نشرت فى الدستور
18/6/1997
تعليم قلة الأدب
كنت قد عاهدت القارئ ألا أكتب هذا العامود بصفتى طبيبا نفسيا، وإنما بصفتى مواطنا مهموما مشاركا برأيى فقال، “ورزقه على الله” لكننى اكتشفت أنى أخدع نفسى، وربما أخدع القارىء، فأنا لا أستطيع أن أتخلص من هذه الصفة الطبنفسية، حتى وأنا نائم.
خطر ذلك ببالى وأنا أعلم إحدى طالباتى أن تتقن كتابة المشاهدة الطبية للمريض، وأنا أصر أن تفتح المرجع “لا تحفظه” لتغش – كل مرة – عناصر المشاهدة حتى لا تعتمد على ذاكرتها، وأثناء حماسى قلت لها: نعم تفتحين الكتاب، يا إبنتى: أنا أعلمك الغش، أريدك أن تغشى، وكنت أعنى ضرورة الإلتزام الحرفى حتى يبلغ الإتقان مداه، وأنزعجت الطبيبة الصغيرة متصورة أننى أعنى ما أقول، أى أننى أعلمها الغش فعلا، فرحت أشرح لها كيف أن دور المعلم هو أن يعلم أبناءه وطلبته الحياة، والمهارة، والواقع، وليس أن يدعى أخلاقا شكلية، أو مثالية لا تنفع، وحكيت لها حدوته كانت تحكى لنا صغارا عن صبية ذهبت إلى الكـتّاب، فرأت “سيدنا” وهو يحفظ العيال القرآن ويعلمهم وظائفهم البيولوجية فى العلاقات الحية، سواء جاء ذلك فى سياق آية، أو بدونها، فانزعجت الصبية وولت هاربة، وأثناء جريها شبكت فردة الخلخال فى عتبة الباب، فلم تتردد فى أن تتركها مشبوكة وتفر إلى أمها، وحين وصلت منزلها لاحظت أمها أنها تلبس فردة خلخال واحدة دون الأخرى، وأخذت تصر الأم على إبنتها حتى حكت لها الحكاية، فصارت مثلا يقول: “شفتى إيه من فقيكى لمـا فردة الخلخال اتشبكت فى العتب، فترد الفتاة: شفت وشفت وشفت سيدنا بيعلم أولاده قلة الأدب”.
ولا يتوقف المغزى عند الدعوة إلى تعليم التربية الجنسية فى المدارس الإعدادى أو الثانوى، إذ أننى أعتقد أن المدرسين الذين سوف يعلمون هذه المادة هم أنفسهم يجهلون التربية الجنسية رغم أن أغلبهم “متزوج ويعول” لكننى ذكرت كل هذه المقدمة لأنبه أن التربية الحقيقية تتم بالسماح المحسوب، لا بادعاء العفة، وهى تتم بالتأكيد على أخلاق الواقع، وليس بالحفاظ على كذب أخلاق الطبقة الوسطى، وهى تتم بفتح النوافذ لحركة الوعى الفطرى للإبداع الحى، وليس بتوزيع بطاقات، حسن السير والسلوك، وبديهى أن هذا سيصاحبه بعض المضاعفات والأخطاء، ولكن من يريد أن يتجنب حوادث السيارات مائة فى المائة فعليه ألا يخرج من بيته أصلا.
وفى هذا السياق أتذكر كيف كنا نتعلم الجنس فى بلدنا من الحيوانات والطيور، حيث لم تكن هناك رقابة على المصنفات الحيوانية، بل إنى أتذكر حواديت أخرى حيث كانت المعلمة (الأبلة الخياطة) ترتب فيها لقاء ما للبنت التى تتعلم عندها، ويتم اللقاء الخفيف والبنت نصف نائمة، فتقول للمعلمة، يا أبلتى إشى بيعض ويبوس، فترد عليها المعلمة، نامى يا بنتى دا كابوس، ولم يكن هذا يعنى أن المعلمة قـوادة، وإنما هو أيضا كان يصور درجة من السماح تحترم أطوار النمو بشكل أو بآخر.
فأين شجاعة التربية ورحابة السماح من كل هذا الآن؟