نشرة الإنسان والتطور
الخميس: 22-5-2025
السنة الثامنة عشر
العدد: 6473
تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) [1]
وهكذا نواصل نشر “الأصداء” مع “أصداء الأصداء”
بقلم: “يحيى الرخاوى”
الفصل الخامس
الطفولة: نبضٌ متجدد دائم (7)
………………
………………
(13) فرق بين”موت و”موت”، من وجهة نظر طفلين: (طفل محفوظ وطفل عبد ربه)
بدأت الأصداء ونجيب محفوظ يحكى عن خبرته طفلا أمام موت جدته، وحين حل عبد ربه محل محفوظ، أخذ يتكلم بلسانه هو حتى وهو يذكر أيام طفولته، فتبدأ معظم الفقرات فى النصف الثانى من الأصداء بـ: “قال الشيخ عبد ربه التائه” (ثم قد يحكى عن طفولته)، بدلا من المباشرة دون وصاية، مثلما ما اعتدنا فى النصف الأول، مثل:”كنا أبناء شارع واحد (فقرة 6) أو “كانت أول زيارة للموت عندنا (فقرة 2) إلخ، ومن هذا المنطلق حاولت أن أميز بين “طفل عبد ربه” و “محفوظ الطفل”، فقد ظهر الأخير فى النصف الثانى أيضا رغم أنف عبد ربه.
كنت قد وجدت لنفسى تبريرا لغلبة حكمة عبد ربه على طزاجة طفل محفوظ فى النصف الثانى من الأصداء، ذلك أننى قدرت أن ظهور الشيخ عبد ربه قد أعلن ليحدد لنا مرحلة متأخرة من سيرة الكاتب الذاتية، أعنى أصداءها، فإذا كان الأمر كذلك، فإنه لم يكن ثمة مبرر أن يعود الشيخ ليتكلم عن ذكرياته (ذكريات الشيخ عبد ربه، وليس محفوظ) طفلا، فكنت أشعر كلما فعل ذلك أن الطفل يقفز من عباءته بالرغم منه، ولكن الشيخ يلاحقه بالوصاية والتوجيه.
وأورد هنا مثلا صريحا للمقارنة بين “طفل عبد ربه الشيخ” و “الطفل محفوظ: “الطفل النامى فى الكل الواحد”، وهو موقف : كيف واجه كل منهماالموت:
يحكى الشيخ عبد ربه فى فقرة: الضيف”(161)، عن ذكرياته طفلا فى مواجهة الموت، فيذكرنا ذلك بما حكاه “محفوظ الطفل: عن ذكرياته إزاء موقف مشابه “فى مواجهة الموت”، فقرة “رثاء”(2).
حين واجه محفوظ الطفل الموت فى ثانى فقرة من الأصداء، واجه جدته، ومفاجأته، وعملقته معا،”رأيتنى صغيرا”، و “رأيته عملاقا”، ثم إنه أحس به (بالموت) متسللا يملأ حجرات المنزل، فلاذ بحجرته، لكنه سرعان ما تجاوزه إلى الحياة: “فتحت الجميلة ذات الضفيرة الباب عليه، فقبض على يدها فى ثورة مباغتة متسمة بالعنف متعطشة للجنون” فاندفع إليها وهو”..يجذبها إلى صدره “بكل ما يموج فيه من حزن وخوف”.
هذه الصورة لمحفوظ الطفل نرى فيها كيف يعيش كل طزاجة الخبرة، ويؤلف بكل اندفاعات الحياة المتدفقة بين جـدة الموت وعملقته، وبين عطش الجنون وروعة العلاقة بالآخر، دون أن يتعارض أى من ذلك بكل ما يموج فى صدره من “حزن وخوف”.
أما طفل الشيخ عبد ربه التائه فهو من الموت (فقرة “الضيف” 161) . هو لا يواجهه كما واجهه محفوظ الطفل وهو يسير فى الشارع على الأعناق، أو وهو يملأ الحجرات بعد وفاة الجدة (فقرة “رثاء”)، نقول إن طفل عبد ربه قد هرب “من المواجهة”: أرسلنى أبى لألعب بعيدا”، والأدهى من ذلك أن أبوه فعـل هذا “حرصا على راحته” (أى وصاية!!)، ثم إن الموت هنا لم يـواجه بشكل فــردى له معالمه الخاصة (مثل موت الجدة فى فقرة “رثاء”) بل إنه “قش” الجميع واختفى “ولما رجعت وجدت البيت خاليا، فلا أثر للضيف ولا للأحباب.”
هكذا نرى أن هذا الموت الأخير هو الموت الذى يعرفه الكبار وليس الموت الذى يكتشفه الأطفال، هو الموت المفاجئ، المنقض، الذى يقش ولايميز، هو الفقد الذى لا يفجر ما بعده، بالمقارنة بالموت التجديد، أو الموت البعث الحافز للهرب إلى الحياة، وليس المبرر لـلتوقف عند العدم الجماعى.
(14) إستدراك طفلى (أصل الحكاية)
كنت قد أنهيت جولتى مع طفل وطفولة الأصداء بهذه الفقرة عن الفرق بين موت وموت، ومن حيث المبدأ لم أجد تناقضا بين الموت والطفولة كما علمتنا الأصداء، ثم حين قـلبت بعض صفحات المتن موضوع هذه الدراسة وجدتـنى قد أغفـلت جوانب أخرى، وحضورات متنوعة مما يمكن أن يكون طفلا وطفليّأ، فتصورت أننى لو أعدت قراءة النص من هذا المنطلق، فلن ينتهى هذا الجزء أبدا، ومن بين ما عثرت عليه من فقرات كنت قد تجاوزتها، فقرة “أصل الحكاية” (118)، حيث وجدت فيها من الطفولة المباشرة والصريحة والدلالة ما يؤهلها أن تأتى بعد الفقرة الأخيرة المقارنة بين موت وموت، لا لأدخـل البهجة على القارئ فأسترضيه أو أعتذر له، ولكن لأعلن نقص هذه الدراسة، وأى دراسة، قياسا بثراء المتن، وفى نفس الوقت كى أختم الحديث عن الطفولة، بما هو طفولة، وربما إغاظة للشيخ عبد ربه أيضا، فهذه الفقرة وردت قبل ظهور الشيخ عبد ربه بفقرة واحدة (هى 118 وهو ظهر فى الفقرة 120)، ولعل الخوف من تمادى انطلاق هذه الطفولة الهائصة هى التى استدعت ظهور الشيخ عبد ربه ليضبط الجرعة:
فى هذه الفقرة (118) جرعة من الطفولة المباشرة لا يمكن إلا أن توقظ فينا أطفالنا كما هم، وليس بوصفهم طاقة، أو طزاجة، أو تمثلا فى واحدية متكاملة، فمعالم الطفولة هنا صارخة جميلة هائصة حيية فى آن، فيها نقرأ:
(1) الطفل (لا الطفلة) هو الذى يلعب الحجلة (وهى لعبة البنات أساسا) فأى تعميم دال.
(2) والطفلة هى التى نظرت إليه نظرة غامضة (فأى وعد مخلق للوجود).
(3) والاستعراض الزهوى وطفلنا يعدو يذكرنا باستعراض ذكور الطيور أمام إناثها.
(4) ودعاء الأم لكل مخلوق، يعود بنا إلى تعميم طفلى فياض.
(5) وهمس الأم خوفا عليها من النظرة وخوفا عليه من الجرى هو ضمن الرعاية الوالدية اللازمة لكل طفولة بكل صورها.
حين قرأت ما كتبته سابقا فى الدراسة التشريحية عن هذه الفقرة، رفضت نصفه الأخير الذى فسرالنظرة بأسطورة التصنيم، فشعرت كيف أن الدراسة الجامعة يمكن أن تعدل من الدراسة التشريحية لأنه يبدو أنه بقدر ما أن فقرات الأصداء قائمة بذاتها واحدة واحدة، إلا أنها تكتمل فى سياق ضام، مما يشير إلى ضرورة قراءة هذه الدراسة الجامعة، ليس فقط باعتبارها مكملة للدراسة التشريحية، وإنما باعتبارها مراجـعـة ضرورية لتلك الدراسة، وربما لتصحيحها.
وبعـد
إن ما قدمناه فى هذا الجزء عن تجليات الطفولة فى الأصداء يمكن أن يكون قد أسهم فى إثبات ما ذهبنا إليه من فروض حول طاقات الطفولة وصورها ودورها فى الإبداع، وكيف تجلى – حضورها الدائم عند محفوظ فى أغلب الأصداء (خاصة قبل ظهور الشيخ عبد ربه).
قبل أن نشير إلى دور “الحفاظ على الطفولة ودوامها فيما هو إبداع، نود أن نعدد دون إعادة الصور التى تبدت لنا فى الأصداء لما هو طفل وطفولة، سواء فى الدراسة التشريحية (الفصول الأربع الأولى)، أم فى هذا الفصل من الدراسة الجامعة، فنذكر بعض عناوين لما حاولنا بـيانه من حضور متنوع لما هو “طفل”.
2-الطفل الكشف
2-الطفل التأمل
3- الطفل المرح
4- الطفل الحلم
5- الطفل الجنون
6- الطفل الطرب
7- الطفل التعلم
8- الطفل الحكمة
………………
………………
ونواصل الأسبوع القادم بقية الفصل الخامس: ” هل نحن نعرف ما هى الطفولة؟
_______________________
[1] – يحيى الرخاوى “أصداء الأصداء” تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) (الطبعة الأولى 2006 – المجلس الأعلى للثقافة)، و(الطبعة الثانية 2018 – منشورات جمعية الطب النفسى التطورى) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net.