يحيى الرخاوى طبيب نفسى
“نشرة” الإنسان والتطور
2-5-2009
السنة الثانية
العدد: 610
تعتعة:
معنى آخر لـ: “حسن نصر الله” !!
ماذا يصل لأطفالنا، وشبابنا من إعلامنا هذه الأيام؟ قلت ذات مرة إن ظاهرة حماس شبابنا وفرحته بفوز مصر بكأس الأمم الأفريقية فى كرة القدم، إنما تفيد أن شبابنا فى حالة “جوع إلى وطن”. ماذا كنت أعنى بذلك؟
يتكون مفهوم الوطن فى وعينا منذ طفولتنا رغما عنا، يتكون بغض النظر عن نظام الحكم، أو ظلم الحاكم، أو سلامة الأيديولوجى..إلخ. يقفز مفهوم “الوطن” من داخلنا إلى قرب ظاهر وعينا حين تُذكر ألفاظ مثل “الأرض”، أو “الملك”، أو “القبر”، أو “الحرب”، أو “الحب”، أو “الناس” وإلى درجة أقل “الدين”، “العنصر” التاريخ”، الملك فى إنجلترا ليس له وظيفة إلا أن يزرع فى وعى الناس (الأطفال) هذا المعنى: “الوطن”، حين كنا ننشد فى كشافة مدرسة زفتا الابتدائية فى أوائل الأربعينات، ” نحن لمصر، نحن للملك، عاشت مصر، وعاش الملك”، ثم حين انتقلت إلى القاهرة ورأيت سيقان المحتلين الحمراء، وهى تتدلى من ثكنات قصر النيل، عرفت بعض معنى الوطن .
ثم يذهب الملك، ويتسع مفهوم الوطن ليتخطى حدود مصر عبر رمز جديد اسمه “جمال عبد الناصر”، فيصبح الوطن هو الوطن العربى، وتضيع معالم الوطن “مصر”، وسط هلامية هذا الوطن الجديد الذى لم يتكون أبدا، فيأتى الواقع لينبهنا أن الرمز والأمانى كانت أكبر من الواقع التراب والمصالح، فيتراجع مفهوم الوطن إلى أصه المحدود، لتقفز مصر فى وعى السادات أكثر إلحاحا وأوْلى تضحية، فيضحى بتاريخه كشخص ويفعلها، لكنه لا يصل إلى وعى الناس “وطنا” أو رمزا للوطن، وإنما يصل فلاحا منوفيا شاطرا، يحاول أن يسترجع وطننا الأصغر فيدفع الثمن فردا، ويغرمنا الثمن خداعا ووعودا ليس من حقه أن يعد بها (آخر الحروب)، فنسترد وطننا “أرضا” دون أن يحضر فى وعينا “معنىً وانتماءً”، ثم يمتد هذا الوضع هلاميا ماسخا، أكثر من ربع قرن، فلا “وطن عربى أكبر” كان حلما أكثر منه اقتصادا وسياسة وعدلا وأمانا، ولا “وطن مصرى أصغر”، كان تاريخا، وناسا، وعرفا، وطيبة، وانتماء،
فى الحرب تتشكل الأوطان مهما بلغت التضحيات، ومع السلام الحقيقى، الذى هو حرب من نوع آخر (وليس استسلاما، ولا آخر الحروب،..إلخ) يترسخ مفهوم الوطن الذى تأكد بتضحيات الحرب. لو أن حرب 1967 امتدت كما امتدت حرب غزة الأخيرة، لتكوّن لنا فى مصر وطن جديد حتى لو احتلت القاهرة ومات منا مليون شهيد، لو أن معاهدة السلام لم تكن أساسا أو تماما إعلانا لنهاية الحروب، بل استعدادا لحرب أقسى وأقوى، لما ماع منا الموقف إلى ما وصلنا إليه، لو أن حرب الاستنزاف أخذت حقها يوما بيوم، حتى غاصت فى وعى الناس عبر سنوات، لتكوّن فينا وطن حقيقى،
ثم شذ فريق منا، من الوطن الأكبر: بضعة آلاف محارب يقودهم عقل ذكى نظيف، أصبح رمزا آخر لوطن واعد، أصبح موضعا للفخر، وأملا للنصر، ورمزا للكرامة، وتحديا للغطرسة، وذكاء فى المفاوضات، وتضحية شخصية (ثكل الولد)، تعرفنا من خلاله أننا قادرون، وأننا متحضرون، وأننا شجعانا، مهما بلغت التضحيات، ثم يخطئ هذا الرمز أو لا يخطئ من فرط حماسه وشرف مشاركته، فنسارع، حكومةً ومعارضةً (أى والله، ومعارضة!!) نشوّه هذا الرمز، وننسى دوره، ونبصق على معناه، ونعايره بالاختباء حماية لناسه أكثر منه حماية لشخصه، …كل ذلك قبل أن يقول القضاء كلمته، أو حتى قبل أن تتشكل معالمُ جريمةٍ ما.
أهكذا يا ناس؟ أهكذا؟ ما هذا؟ كيف جرؤنا أن نمارس هذه الجريمة الأخطر والأبشع علانية هكذا؟ ماذا تريدون أن تقتلوا فينا؟ حتى هذا يا ناس؟!! حتى هذا يا دولة؟ حتى هذا يا معارضة؟ حتى هذا يا وطنيين ؟؟!!. حسن نصر الله ليس فردا، ولا شخصا، ولا متآمرا، ولا خائنا، ولا وغدا، ولا لصا، حسن نصر الله هو المعنى الذى لاح ليعرفنا، مهما اخطأ، أننا يمكن أن “نكون”
فلماذا تغتالون هكذا تلك البراعم التى كادت تبزغ فى وعى ناسنا خاصة الأطفال والشباب منا؟ هذه جريمة قتل جماعية، أبشع ألف مرة من مغامرة (وليس جريمة) الخلية المضبوطة، هذه الجريمة الجماعية تشترك فيها الدولة، مع كل الأقلام (تقريبا) !!!هل هى مقصودة؟ إذن فهى جريمة قتل الوطن والأمل مع سبق الإصرار؟ هل هى ملعوبة من خارجنا؟ ، إذن فنحن بلهاء، لا نستحق.
الحرب هى الحرب، وهى ما زالت قائمة، وهذا رمزها الذى نشوهه هكذا ونبصق عليه، وقد انضممنا بما نفعل إلى صف العدو (أذكركم: هو إسرائيل وليس إيران أو حزب الله) انضممنا طابورا خامسا وعاشرا، فأعفينا الطوابير الأربعة الأولى (الأمريكية/الإسرائيلية) من مشقة القتال.