الأهرام: 25-03-2001
نبذة: إعادة تعريف معنى “الأصنام مع تفسير النهى عن الرسم والنحت، وذلك رفضا لما قام به طالبان من تحطيم تمثالى بوذا ومناقشة ذلك.
تمثالى بوذا، والأصنام المعاصرة
ما هو الصنم ؟ هو تجسيد يصنعه الإنسان بنفسه ليحقق له احتياجا ما، قد يكون هذا الاحتياج ظاهرا وبسيطا، وقد يشير إلى حاجة أكثر غورا وأخطر دلالة، ثم تتخذ هذه الصنيعة قيمة خاصة، ثم تفيد معنى خاصا، فإذا بهذا الذى صنعه الإنسان بنفسه يتعاظم قدره نتيجة لهذه الحاجات الخفية التى لا يدركها، ثم تتولد هذه المشاعر الغامضة المنبع حتى يصير هذا المصنوع رمزا، تحيطه هالة من الأوهام والأمانى، ثم تتخلق حوله طقوس حتى يصير إله يعبد من دون الله. كل هذا يتعرض له من حرم اليقين المباشر بحضور الله سبحانه وتعالى يملأ وعيه ويصيغ حياته ويهدى خطاه. حتى أن فرويد قد شطح فى ثورته الأوديبية على الأب حين فسر الأديان بنفس الاحتياج، وهذا ليس وقت بيان خطئه الجسيم هذا. على الرغم من التماس العذر له لظروفه الشخصية.
المثل العامى عندنا يقول ‘اللى ما لوش كبير يشترى له كبير’، لكن المثل لا يقول بعد ذلك ماذا نفعل بهذا الكبير الـمشترى، لكن الفاهم لطبيعة البشر يعرف أن هذا الشارى هو معرض أن ينسى أنه اشترى هذا الكبير لسد حاجة فى نفسه، وينقلب الحال ليصبح هذا الكبير محترما، ثم هاديا، ثم لعله يصبح مقدسا. خاصة إذا طالت الفترة بين الشراء وممارسة طقوس التبرك به. و مع أنه يبدو من غير المعقول أن تتسيد السلعة على شاريها وتحكمه كما تتحكم فيه، إلا أن تاريخ المماليك يقول إن هذا هو الذى حدث.
مثال آخر نستلهمه من حكاية (لعلها نادرة) تروى فى بلدنا: يحكى أن صديقين من الفلاحين ضاقت بهم سبل الرزق، ولم يعرفا لهما حلا إلا أن يدفنا جثة حمار عثرا عليها صدفة، ويبنون حولها مقاما له قبة خضراء، على قدر الحال، ثم يدعون أنه مقام لشيخ ذى بركات وكرامات. وفعلا تم ذلك، وما لبث الناس أن زاروا المقام، ورددوا الدعوات، ونذروا النذور، وتحققت بعض الرغبات، ونجحت الفكرة. ثم لأمر ما اختلف الصديقان – ربما على قسمة عائد صندوق النذور، فأقسم أحدهم -صادقا متحمسا -‘ برحمة سيدنا الأخضر’ ليثبت لصاحبه أنه برئ مما اتهمه به، فتبسم صاحبه مذكـرا إياه أنه: ‘جرى إيه يا بو فلان ؟ دا احنا دافنينه سوا’ ؟!! فصارت مثلا يضرب لمن يعمل العملة، ثم ينسى أصلها، فيصدقها، ثم يروح يسوقها حتى على من يعرف أصل الحكاية. هذا مثل آخر يشير إلى كيف يقدس الإنسان ما صنعت يداه دون يدرى، وهو ما أعنيه بالميل إلى التصنيم الغائر فى الطبيعة البشرية.
حين نزل الإسلام الحنيف بالتوحيد، كانت محورية العقيدة فيه هى تحرير الإنسان من مثل هذه الألعاب النفسية التى تعلن حاجته القصوى إلى الاعتماد على كيان خارجه، يهديه ويحاسبه. من هنا كان جوهر الإسلام الرائع يدور حول التوحيد بأنه ‘لا إله إلا الله ‘، وهى عقيدة، على بساطتها، تحرر البشر من الخضوع أو الاستسلام لأى ‘شخص’ ‘لكنا هو الله ربى ولا أشرك بربى أحدا’ (سورة الكهف)، وأى شيء ‘يعبدوننى لا يشركون بى شيئا’ (سورة النور)، وهكذا يتمتع المسلم الحق بحرية أكبر فأكبر كلما تخلص من الشرك بكل تجلياته، من عبادة المال، أو الجاه، أو الولد، أو السلطة، أو المنصب.
أقر وأعترف ابتداء أن حاجة الإنسان للشهرة والسلطة والمال والولد لا تعيبه فى قليل أو كثير، نحن بشر، وهذه طبيعتنا. لكن الذى يعيبه أن ينقلب أى من هذا إلى مقدس يهب الإنسان نفسه له. فى رواية ‘حضرة المحترم’ لنجيب محفوظ كانت الوظيفة الحكومية والترقى والروتين آلهة بكل معنى الكلمة، آلهة من دون الله. جعل محفوظ ينبهنا فى رائعته تلك إلى أن ثمة شركا بالله لا نكاد ندركه، ومن ثم يهدينا إلى توحيد يحررنا.
هكذا فهمت المغزى التاريخى لاحتمال تحريم التصوير والنحت وماشابههما. فهمت أن التصوير المحرم فى الإسلام ليس هو ممارسة فن التصوير، وإنما هو الانزلاق إلى نسيان أنه تصوير، لم يحرم الإسلام على المبدع التشكيلى أن يستلهم هارمونية الطبيعة بوعيه الخلاق ليعيد صياغتها ليظهر أعماق جمالها من خلال حوارها مع أداة إبداعه. لكن الإسلام حرم أن نستدرج حتى نقدس ما صنعناه دون الله. يتحقق الشرك على مرحلتين:
المرحلة الأولى : حين يتأله الإنسان – وهو لا يدرى – إذ يخلق الجديد الأصيل أثناء نشاطه الإبداعى (أوحتى العبثي)، فيتصور أنه خالق فعلا، أى أنه إله صغير، وينسى أنه بإبداعه هذا ليس إلا عازف على آلة واحدة فى أوركسترا الكون الأعظم الذى يبدعه باستمرار ربنا الخالق البارئ المصور. هذه النقلة التى يـرقى بها المبدع نفسه من دوره كعازف إلى دوره كقائد للأوركسترا هى التى تملؤه غرورا، فيتأله، ويشرك.
المرحلة الثانية : حين ينبهر الإنسان المغرور بمخلوقه الجديد فى نفس الوقت الذى يكتشف فيه أنه ليس إلاها ولا يحزنون، فيسقط حاجته هذه على ما صنعت يداه، فيؤلهها من دون الله، سواء درى أم لم يدر، فيصبح تقديس ما صنع هو الشرك الجديد .
نفس الخطوات تحدث أحيانا فى فترات متباعدة من التاريخ لبعض الحكام أمثال لينين أو هتلر أو ستالين أو ماوتسى تونج. تصنعهم شعوبهم لحاجتهم إليهم فى مرحلة بذاتها لغرض بذاته، ثم ينسى الناس – كما ينسى الزعيم – أنهم هم الذين صنعوه، وهات يا تقديس، وهات يا شرك من دون الله سبحانه.
من هذا المنطلق أعدت فهم معنى الأصنام وعبادتها. يتسع معنى التحريم إلى عبادة أى وسيلة قمنا نحن بصنعها، ثم انبهرنا بكفاءتها أو جمالها، حتى صورت لنا أننا آلهة صغيرة، ثم صورناها لأنفسنا أنها مقدسة تستحق التأليه. لم يعد التصوير أو النحت فى عالمنا المعاصر معرض لأى من هذه المظان أصلا. لا أحد يتصور أنه إله لأنه أنجز تمثالا رائع الجمال،أو رسم تشكيلا تشع الشمس منه حتى تكاد تدفئ من يقترب من الصورة من روعة صدقه (فان جوخ مثلا). فلا مجال للظن أن هذا الفن أصبح مدخلا للشرك أصلا.
ليس معنى ذلك أننا لسنا معرضين فى حياتنا المعاصرة لمداخل الشرك المتسحب من أبواب أخفى وأخطر. سوف أضرب لذلك مثلا من إنجازات التكنولوجيا الأحدث، تكنولوجيا الرقمنة والترميز. (تكنولوجيا عالم المعلومات: أى الحاسوب وكمالياته وشبكات اتصاله الأحدث). نأخذ مثالا واحد وهو ما يسمى الواقع الخائلى (أو البديل).
يعلمنا د. نبيل على (فى رائعته الأخيرة : الثقافة العربية وعصر المعلومات) أن الإنترنت أصبح يمثل الآن ‘فضاء رقميا’ عاما تسكنه خائليات كثيرة، حتى وصل الأمر إلى تكوين جماعات خائلية تتحاور وتلتقى فى صالات للاجتماعات، وأركان للمقابلات الثنائية. كما يمكن من خلال تقنيات بسيطة أن يعيش المشارك تنقل حركة جسده، وتمادى إبحاره، باستعمال الحلة ‘الحساسة ‘و’النظارة الوهامة’..إلخ حتى رحنا نجوب عوالم الوهم متحررين من قيودالجسد، وقيود قوانين الطبيعة، وقيود قوانين المجتمع، نخترق الحوائط، ونهوى من أعلى الشواهق، لنرتطم بالأرض دون أن نصاب بخدش.
إننى ما أوردت كل هذا إلا لأبين كيف أن الإنسان المعاصر، خصوصا إذا كانت بصيرته قد طـمست عن الله سبحانه، هو أكثر عرضة أن يمارس تجواله فى هذا الواقع الزائف وكأنه إله صغير، ثم إن البعض منا عرضة – بعد ذلك (إن شعوريا أو لاشعوريا)- أن ينتقل إلى المرحلة التالية، فيتصور-دون استغفار- أن هذا العالم الذى خلقه من الوهم هو أفضل مما خلق الله تعالى، ثم يغيب فيه، ويستبدل به عالم الطبيعة، بل قد يستغنى به عن الأسرة وعن الزواج من خلال ما يسمى الآن ‘الجنس الخائلي’.
أليست هذه كلها، إذا ما أسيء استعمالها هكذا هى اللات والعزى المعاصرة . هذا هو ما حرم الله، إنه سبحانه لم يحرم الحاسوب أو الإنترنت أو التصوير أو التشكيل، ولكنه تعالى حرم أن يستدرجنا هذا الإنجاز الذى نصنعه بأنفسنا، حتى نحل الخيال الذى خلقناه محل الطبيعة والكون الذى خلقهم هو جل شأنه، فنعبد أنفسنا وما صنعناه دونه.
فأين يقع بوذا الطيب- رحمه الله -من كل هذا؟
إن بوذا لم يكن إله، لم يؤله نفسه، ولم يطلب من أحد عبادته، كان صوفيا، زاهدا، شيخ طريقة إن صح التعبير، أو صاحب مذهب فلسفى على أرض الواقع من وجهة نظر أخرى، وقد أحببته كثيرا وأنا أربت على كرشه مداعبا إياه فى الحديقة اليابانية فى حلوان، وفى بلدة تهت فيها وأنا فى طريقى إلى الغابة الحمراء بالقرب من سان فرانسسكو فى طريقى لزيارة الغابة الحمراء مسرح الانتحار الجماعى – سمة العصر الحديث. أحببته رغم أننى كنت أرفض كرشه، ولا أفهم لماذا كان نهما هكذا وهو الزاهد المتقشف (إبن الناس) حتى تكون هذا الكرش، ولم أتصور أبدا أنه يمكن أن يقام له تمثالا واقفا. كيف وكرشه أمامه هكذا. من قال أنه إله أصلا يا سادة يا كرام. من عينكم وصاة على المعاجم والتفاسير والتاريخ؟إن الحقائق والنصوص ملكنا جميعا مجتهدين موحدين
إن الذى يعرف كيف تطورت علوم اللغة الآن فى سائر الأرض، يعرف كيف أن ألفاظ المعاجم عندنا تجمدت على صورتها حتى التقديس الذى حال بيننا وبين تطوير لغتنا الرائعة المرنة، نسينا أن لكل لفظ معجمى عمره الافتراضى، ثم يعاد تشكيله حسب السياق الجديد، والمعرفة الجديدة. إن الألفاظ إذ تجدد معناها إنما تسمح برحابة أوسع لقراءة النص، فى سياق آخر غير السياق الذى نزل فيه النص. إن من يجمد حركية اللغة، تقديسا أو جهلا، لا بد أن يقع، ويوقعنا معه فى تفسيرات خاطئة، ثم إنه يحرمنا من أن يتنزل علينا النص المقدس باستمرار ليعيد هدايتنا إلى التوحيد الحقيقى الخالى من الشرك الظاهر والخفى. إن عبادة اللفظ-كما هو-دون استلهام النص -كما يتطور معنا ويطورنا – هو نوع من الشرك الخفى.
يمكن بهذا التوسع الرحب فى فهم اللفظ فى سياقه الجديد أن ينتفى تماما تحريم التصوير، لا بإنكار نص ورد إلينا، ولكن بإعادة تعريف ما هو التصوير، وما هو التصنيم، وما هو الشرك .
على نفس القياس، يمكن تحريم – ولا أقول تكفير – من يقدس اللفظ جامدا (مثلما ضل أو جهل بعض مفتى الأفغان) حتى عبدو شكل اللفظ دون معناه المتـطور، ولا أقول دون الله سبحانه.
اللهم اغفر لنا ولهم، ولا تهلكنا بما فعل السفهاء منا،.
لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.