نشرة الإنسان والتطور
الخميس: 10-3-2022
السنة الخامسة عشر
العدد: 5304
تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) (1)
وهكذا نواصل نشر “الأصداء” مع “أصداء الأصداء”
بقلم: “يحيى الرخاوى” واحدة واحدة (64)
الفصل الثانى: فى مقام الحيرة، والدنيا تضرب تقلب!!
الأصداء
64 – فى الحجرة الواسعة
””فى المنام رأيتنى فى حجرة واسعة عالية السقف، خالية من الأثاث عدا مائدة مستديرة فى الوسط حولها كرسيان متقابلان، جلست على كرسى وجلس على الآخر صديق حميم، وأمام كل منا فنجان قهوة، وثمَّ باب يفضى إلى حجرة أخرى مظلمة جدا لا أدرى شيئا عما بداخلها. وقال صديقى: علينا أن ننجز المهمة، فقلت موافقا. لابد من إنجازها. وفجأة قام صديقى فمضى نحو الحجرة المظلمة واختفى، وتبين لى بعد ذهابه أن القهوة اختفت من فوق المائدة فناديت عليه، لم أسمع ردا ولكن ظهر شخص غريب فجلس مكانه وقد لفت انتباهى بعباءته البيضاء، ورغم أننى لم أكن أعرفه إلا أننى قلت لنفسى إن وجوده خير من عدمه أما هو فقد وضع أمامه كأسا وكاسا أمامى وقال: لنشرب نخب الضوء والظلام، فرفعت الكأس لأشرب ولاحت منى التفاتة إلى داخلها فرأيت وجه صديقى الغائب يرنو إلىّ، فارتعشت يدى وقلت للجالس أمامى. “لابد من إنجاز المهمة.”
أصداء الأصداء
يعود الحلم بكل ما يميز الحلم، وقبل أن أكمل الفقرة أفرح لمجرد قراءة البداية “فى المنام”، ربما لعلاقتى الخاصة بإبداع محفوظ حين يدخل من باب الحلم، كما تعلمت خاصة أثناء قراءتى عمل محفوظ السابق “رأيت فيما يرى النائم” وربما لأن الحلم السابق مباشرة (فقرة 63) طمأننى ضد توجس خفوت صوت الأصداء، وربما لأن الأحلام فى هذه الأصداء لم تخذلنى أبدا (حتى الآن على الأقل) وفعلا لم يخب ظنى (2) : وقد أعود إليها فى دراستى المقارنة مع أحلام فترة النقاهة
بمجرد أن يبدأ الحلم أجد نفسى بين شخوص الداخل أكثر، الواقع الداخلى: تنفرط الذات إلى ذواتها، وتبدأ الحوارات، هنا نجد أنفسنا أمام “حوار المواجهة”، تبدأ المواجهة بيقظة متبادلة بين الذوات وبعضها، وفنجان القهوة أمام كلٍّ، لكن – وبالرغم من محاولة الاتفاق على المهمة (رحلة العمر) يختفى أحد المواجهين، وأتصور ذلك ترجمة لرحلة الكبت الضرورية لاستمرار مسيرة النماء على مراحل، لكن الاستمرار الأحادى بلا مواجهة وبلا حوار – بعد كبت الذات الأخرى – هو وهم ضد الطبيعة البشرية، فيتشكل الداخل فى محاور جديدة (ذوات أخرى) إذ يستبدل فنجانى القهوة، بكأسين، ويتعمق الحوار ويتحدد لتصبح المهمة أقل غموضا وفى نفس الوقت أصرح تناقضا، “نخب الضوء والظلام” (مازلت فرحا بكثافة هذا الحلم).
أصبحت المواجهة جدلا خلاقا يعترف بحق كل من المتحاورين بنصيبه من نخب الضوء والظلام معا، فهو الجدل الذى لا يحتاج الأمر معه إلى قاهر آخر يمارس كبتا جديدا (فقد اختفى فى الحجره ومعه أدوات يقظته النشطة: فنجان القهوة)، وهذا الجدل الحيوى الداخلى هو الذى يحقق التكامل، فى حين أن الصراع التناقضى لايحله إلا إلغاء أحد شقيه، أو اللجوء إلى تسوية ساكنة، توقف النمو والحركة معا.
لكل ذلك فقد قرأت فى هذا الحلم أن نجاح طرفى المواجهة فى مواصلة الجدل دون إلغاء أحد الشقين أو الرضا بالتسوية لم يحقق فقط تحمل التناقض، بل سمح بالاعتراف بالذوات الأخرى التى كانت قد اختفت، فهذا هو الصديق الغائب يظهر فى الوعى من جديد، يظهر أقرب فى قاع الكأس مباشرة ويصبح إنجاز المهمة واستمرار الحياة إلى غايتها التكاملية أقرب وألزم وأروع، وكأنه يقول إن إنجاز المهة” “رحلة الحياة” – لايكون بالغاء الذوات الغامضة أو المهددة أو المختلفة، وإنما بمواجهتها وتـَدَاوُلـِهـَا نحو تكامل ممكن.
[1] – يحيى الرخاوى “أصداء الأصداء” تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) (الطبعة الأولى 2006 – المجلس الأعلى للثقافة)، و(الطبعة الثانية 2018 – منشورات جمعية الطب النفسى التطورى) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net
[2] ربما أعود إلى ذلك فى دراستى الأشمل لأحلام فترة النقاهة (إن كان فى العمر بقية)، وقد حدث ذلك فعلا وصدر لى كتاب (عن طبيعة الحلم والإبداع- دراسة نقدية في أحلام فترة النقاهة لنجيب محفوظ)، دار الشروق، 2011