نشرة الإنسان والتطور
الخميس: 29-5-2025
السنة الثامنة عشر
العدد: 6480
تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) [1]
وهكذا نواصل نشر “الأصداء” مع “أصداء الأصداء”
بقلم: “يحيى الرخاوى”
الفصل الخامس
الطفولة: نبضٌ متجدد دائم (8)
………………
………………
ولعل القارئ يلاحظ أننى استعملت فى وصف الطفل إسما دون صيغة الفاعل (الطفل الكشف وليس الكاشف، التأمل، وليس المتأمل..إلخ)، ذلك أننى أردت من جديد التأكيد على حرصى أن تخدم هذه الدراسة وتضيف إلى الإعلاء من شأن استمرارية الطفولة فى تآلفها فى الكل البشرى إسما حاضرا فاعلا، بدلا من الحرص على تمجيد أطفال خارجنا بما لهم من “صفات” كذا وكيت، تلك اللهجة التى تسحبــنا حتما إلى الوراء أكثر من أن تحفزنا إلى الحفاظ على زخم الطفولة فينا لنتكامل بها.
إن هذا التجلى العام لما هو طفولة متنامية، طفولة لم تعد كذلك إلا بقدر الحفاظ على الطزاجة والأصالة، وكذلك الحرص على تجديد الدهشة والإدهاش، هو الذى ينبغى أن نحرص على تعلمه من هؤلاء المبدعين وما أبدعوه.
إن الدعوة المتكررة إلى الإعلاء من شأن الأطفال، وحقوق الأطفال، وفرص الأطفال، تحل محل الحرص التربوى لاحتواء ما هو طفل فينا ونحن ننمو، احتوائه لنتكامل به، لا لنعود إليه نكوصا، وعندى أن المبالغة فى وصف براءة الأطفال والحرص على حريتهم ومرحهم وخيالهم خارجنا هو فى كثير من الأحيان إسقاط يعلن أننا عجزنا أن نحافظ علينا أطفالا مبدعين، وبالتالى رحنا نبحث عنا فى أطفال خارجنا.
لعل من أصالة هذا العمل وتفرده هو أنه نجح أن يبين لنا هذا البعد من الحضور الطفلى المتجاوز، وحتى ما لاحظناه من الخفوت النسبى لما هو طفلى بعد ظهور الشيخ عبد ربه، إنما يـثبت بشكل غير مباشر ما ذهبنا إليه.
إن الإبداع يستمد زخمه الأصيل من الجنون والطفولة معا، شريطة ألا يكون الجنون جنونا ولا الطفولة طفولة، ونظرة خاطفة لما وصف به نجيب محفوظ هذه القوة المبدعة البادئة بطفولته المتدفقة وهو يصف خروجه -طفلا – من أسى فقد جدته قائلا:” واندلعت فى باطنى ثورة مباغتة متسمة بالعنف متعطشة للجنون”، تجعلنا أقرب إلى تصديق الفرض القائل: إن من يحافظ على هذه الثورة المباغتة المتسمة بالعنف المتعطشة للجنون على مسار نموه ليتمثلها بأدوات نضجه، دون أن يلغيهـا بالوصاية أو النبذ أوالإنكار أو الموسوعية أو المنهج المتحجر: هو الذى يمكن أن يستمد منها طاقة الإبداع وأصالته أبدا.
لعل نجيب محفوظ بما هو، وبما أبدع طول حياته، الأمر الذى تركز أخيرا فى هذا العمل كمثال، قد استطاع أن يحل المسألة التى شغـلت النفسيين أبدا، والتى صغتـها شعرا، ثم شرحا فى دراسة فى علم السيكوباثولوجي*، تلك هى المسألة الصعبة:
“أن نعطى الطفل الحكمة والنضج، دون مساس بطفولته ببراءته بحلاوة صدقه، أن نصبح ناسا بسطاء لكن فى قوه، أن ننسج من خيط الطيبة ثوب القدرة”
أوضحنا فى الدراسة التشريحية ما يقابل ذلك فى المدارس الأخرى بما يستحق الإعادة هنا دون الاعتذار عن التكرار*:
فهذا التكامل “بالطفل والوالد معا” هو ما ما يسميه إريك بيرن “الناضج المتكامل ” Integrated adult وهو ما يسميه يونج تحقيق التفرد Individuation وهو ما يقع فى منطقة عصر الإنسان الثامن عند إريك إريكسون (الحكمة فى مقابل اليأس)[1] وخلاصة كل ذلك يقول:
إنه فى هذه المرحلة الختامية الولود (“ختامية” بلغة الزمن أى فى منطقة آخر العمل، و”ولود” بلغة تجدد الوجود بديلا عن الخلود) فى هذه المرحلة من العمر المبدع يكاد يتناسق الوجود فى وحدة واحدة، إذ تستوعب الذات الناضجة أغلب مكونات ما عداها من ذوات، فتصبح الذات الطفلية صفة متكاملة فى الواحدية التكاملية، وهذه السمة النابعة من الطفولة هى التى أسماها إريك بيرن الباثوسPathos (بمعنى الوجدان المعرفى النابض، وتصبح الذات الوالدية صفة أيضا وليست ذاتا مستقلة وهى ما أسماه إريك بيرن الإثوس Ethos أى الأخلاق الطبيعية المسئولة، وبالتالى يصبح الوجود واحدا له تجليات (وليس تبادلات) وجدانية معرفية نابضة طازجة، ملتزمة أخلاقية راعية واعية، واقعية بسيطة عملية عادية، كل ذلك فى “كل واحد”.
بديهى أن هذا التحقق “الواحدى المتكامل ” لا يكون أبدا فى صورته المطلقة إلا إذا أصبح الإنسان كيانا إلهيا لا تأخذه سنة ولا نوم، الأمر الذى ما زال مستحيلا لما هو كيان بشرى نأخذه “سنة” ويغلبه “نوم”. إلا أن التوجه نحو هذا التحقق شبه الإلهى: سواء على مسار النمو الفردى للذات وهى تعاود الولادة من جديد فى أطوار التجدد والبعث فى كل مرحلة من مراحل النمو، أو وهى تمارس الإنتاج الإبداعى بديلا عن هذا الإبداع الذاتى شبه الالهى، أو جنبا إلى جنب معه، هذا التوجه فى ذاته هو كل ما يستطيعه الإنسان فى مسيرة حياته الفردية المتواضعة، وبقدر ما ينجح فى تحقيق ذلك، يصبح شخصا قريبا من محفوظ (شخصيا)، وقريبا من أصداء نجيب محفوظ إبداعا كما بينا. حيث أن هذا الطفل الدائم فى صورة تلك الطاقة المبدعة هو الذى أعطى الأصداء (بل ومعظم أعمال محفوظ، وأيضا وجوده الشخصى)[2]، أعطاها، روحها الطازجة، وبساطتها المتحدية، ونقلاتها المفاجئة، ودهشتها المتجددة، ودهشتنا منها وبها أبدا، على الرغم من خفوت بعض ذلك مع الظهور المباشر لحكمة الشيخ عبد ربه التائه.
سامحه الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى “ديوان سر اللعبة”، دار الغد، للثقافة والنشر، القاهرة، 1978، ثم دراسة فى علم السيكوباثوجى (شرح ديوان سر اللعبة) 1979
[2] – د. يحيى الرخاوى تقاسم على أصداء السيرة الذاتية الفصل الثالث الإنسان والتطور، عدد61، يوليو 1998
Bern E. (1961): Transactional analysis in psychotherapy. New York Groove Press، Inc.
Jung، C.G. (1953) Collected works. Pantheon Books، New yourk،
Erikson، E. (1963) Childhood and Society، ed.،2W.W. Norton، New York.