نشرة “الإنسان والتطور”
26-2-2012
السنة الخامسة
العدد: 1640
تعتعة الوفد
وما زال نجيب محفوظ يعلمنا؟؟ (8)
المدينة الفاضلة والطوفان وتجارة بيع الأحلام
وجدت صعوبة شديدة اليوم فى كتابة هذه الكلمة، هذه الصعوبة لم تفارقنى أبدا منذ قررت ألا أحبس رأيى ما دامت هناك مساحة تقبله، كنت دائما أعتقد أن مثل ذلك (حبس الرأى) هو بمثابة كتم الشهادة، أو خيانة أمانة ما حملنى إياه مرضاى (وخبرتى) أنقله لعامة الناس، ومع ذلك رحت أراجع نفسى هذه الأيام: ماذا يفيد ما أكتب وسط كل هذه الامواج من الكلمات والآراء، زبدا أو غير ذلك.
تتجسد لى هذه الصعوبة أكثر فأكثر حين أقرأ الصحف العشرة التى تصلنى كل صباح، بعد أن قررت أن تكون هى المصدر الأساسى لمتابعة الجارى، والاطلاع على الآراء السائرة هذه الأيام، ودون داع لتأكيد موقفى الاضطرارى للتفاؤل حتى أبرر استمرارى فى الحياة، أقر وأعترف أننى أصاب بغم ثقيل بعد أن أفرغ من تقليب هذه الصحف جميعا، أترجح بين رشوة العواطف، ودغدغة العامة، وصرخات الثأر، وتشويه القضاء، والتركيز على حسابات الماضى، وتجاهل المسئولية، مع عدد نادر من الرؤى الموضوعية والاقتراحات القابلة للدراسة فالتنفيذ، كدت اليوم بالذات أن أقرر أن أعطى لنفسى إجازة حتى يتم اختيار الرئيس، وتعيين وزارة مستقرة، وصياغة الدستور، ثم أنتظر ستة أشهر إلى سنة لأرى ماذا جرى فى مصر، ولمصر بعد كل هذا من تحسين الاقتصاد، واستقلال الإرادة، وتطوير التعليم بعيدا عن تدخل الصحف ودموع الأمهات، ومراكز الدروس الخصوصية، أنتظر حتى أرى انتظام المرور، وتشغيل الأموال الخاصة والعامة فى الإنتاج، والاستعداد لحرب إسرائيل وما تمثله على كل المستويات، فإذا مرت هذه الأجازة بخير، وكانت نتيجة كل ذلك إيجابية بالمقاييس الموضوعية والتاريخية، وليس بعدد الأصوات سواء فى البرلمان وعلى صفحات الفيس بوك فربما أرجع إلى قلمى أصالحه وأشكره أن تركنى فى إجازتى وغالبا لن أجد ما أكتبه فـ “كله تمام”.
قدرت – فى خيالى- أنه مادام كل ذلك قد تم فى اتجاه ما يسمح لى أن أسميها ثورة حقيقية تستأهل حمد الله على ما أجراه من نعمة على يد هذا الشعب بدءًا بفورة شبابه، فلابد أن أكون راضيا، وسيصبح علىّ أن أركز فى عملى العلمى، العملى، نقدا، وإضافة، ما أمكن ذلك، وهو ما أحاوله طول الوقت فيما أسميته “نقد النص البشرى”، أتعرف من خلاله، وأعرّف الناس ماهية ما وصلنى من مرضاى ونفسى وقراءاتى عن فطرة الله التى فطر الناس عليها. أما إذا كان الحال بعد هذه الأجازة الطويلة، هو هو نفس الحال الجارى حالا، كما تشير الإشارات التى وصلتنى بعد هذه الثلاثة عشر شهرا، فسوف أجد نفسى فى نفس مأزق صعوبة هذه اللحظة ، بل أكثر كثيرا غالبا.
حين كنت أمر بمثل هذه المقاومة، كنت أستشير شيخى محفوظ وكأننى آخذ منه الإذن أن أتوقف، وكان ينهرنى نهرا واضحا بطريقته الوالدية الدمثة القوية معا، ولم يكن يبدى أسباب اعتراضه لكنه كان واضحا تماما فى كل مرة، أنه “لا للتوقف”، يعنى “لا للتوقف”، أعرف أنه لو كان معى الآن لتكرر نهره ورفضه، لكن عندك، فها هو معى الآن وقبل الآن وبعد الآن، فما رأيك يا عمنا؟
ناولنى شيخى فقرتين من أصداء السيرة ، ومعهما ما كتبتُ عنهما نقدا
خجلت، وواصت التعلم منه معكم كما يلى :
أولا: الفقرة (155) “الطوفان” (من الأصداء 1992 ؟؟)
قال الشيخ عبد ربه التائه
سيجيء الطوفان غدا أو بعد غد، سيكتسح النساء والفاسدين، ولن تبقى إلا قلة من الأكفاء. تنشأ مدينة جديدة تنبعث من أحضانها حياة جديدة، ليت العمر يمتد بك يا عبد ربه لتعيش ولو يوما واحدا فى المدينة الآتية.
النقد الباكر ( أصداء الأصداء :1996)
حلم المدنية الفاضلة بعد الطوفان تكرر فى الأساطير، والأديان، ولم يضف الشيخ عبد ربه هنا جديدا يستحق. فلماذا كتب محفوظ هذه الفقرة البديهية؟ ولماذا جمع النساء مع الفاسدين والعاجزين؟ وهل استـُـدرج حتى جعل النساء رمزا للفساد والعجز كما ذهبت بعض أقوال الأديان والأساطير؟
ثم كيف نقبل أن يكون الشيخ عبد ربه بكل هذا التكامل الذى زعمناه، وهو يصالح الموت ويحاوره بشجاعة وطيبة فائقين، هذا الشيخ الذى رأيناه ومثله الأعلى أن يتزوج فى عامه المائة، وهو يعبد الحياة، ويساعد الآخرين، ويرفض النكوص الفج، ثم فجأة نراه مثل واحد منا ينتظر الطوفان، ويحلم بالمدينة الفاضلة، قد نفهم كيف أن حلم إغراق الفاسدين بالطوفان هو حلم مشروع، وخاصة حين يستحيل مقاومتهم أو إصلاحم، فلماذا يكتسح الطوفان العاجزين ، ناهيك عن النساء كما ذكرنا؟
وأخيرا: كيف تحلم يا شيخ عبد ربه بالمدينة الفاضلة، وهى فى الأغلب كما تعلم، مسخ ذو بعد واحد، وأنت الذى رأيناك تحتوى زخم الأضداد كلها، أم أن ذلك كله يعلن احتمال أنك أنهكتَ فتمنيت يوما واحدا (لا أكثر) بعيدا عن زخم الحياة الرائعة التى تمثلها (لى على الأقل)، يوما واحدا، وتعود لمدينتنا الحقيقية التى لا شك أنها أروع من كل المدن الفاضلة عبر التاريخ، أروع بما علمتَنَا وتعَّلمنا؟
التحديث (يناير 2012)
وصلنى التحذير الآن من الطوفان الذى يكتسح أمامه كل ما يصادفه إلا من قفز على سطح السفينة، فتلفت لأتبين أية سفينة تلك التى يمكن أن يقفز إليها المثاليون والأطفال الحالمون بالمدينة فى ميدان التحرير، فانتبهت إلى أن الفقرة التى سبق أن اعترضت على أنها تدعو للمدينة الفاضلة، ربما هى فى حقيقتها تحذر من الحلم بالمدينة الفاضلة على حساب الواقع، كما رجحت أن محفوظ إنما ينبهنا إلى ضرورة الوعى بالتاريخ، وبثمن إعادة تأسيس الدولة بعد الطوفان، وإلى مسئولية تشكيل الحضارة القادمة، أنتبهت إلى ذلك وأنا أنظر فى الورقة الثانية التى ناولنى إياها وإذا بها الفقرة التالية رقم 156، بعنوان “التجارة”، وهى تبدو مكملة لسابقتها، فهى تحذر من الانسياق وراء من “يتاجرون بالأحلام”، إذن: ثم احتمال أن قراصنة خدعوا الناس، وأن تجارتهم ليست سوى الأحلام الزائفة.
****
الفقرة (156) “التجارة” (من الأصداء 1992 ؟؟)
قال الشيخ عبد ربه التائه
حذار،. فإننى لم أجد تجارة هى أربح من بيع الأحلام.
النقد الباكر ( أصداء الأصداء :1996)
يحذرنا الشيخ عبد ربه من تجارة الأحلام، ولا يحذرنا من الأحلام نفسها، وشتان بين من يعايش الحلم واقعا رائعا لأنه يكتمل به، ومن يقف من الحلم موقف التأويل الرمزى أوالدهشة المعقلنة أو الفرجة وكأنه منفصل عنه. إن من يتاجر بالأحلام لا يحلم، ولا يعايش حلمه، بل ولا يفسره أو يؤوله، بل ربما هو لا يحلم أصلا ويكتفى بأن يصنع للناس أحلاما زائفة على قدر مقاسات جوعهم واحتياجهم، أحلام بالعدل المطلق، وبالمدينة الفاضلة، وبالطوفان (جاءك كلامى يا عمى الشيخ؟) ثم يبيعها لهم بعد أن يرفع علامة أنها “حلم” ”صنع حسب طلب الزبون.
ولا أكرر هنا بعض شواهد إثبات جدوى هذا التحذير، من أول حلم أفلاطون عن الفيلسوف الحاكم، أو الفيلسوف الملك، الذى يحاول أن يضع أفكاره موضع التنفيذ الفوري، حتى نهاية أروع وأطول حلم عرفته البشرية الذى انتهى للأسف بانهيار الاتحاد السوفيتي.
التحديث (يناير 2012)
….رأينا الآن بعد ثلاثة عشر شهرا كيف أن التمادى فى هذا الهدير الشوارعى، تحت عنوان تحقيق كل أهداف الثورة بالجملة، هو أقرب إلى ما تمثله تجارة الأحلام هذه منه إلى السعى الجاد للإسهام فى تحقيق كرامة البشر، ليس بأن يعيشوا فى مدينة فاضلة هى حق لهم كحلم يقظة له عمر افتراضى محدود، لكنه إن تمادى وتكرر وتدفق بلا حساب انقلب فيه هدير أصوات الناس وشغب دورانهم حول أنفسهم إلى موجات الطوفان التى سوف تكتسح الجميع ، حتى تلوح سفينة تدعى الإنقاذ من البنك الدولى أو المستعمر الجديد دون أن نعرف هويتهم، ثم نتبين أن قادة السفينة ليسوا إلا قراصنة، يلتقطون من نجى من الطوفان يبعون له أحلاما جديدة.
هذا هو ما نبهنا إلى الحذر منه عم عبد ربه التائه (الذى هو نجيب محفوظ كما اعترف لى أكثر من مرة ) أنها أربح تجارة على حساب أى أبله لا يرى أصالة ما يشترى، ولا ينتبه إلى عمره الافتراضى، فيعود كل الربح إلى القرصان الشاطر، وليس إلى العبيد الذين لن يبقى لهم إلا أن ينزلوا إلى قاعها، ويمسكون المجاديف ويتحملون ضرب السياط للوصول إلى ميناء التجارة التالى، وهكذا!!.