نشرت فى الدستور
12/11/1997
“تفييش” الهوامش فى السياسة
لعبة السياسة صعبة على مَنْ مثلى بكل مقياس، فلماذا تلح علىّ الكتابة فيها؟ وكلما هممت أن ألقى بحجرى فى بركة عموم الوعى الآسن، لعل الدوائر تتحرك، اقتحمنى تصريح “كلينتونىّ”، أو عواء “نتانياهونىّ”، أو “دهننة عربية رسمية”، فيرتد حجرى إلى حجرى، وأجدنى أتخبط فى مستنقع السياسة وأنا لا أحذق العوم أصلا.
تابعت حكاية خالد مشعل وأعجبت – وكلى غيظ- بالملك المفدى حسين بن طلال بن عبد الله (ألم أقل لكم أنى لا أفهم فى السياسة) وعجبت من وقاحة نتنياهو ومعه أغلب الشعب الإسرائيلى الذى أقر هذه الفعلة الشنعاء فى استطلاع للرأى العام، كما فجعت – دون مفاجأة – من نذالة أمريكا، وأسفت لفتور احتجاج أوربا وسائر العالم. أليس الاعتراف سيد الأدلة؟ ألم يعترف نتنياهو وشعبه أنهم يقتلون الناس مع سبق الإصرار والترصد دون محاكمة؟ فماذا فعل العالم المتحضر إزاء ذلك؟ هل أوقفوا رحلات الطيران؟ هل منعوا ألبان الأطفال؟
لكننا فوجئنا أن اعتراضات أسيادنا الكرام تتركز على أن ما أثير حول هذا العمل هو أهم من الجريمة ذاتها، وذلك باعتبار أن هذا الفعل هو اعتداء على سيادة بلد آخر، وكأنه ليس إعتداء على حياة إنسان آخر لم تتح له فرصة المحاكمة أصلا. كان هذا أول تهميش للقضية بالتركيز على هامش ثانوى لا يقدم ولا يؤخر فى أصل الجريمة.
ثم يأتى الهامش التالى فتقدم دولة كندا العظمى إنذرا شديدا، وتسحب سفيرها جدا وحاجات من هذه، إلا أنها لم تفعل ذلك احتجاجا على إرهاب دولة إسرائيل وشعبها، أو على رفضا لجريمة سبق الإصرار على قتل إنسان دون محاكمة، وهى لم تعترض على طريقة القتل الكيميائى النذل، وإنما احتجت – يا سبحان الله – على تزوير خاتمها الدبلوماسى وعلى استعمال اسمها فى العملية الإجرامية، وحين اعتذر “دافيد ليفى” لم يعتذر عن الفعلة القذرة، وهكذا: أصبحت القضية عند كندا- وعندنا بالمرة، هى قضية مشروعية استعمال اسم كندا، أو نيوزيلاندا، أو سلطنة بروناى أو دولة “بوركينوفاسو” فى الجريمة القادمة، وحين تعهد “دافيد ليفى” بعدم استعمال اسم كندا – إن شاء الله- عاد السفير الكندى إلى إسرائيل فورا وأعلن بكل زهو ورضا أن الملف قد أغلق تماما، ملف ماذا ياسيدى؟ ملف القتل أم ملف قدسية جوازات سفر دولتكم؟ ألا يشير كل هذا إلى أن المسألة كلها انقلبت إلى”تفييش الهوامش” مثلما: يقول نور الشريف لمحمود عبد العزيز فى”العار”.
أما انتزاع حياة إنسان، اما اغتصاب أرض شعب خلقه الله ليحيا على أرضه!! فهذا كله كلام لا داعى للخوض فيه أحسن عيب، وإذا فتح أحد البلهاء – أمثالى – فاهه دهشة أو تساؤلا، جاء الرد أنه: ألا يكفيك أن وزير خارجية إسرائيل شخصيا قد تعهد بألا يستعمل جواز سفر كنديا مزور فيما سوف ينفذ بعد ذلك من جرائم بإذن الشيطان والعياذ بالله.
“كدهه؟ ” !!!