نشرة الإنسان والتطور
الخميس: 25-2-2021
السنة الرابعة عشر
العدد: 4926
تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) ( 6 من ؟) (1)
وهكذا نواصل نشر الأصداء مع “أصداء الأصداء”
بقلم: “يحيى الرخاوى” الواحدة تلو الأخرى
الفصل الأول: الطفل يرحب بالشيخوخة ويغازل الموت
الأصداء
6 – الأيام الحلوة
كنا أبناء شارع واحد تتراوح أعمارنا بين الثامنة والعاشرة، وكان يتميز بقوة بدنية تفوق سنه ويواظب على تقوية عضلاته برفع الأثقال، وكان فظا غليظا شرسا مستعدا للعراك لأتفه الأسباب، لا يفوت يوم بسلام ودون معركة ولم يسلم من ضرباته أحد منا حتى بات شبح الكرب والعناء فى حياتنا، فلا تسأل عن فرحتنا الكبرى حين علمنا بأن أسرته قررت مغادرة الحى كله، شعرنا حقيقة بأننا نبدأ حياة جديدة من المودة والصفاء والسلام، ولم تغب عنا أخباره تماما فقد احترف الرياضة وتفوق فيها وأحرز بطولات عديدة حتى اضطر إلى الاعتزال لمرض قلبه، فكدنا ننساه فى غمار الشيخوخة والبعد. وكنت جالسا بمقهى بالحسين عندما فوجئت به مقبلا يحمل عمره الطويل وعجزه البادى، ورآنى فعرفنى فابتسم وجلس دون دعوة وبدا عليه التأثر فراح يحسب السنين العديدة التى فرقت بيننا، ومضى يسأل عمن تذكر من الأهل والأصحاب ثم تنهد وتساءل فى حنان: هل تذكر أيامنا الحلوة؟!
أصداء الأصداء
فى مواجهة القوة البدنية الفظة يتمنى طفلنا هذا أن يتخلص منها ومن صاحبها، فيحدث، ويرتاح الجميع، وحين تمضى السنون ويحل العجز وتحمل العضلات أيام الشقاء فتنحنى أمامها – يترحم القوى على أيام كانت عضلاته تفرضه عليهم، وكم كانت هذه الأيام حلوة له (طبعا)، دون أن ينتبه إلى كيف كان وقع اللكمات عند المتلقى، وأن أيام الضحايا لم تصبح حلوة إلا بعد فراقه، وكأن الضعف والعجز والسنين لم تنجح أن تُرى هذا الشرس أن ثمَّ ”آخر” يوجد معه، وظل هكذا “الآخر” بعيدا أو منفيا أو مُجـَهـَّلا حتى قرب نهاية العمر.
الأصداء
7 -النسيان
من هذا العجوز الذى يغادر بيته كل صباح ليمارس رياضة المشى ما استطاع إليها سبيلا؟ إنه الشيخ مدرس اللغة العربية الذى أحيل على المعاش منذ أكثر من عشرين عاما.، كلما أدركه التعب جلس على الطوار أو السور الحجرى لحديقة أى بيت مرتكزا على عصاه مجففا عرقه بطرف جلبابه الفضفاض، الحى يعرفه والناس يحبونه، ولكن نادرا ما يحييه أحد لضعف ذاكرته وحواسه، أما هو فقد نسى الأهل والجيران والتلاميذ وقواعد النحو.
أصداء الأصداء
تتمادى الأصداء تردد تجليات التذكر والنسيان، وقد لعب بهما محفوظ كما شاء، وتردد صدى لعبته بهما فى كل الأنحاء. هنا نقابل مدرس العربى الذى لم تضعف ذاكرته فحسب بل وحواسه أيضا، فينسى الأهل والجيران والتلاميذ وقواعد النحو، ولكن هذا يهون بجوار أن أحدا لايحييه (على الرغم من معرفتهم به، قال، وحبهم له)، ومهما ضعفت الذاكره أو الحواس، ومهما لم يستجب الشيخ ذو الثمانين عاما لتحية الناس المرة تلو المرة، فهو يحتاج إلى ألا نستجيب لعدم استجابته بالكف عن تحيته، ينسى هو، هذا قضاء الله، أما أن نهمله نحن حتى نكف عن تحيته، فننساه، فيتمادى هو فى النسيان حتى ينسى قواعد النحو فلا، وألف مرة لا.
[على فكرة: قواعد النحو، لمدرس عربى، بهذه الصورة، هى آخر ما يمكن أن يُـنسى، فهى تظل حاضرة حتى بعد نسيان أسماء الأهل والأقربين، فمتى وصلها النسيان كان ذلك دليلا على اكتمال العجز!. هذا علم رائع، حضر هكذا فى وعى الكاتب ليكشفه إبداع أروع].
[1] – يحيى الرخاوى “أصداء الأصداء” تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) (الطبعة الأولى 2006 – المجلس الأعلى للثقافة)، و(الطبعة الثانية 2018 – منشورات جمعية الطب النفسى التطورى) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net