يحيى الرخاوى طبيب نفسى
نشرة “الإنسان والتطور”
1-1-2012
السنة الخامسة
العدد: 1584
ولا يزال نجيب محفوظ يعلمنا
من الأصداء (3)
… ماذا يخبئه النهار لمدينتنا؟
الفقرة رقم (19):
من التاريخ
”فى ذلك الوقت البعيد قيل إنه هاجر أو هرب، والحقيقة أنه كان يجلس على العشب على شاطئ النيل مشتملا بأشعة القمر، يناجى أحلامه فى حضرة الجمال الجليل، عند منتصف الليل سمع حركة خفيفة فى الصمت المحيط. ورأى رأس امرأة ينبثق من الماء أمام الموضع الذى يفترشه، وجد نفسه أمام جمال لم يشهد له مثيل من قبل، ترى أتكون ناجية من سفينة غارقة؟ لكنها كانت غاية فى العذوبة والوقار، فداخله الخوف وهمَّ بالوقوف تأهبا للتراجع، ولكنها قالت له بصوت ناعم: إتبعنى فسألها، وهو يزداد خوفا: إلى أين؟
- إلى الماء لترى أحلامك بعينيك
وبقوة سحرية زحف نحو الماء وعيناه لاتتحولان عن وجهها.
النقد:
(الانسان والتطور أكتوبر 1997& أصداء الأصداء 2006)
لم تظهر “النداهة” عند محفوظ إلا نادرا، وإن ظهر الاختفاء الغامض كثيرا، حتى البحث عن الأب فى رواية “الطريق” كان اندفاعا من الإبن لا جذبا من الأب الغائب المجهول. نداهة يوسف إدريس غير نداهة سعد الله ونوس فى الإشارات، غير نداهة بلدنا التى كانت أقرب إلى هذه الصورة هنا فى الأصداء، منها إلى صورة إدريس أو سعد الله، كانت تظهر لنا – فى الحواديت التى كنا نعيشها رأى العين – فى صورة منديل يقترب من الشاطيء، أو امرأة وهى تملأ الجرة ثم تنزل للترعة وتنادينا، وكان النداء ملحا، والإغراء جاذبا، لكن الغرق لم يكن هو المصير، وهنا أيضا، قبل أن يقابلها، وبعد أن استجاب لها، كان المصير هو الانجذاب، ثم إنى أضيف من عندى :الإختفاء “الواعد بالعودة”، وهذه الصورة: الاختفاء الغامض الذى يبدو أنه يسمح بالعودة هى أعمق أعماق التركيبة البشرية، هكذا صعد المسيح (عليه السلام)، وهكذا اختفى الحاكم بأمر الله فى جبل المقطم، وهكذا ظلت التكية فى الحرافيش تعمق الإختفاء وتعد بالوعد الغامض، ولم أجد عندى أى ميل أن أبحث عن رمز جاهز لرأس هذه المرأة وعلاقته بالعنوان “التاريخ”، إذ كفانى أن أرى هذه التيمة المكررة عن التاريخ : النداهة، والاختفاء الغامض .
***
تحديث (ديسمبر 2011)
انتبهت الآن أن الفقرة التالية مباشرة رقم 20 قد تجيب عن السؤال الذى انتهت به فقرة (19) “إلى أين”؟، يبدو أنه استجاب لتحقيق أحلامه وراح يتمشى فى الشوارع الخالية، عقب صلاة الفجر، يناجى أحلامه، حتى جلس فوق الصخرة المعروفة بـ “أم الغلام”، ثم ظهر المستور: وأنه أبعد ما يكون عن “أحلامه” وراحت الأشباح (من كل نوع ولون) تتحرك نحو المدينة وكانوا رجال أمن من نوع خاص أولهم هذا الهيكل العظمى الذى يتطاير الشرر من محجريه لينقلب الوعد بتحقيق الأحلام إلى الرعب مما يخبئه النهار للمدينة.
وها هو نص الفقرة التالية:
الفقرة رقم (20): الأشباح
عقب الفراغ من صلاة الفجر رحت أتجول فى الشوارع الخالية، جميل المشى فى الهدوء والنقاء بصحبة نسائم الخريف، ولما بلغت مشارف الصحراء جلست فوق الصخرة المعروفة بأم الغلام، وسرح بصرى فى متاهة الصحراء المسربلة بالظلمة الرفيعة، وسرعان ما خيل إلى أن أشباحا تتحرك نحو المدينة، قلت لعلهم من رجال الأمن ولكن مر أمامى أولهم فتبينت منه هيكلا عظميا يتطاير شرر من محجريه، واجتاحنى الرعب فوق الصخرة، وتسلسلت الأشباح واحدا إثر الآخر
تساءلت وأنا أرتجف عما يخبئه النهار لمدينتى النائمة.
النقد: (الانسان والتطور أكتوبر 1997& أصداء الأصداء 2006)
…. هياكل عظمية يتطاير الشرر من محاجر عيونها، وهى تتحرك نحو المدينة، فهو الإرهاب المنذر بالخراب، فمن يستطيع أن يواصل المشى بين الفجر وبين الشروق بصحبة نسائم الخريف، والمدينة نائمة، وأشباح الخراب والدمار ترجف نحوها: هكذا؟.
ثم خطر ببالى أن ثمة علاقة جائزة بين رجال الأمن وبين الإرهاب، هكذا ذهب فكر صاحبنا فى البداية” لعلهم من رجال الأمن”، وهم ليسوا بعيدين عن أن يكونوا هم الموت الزاحف بالخراب، مثلهم فى ذلك مثل الإرهابيين بشكل أو بآخر، ثم إن توقيت الرؤية عقب صلاة الفجر قد لا يبتعد كثيرا عن التعبير الشائع عن التصرفات التعسفية لمن عرفوا يوما بـ ”زوارالفجر” من رجال المباحث أو المخابرات، على أن هذا الاحتمال لا ينفى الاحتمال الأول، فتكون هذه الأشباح من الهياكل العظمية هم أهل الإرهاب الشعبى أو أهل الإرهاب الرسمي، وكلاهما يحمل الخراب إلى المدينة النائمة
***
التحديث (ديسمبر 2011):
على الرغم من أننا نقتطف هذين النصين المتتاليين، ونقدهما، من أصداء السيرة وليس من أحلام فترة النقاهة إلا أننا نجد التداخل مع الأحلام حاضرا بوضوح، ففى فقرة (19) كانت البداية وهو “يناجى أحلامه فى حضرة الجمال الجليل” وفى فقرة 20 (الأشباح) جاءت الصورة كلها فى تشكيل حلمى، وكأنها فقرة تصلح لأحلام فترة النقاهة، أكثر مما تصلح للأصداء، وهذا يذكرنا بعلاقة العملين بعضهما ببعض وهما آخر أعمال محفوظ
التحديث الذى خطر لى الأن (2011) بدأ بأن تذكرت كيف رفضتُ طول الوقت أن اختصر إبداع هذا العملاق إلى رموز تشوه النص وتجهض الخيال، إلا أننى بعد مضى كل هذه السنين وإعادة قراءتى لهذا النص فالنقد، ولمعرفتى بحدس هذا الرجل وكيف ينبض قلبه ووعيه بمصر وناسها، رحت أقرأ هذا وذاك (النقد والنص) وأنا اتلفت حولى “هنا والآن” وأستلهم النصّين من جديد لعلى أفهم أكثر أو أعمق ما يدور حولى الآن:
كتبت مرارا عن الحق فى الحلم، وأن الاتحاد السوفيتى حين انهار لم يأسف عليه فحسب المقدسون لاشتراكيته أو المستفيدون من نظامه بكل جبروته وقسوته، وإنما الخسارة الأكبر كانت من كل المستضعفين عبر العالم الذين ائتنسوا بوجوده، من حيث أنه طمأنهم قليلا أو كثيرا، على أن يحتفظوا “بحقهم فى الحلم”،
الحق فى الحلم ليس له علاقة لا بتفسير الحلم ولا بتحقيق الحلم
حين قام شبابنا بهذه الإنتفاضة كان يمارس على أرض الواقع “حقه فى الحلم” وليس الحلم نفسه، هكذا تجلت البراءة والفرحة مقابل ما جاء فى النص الأصدائى: وراح “يناجى أحلامه فى حضرة الجمال الجليل” ويمكن الآن أن نكمل حدس محفوظ حين نتابع كيف اقترب ميدان التحرير من شاطئ النيل ولاحت اليوتويبا على امتداد البصر، وظهر رأس الجميلة ينبثق من نبض هذا الصفاء النبيل، وفى نفس الوقت فى ضوء قمر الغد، وأيضا: بكل العذوبة والوقار.
المفاجأة أن الراوى لم يتحقق من هوية الجميله، ولا من وجهتها فداخله الخوف، والتقطت الجميلة خوفه، وفى نفس الوقت أكدت حقه فى الحلم الذى يتزايد فيزيد انفصاله عن الواقع، فتناديه أن يتبعها “إلى أحلامه”.
وينتهى حلم محفوظ فى أصدائه وهو يزحف نحو الماء وعيناه لا تتحول عنها.
هل كانت خدعة لتسحبه معها فيغرق فى أحلامه ويبتلعه المجهول؟
هل كانت دعوة للتركيز فى اتجاه وعده لتكتمل أحلامه برغم خوفه؟
هل كانت دعوة لعدم التمادى فى الأحلام على حساب الواقع؟
هل كان هو الاختفاء الواعد بالعودة كما جاء بالقراءة الباكرة؟
إلى أين؟
ألسنا الآن فى هذا الموقف؟
هل يا ترى ننجذب إلى القوة الساحرة ونمشى فوق الماء؟
هل نصدق أنها الوعد بالغد أم أنها النداهة القدر للتخلص من الحلم وصاحبه؟
هل سنحرم من الحلم ومن إرهاصات تحقيقه ونحن فى ذهول الانبهار بالجمال دون العمل على الحفاظ عليه؟
هل نناديها هى أن تظهر لنا هويتها قبل أن ننسحب وراءها إلى المجهول وكأننا نغمض العينين؟
يا ترى: كما قال شيخنا منذ عشرين عاما:
ماذا يخبئه النهار لمدينتنا؟