نشرة “الإنسان والتطور”
24-7-2010
السنة الثالثة
العدد: 1058
تعتعة بديلة،
قديمة جديدة
تنويه: لأن صحيفة الدستور قد حجبت (أجلت نشر) تعتعة هذا الأسبوع، رجعت إلى بعض كتاباتى القديمة أستعير منها ما تيسر كبديل مؤقت، وحاولت أن يكون ذلك من كتابات لم تنشر فى مصر خشية التكرار الممل، (قال يعنى المصريون، أو حتى أصدقاء هذا الموقع، يتابعون ما أكتب أولا بأول حتى يكتشفوا التكرار !!!) فعثرت على هذه الكلمة التى نشرت فى جريدة “الوطن”، وهى صحيفة سعودية يومية، كانت قد طلبت منى أن أكتب مقالا أسبوعيا (لا أعرف لماذا) ففعلت كعادتى حين لا أرفض أى طلب يحتمل إفادة، وقلت لعلى أوصل لبعض العرب أيضا بعض ما عندى، وحين تكرر منى مثل هذا الكلام الذى سوف تقرؤونه فى هذا المقال الصغير، ولم اكن والله العظيم ثلاثا أقصد تعتعة أى مخلوق كان، تبينوا أنهم أخطأوا الاختيار، وأن هذا الكاتب (أنا) قد تجاوز المسموح أو المطلوب، فاستغنوا عن خدماتى بعد شهور دون شكر أو اعتذار (تماما مثل الأهرام ولكن هذا تم بالنسبة للأهرام بعد سنوات، أيضا دون شكر أو اعتذار)
هذا المقال الصغير (التعتعة بلا قصد) نشر فى هذه الصحيفة السعودية الغراء بتاريخ 18/1/2001 أى منذ حوالى عشر سنوات، وكان ذلك بمناسبة معرض الكتاب المصرى، وحضور ممثلى العرب من الناشرين والمبدعين فيه، وقد حذفت ذكر المناسبة لأنها غير حاضرة الآن، لعله يناسب كل زمان ومكان (يا ليت!!).
فهل ما زالت هذه الكلمة – ومثلها – قادرة على التعتعة بعد عشر سنوات؟
أم أنها أصبحت أكثر عجزا بعد أن أصبح الجمود أكثر صلابة والتدليك هو غاية الممكن تسلية وتأجيلا وخداعا؟
المقال
القراءة المسئولة والتدليك الفكرى
يظل كل من الكتاب والصحيفة والمجلة والقلم والورقة، ثم النت والمواقع، هم الأصدقاء الدائمين للإنسان المعاصر فى الحل والترحال. نحن نقرأ المعلومات الجديدة بكل اللغات، حتى تلك المعلومات المصورة بشكل أو بآخر تتحول فى النهاية إلى ‘قراءة’ بشكل ما. كل الطرق والوسائل تنتهى بنا إلى قراءة ما.
هذا عن القراءة (والكتابة) التى نعرفها كما شاعت بما يقابل عكس الأمية .
لكن ثمة قراءة أخرى أسبق وأعمق. حين أنزل الله سبحانه وتعالى الوحى على نبينا الأمى كان أول ما أمره به هو أن “يقرأ”، تلك قراءة أساسية جذرية عميقة أولية، هى البداية، وربما تكون هى النهاية، قراءة فى الكون وفى النفس، وبالتالى: قراءة فى الوجود امتلاء فامتدادا، فهو الإيمان
لا يوجد شئ اسمه القراءة للقراءة. مهما أعليـنا من شأن القراءة حتى التقديس، أو زعمنا بأن الإنسان حيوان قارئ، فإن القراءة لا تعدو أن تكون وسيلة للحياة وليست غاية فى ذاتها. حين تصبح القراءة غاية فى ذاتها تصبح عبئا على الوجود وليست وسيلة إلى تعميقه وتحسينه.
أكرر دائما أن الإنسان لا يكون كذلك إلا بتنمية البرامج التى ولد بها ومنها ما أسميته برامج “الامتلاء والامتداد”، وهما ما يصلان بنا إلى البعد الإيمانى فى الوجود البشرى:
الامتلاء يتم بالسعى إلى تحقيق تناغم الوعى الشخصى مع الوعى الكونى حتى يصير وجودنا غير قاصر على ظاهر وعينا، وإنما يجعله مشتملا على كل ما خلقنا الله به من فطرة سليمة تتناغم مع بقية مخلوقاته،
والامتداد هو الذى يحرر الإنسان من غباء تقزيم فطرته عند هامة رأسه بما وضعه فيها من علم قاصر.
الامتلاء فالامتداد هما القيمتان اللتان تميزان الوجود البشرى الساعى إلى مواصلة الكشف إيمانا بالغيب وكدحا إلى الحق.
فإذا أسهمت القراءة – مع وسائل أخرى كثيرة مثل الصلاة الجميلة والسفر الدهشة – فى تنمية كل من الامتلاء والامتداد، فإنها نعم القراءة ونعم الكلمات، أما إذا أصبحت زينة للعقل، وحلية لامعة للفخر والتباهى، فإنها تخرج عن معناها الكامن فى الآية الكريمة “إقرأ وربك الأكرم”.
إن القراءة السليمة هى القراءة التى تفتح لنا آفاق أنفسنا والكون، فتعمق نوعية وجودنا إلى ما أكرمنا الله به.
العرب، أعنى أهل اللغة العربية وليس عرب الجامعة العربية، ليسوا ظاهرة صوتية كما ادعى البعض مثل عبد الله القصيمى رحمه الله وأدخله الجنة رغم أنفه، إن اللغة العربية ليست فقط وسيلة للتواصل، وإنما هى تاريخ جدل هذه الأمة مع الوجود الحيوى. أحيانا أقف عند مرونتها وجذالتها وأنا أتناغم مع نبضها وأغوص فى بحورها ثم أطفو على موج هديرها، وأقول لنفسى إن وجودا قد أفرز هذا اللسان وحافظ عليه هكذا، هو تاريخ فى ذاته، تاريخ لا نكون أهلا لحمله بمجرد ترديد حسناته، ولكن بأن نتحمل مسئولية تحديثه. هذه اللغة هى سجل رائع لجدل مجموعة من البشر مع الحياة فى الحياة، وقد استطاعت أن تقبل تحدى الوجود، وأن ترتقى به – جدلا- حتى ميزت أصحابها بما تميـزت به.
فماذا فعلنا بها وبنا بعد ذلك؟
ما لم يكن اقتناء الكتاب متضمنا حمل هم ما يحويه، وما لم يكن فخرنا بلغتنا هو بداية لتحديثها، فتطيرنا إليها وما تعد به، فإننا نضيع وقتنا فى مثل هذه النشاطات، التى نسميها القراءة حتى الموسوعية منها، فهى مهما تمادت أبعادها، قد تتسرب نتائجها من بين أصابع وعينا إذا ما تخثر بالجمود الآسن.
إن الكلمة التى هى فى البدء والنهاية هى الكلمة التى تحفز تغييرا إيجابيا فى حياتنا جميعا.
إن اقتناء الكتب دون الصلاة بما كتب فيها لحمل أمانته هى تحميل لنا بذنوب جديدة بشكل أو بآخر،
القراءة تكون فى أوج عطائها حين تـلهمنا أن نحمل مسئولية ما يبلغنا منها، وذلك حين تصبح قراءتنا إلزاما بمحاولة التغيير على أرض الواقع، انبعاثا مما وصلنـا من جديد.
هذا، وإلا يصبح الأمر مجرد نوع من “التدليك الفكرى”، وهو تعبير ليس من ابتداعى، لكنه أعجبنى فأحذر به من يتباهى بمجرد ترديد الأفكار. واقتناء الكتب.
الكلمة مسئولية، والوجود يحتاجها لتصبح فعلا خلاقا، وليست ‘ديكورا لعقل يتبختر فى أروقة التاريخ وبين عقول دائرة دوارة، مع وقف التنفيذ.!!!
بعد المقال التعتعة
اكتشف مؤخرا أننى أستعمل كلمة القراءة فى نقدى لأى عمل أدبى، وقد صدر كتابى عن نقد بعض أعمال نجيب محفوظ باسم “قراءات فى نجيب محفوظ، الهيئة العامة للكتاب”، ثم إنى حين اكتشفت أن العلاج الحقيقى للمرض النفسى هو نقد للنص البشرى بمشاركته، عرفت أن من يريد ممارسة فن العلاج بإبداع حقيقى عليه أن يقرأ المريض كنص البشرى ناقدا مشاركا، وأيضا أن يقر أن نفسه معالجا ناميا…إلخ.
(أنظر آخر ما كتب فى هذا الصدد يوم الأربعاء الماضى وقبل الماضى مثلا:
(نشرة 21-7- 2010 “شرح على المتن: ديوان أغوار النفس “لعبة الحياة 6)
(نشرة 14-7- 2010 “شرح على المتن: ديوان أغوار النفس “لعبة الحياة 5”)