“يومياً” الإنسان والتطور
31-5-2008
العدد: 274
تعتعة
لكنّ سيّد قومه المتغابى ..!!
سألتنى مذيعة الإذاعة البريطانية عن مفهوم الغباء بمناسبة إعداد برنامج عن حركة مصرية جديدة سمت نفسها “مواطنون ضد الغباء”، فابتسمت ولم أرد على الفور، ولم أعرف كيف رأت ابتسامتى لأن السؤال كان عبر الهاتف، ذلك أنها أكملت وهى تضحك هل لا يوجد تعريف للغباء، قلت لها إن كثيرا من معاجم اللغة العربية الأصيلة تعرف الشىء بضده، فيمكن أن نقول إن الغباء هو ضد الذكاء، قالت فما هو تعريف الذكاء، ثم مضى الحديث خفيفا طريفا حتى وصلنا إلى النقطة التى تريدها وهى تسألنى عن رأيى فى هذه الحركة المسماة “مواطنون ضد الغباء”، فشرحت لها وجهة نظرى من أن موجة ابتداع مثل هذه الحركات ليست فاعلة سياسيا كما يتصور الكثيرون لكنها رمزية وقد تفيد أو تنّبه، وهى تبدو لى أحيانا كصورة كاريكاتيرية، ناقدة، لا أكثر، كما أضفت تحذيرا أن تكون غاية مرادنا هو أن ننضم إلى هذه الحركة أو نصفق لتلك، وأيضا لا يحق للمعتزلين أن يفرحوا بموقفهم وهم جلوس على مكاتبهم يشجبون ما لا يشاركون فيه، لا أذكر ألفاظ حوار الإذاعة البريطانية حرفيا، لهذا سوف أكمل تعتعة اليوم بعيدا عن نص الحديث، هى فقط من وحيه.
من قديم ونحن – النفسانيين- نحتار فى تعريف محدد للذكاء، حين بدأت تلك المحاولة وأنا اكتب كتابا مدرسيا بالعربية فى أوائل الستينات وجدت أن أغلب المراجع تشاركنى الصعوبة والحيرة حتى أن أحدها عرّف الذكاء – ربما سخرية- كما يلى: “الذكاء هو ما تقيسه اختبارات الذكاء”، وفى نفس الوقت وجدت نقداً لهذه الاختبارات يقول “إنها لا تقيس إلا نتائجها” وليس الذكاء، ساعتها قلت بسخريتنا المصرية إذن الذكاء هو الذكاء، ربما قلت ذلك من وحى، ما جاء فى قاموس المرحوم أحمد أمين عن طرائف العادات الشعبية المصرية لشاعر ساخر يتحدى إمكانية التعريف قائلا!!
الأرض أرضٌ والسماءُ سماءُ
والماء ماءٌ والهواءُ هواءُ
والحلو حلوٌ والمرارة مرةٌ
وجميع أشياء الورى أشياءُ
كل الرجال على العموم مذكر
أما النساء فكلهن نساء
قلت لنفسى وجدتها: إذن من حقنا أن نضيف
والفهم فهم والغباءُ غباوةُ
والفكر فكرٌ والذكاء ذكاء
لماذا يحشرون الطب النفسى – مع قصوره هذا- فى تصنيف تصرفات الحكومة “والحركات”؟!
سألتنى المذيعة عن رأيى فى غباء الحكومة، فقلت لها ربما يكون ذلك نعمة من الله على هذا الشعب المسكين، لأن تباطؤ المسئول الغبى فى أدائه العقلى قد يقلل من اندفاعه، وهذا يسمح لبعض الأمور أن تحل نفسها بنفسها، بدلا من أن يندفع بذكائه المتواضع أو المزعوم، فتخرب أسرع، قالت إن هذه الحركة الجديدة تشير إلى أن تصرفات الحكومة الأخيرة (العلاوة تلحسها قرارات رفع الأسعار) تتصف بالغباء، ما رأيك؟
قلت لها إن من أهم محكات الذكاء هى: “القدرة على الربط بين العلاقات الأساسية والاستفادة من الخبرات السابقة ثم التصرف ببعد نظر”، وأظن أن الحكومة لا تتمتع بأى من هذه الميزات الثلاثة، وخاصة “التصرف ببعد نظر”.
فعادت المذيعة تحدد السؤال عن رأيى فى التصرف الأخير (العلاوة فلحسها) لأنه يبدو أن هذا بالتحديد كان وراء ظهور هذه الحركة الاحتجاجية الطريفة، فرددت بما تيسر.
بعد أن انتهى الحديث فكرت من جديد فى هذا التصرف (العلاوة فلحسها) ورحت أستبعد أن يتصرف مسئول سياسى عاقل بمثل هذا التصرف الذى يبعده عن الناس، ويفضح عشوائيته وتخبطه، ويقلل من شعبيته إن كانت له شعبية، بل وقد يعجّل بنهايته إن كانت هناك آلية أصلا لاحتمال ذلك، لم أتصور أن هذا التصرف يأتيه عاقل مهما بلغ تواضع ذكائه، فمن يا ترى دفع بالحكومة إلى فعل ذلك؟
خطر ببالى أنه ربما يكون وراء هذا التصرف مراكز قوى ذكية وخبيثة أرادت أن توقع بالحكومة، فأوحت لها أن تتصرف هكذا، فاستجابت الحكومة بسذاجة ليس فيها رائحة السياسة، لتقع من طولها (إذا كان ذلك وارد أصلاً!!) ولا أحد يسمِّى عليها.
نصيحتى للحكومة أن تبحث فى مطبخ قراراتها عن هذا الدخيل الذى استعبطها هكذا فأوقعها فى شر تصرفها وهى ماضية فى تصريحات خطابية وبيانات مُفرغَة من أى منطق، نعم أنصحها ألا تكتفى بالحذر من تصرفات غبية لبعض القائمين على اتخاذ القرار، عليها أن تنتبه أصلا إلى احتمال خبث المتغابين المندسين فى مطبخ صنع القرار، ربما يكونون وراء مثل هذه القرارات
أقول ذلك وأنا أتذكر قول الشاعر الآخر:
ليس الغبىُّ بسيدٍ فى قومه
لكن سيد قومه المتغابى!!