنسية، أو لادعاء الموسوعية وتزيين الأبحاث بفقرات مجتزئة ضحكا على الذقون. ثقافة الانترنت هى ثقافة مشتبكية تعد إيجابياتها بتشكيل وعى الناس بما يضم شتات البشر إلى بعضهم البعض، وهى تسمح بالتعاون على البر والتقوى والعدل والإبداع.
إن تغير ثقافة ما – بالمعنى الجذرى للثقافة – لا يحتاج إلى أغلبية مطلقة (51%) وإنما تكفى نسبة تدور حول 10% ، لينتظم الباقى فيها.
فى ثقافة الإنترنت سوف ينتظم العالم فى اتجاه وعى عام أقل تعصبا، وأكثر تنوعا، وأجمل إيمانا، وأنشط إبداعا. وسوف يشمل ذلك من لا يعرف الإنترنت، بل من لا يعرف القراءة والكتابة.
إن عامة الناس يعرفون ، ويمارسون، ما هو وعى جماعى بقوانين كلية، وتواصل متداخل ، يتجاوز كل ألعاب السلطات الغاشمة والمرموزة والمعقلنة والوصية. هذا الوعى العام مهما بدا غامضا هو الأصل. هذا الوعى العام هو الذى استشعر أن فيروس ‘سارس’ هو لعبة سياسية من قبيل الإلهاء أكثر منه وباء خطرا يهدد العالم، (ماذا يعنى إعلان وفاة بضع مئات فى بضع أسابيع، ثم تتراجع المسألة حين تقل حدة القتل). أرادوا أن يشغلوا الناس، وخاصة أهل الغرب، بحرصهم على سلامة أجسادهم التى تقع على قمة هيراركية قيمهم، لعلهم يتلهون بذلك عن قتل الأطفال فى العراق وموت الناس الأفقر، جوعا، عبر العالم (المقال الأول).
إن البشر – مثل سائر الأحياء – يتعاملون مع بعضهم البعض – فى نهاية النهاية – بما هم، وليس بما يلقى إليهم من أعلي. إن الوعى البشرى بالإنترنت وبغيره غير قابل للاختزال (المقال الثانى).
إن الدنيا بخير، وما يمثله بوش وصدام وشارون يذهب جفاء، أما ما ينفع الناس فهو ما يمكث فى الأرض.