الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / تعتعة الوفد هيبة الدولة، وهيبة القانون، و”الحل هو الحل”

تعتعة الوفد هيبة الدولة، وهيبة القانون، و”الحل هو الحل”

نشرة “الإنسان والتطور”

20-6-2010

السنة الثالثة

العدد: 1024

 

تعتعة الوفد

هيبة الدولة، وهيبة القانون، و”الحل هو الحل”

ما معنى هذا الذى يجرى فينا وبنا وحولنا وخاصة فى هذه الأيام ؟ هل نحن نعيش فى دولة متحضرة، لها حكومة تنظم حياة الناس من خلال قانون تقوم على إرسائه فتنفيذه سلطة قادرة، وحاسمة، وعادلة ؟

 ما الحكاية بالضبط؟

 حتى لو لم نكن دولة متحضرة لها حكومة، وكنا مجرد قبيلة تعيش فى صحراء نائية فإنه لابد أن تكون  أعرافها وتقاليدها التى تنظم العلاقات بين شيخ القبيلة وسائر أفرادها وأيضا بين أفرادها وبعضهم البعض.

حتى لو أننا عشيرة بدائية، فإن ثمة طقوس واساطير متوارثة وممارسة، يقوم على تنفيذها وعى مشترك، لا يمكن الخروج عليه إلا بثمن قد يصل إلى حد النبذ أو الطرد أو القتل؟

بدأت التعرف على ما هو “دولة وسلطة وأنا طفل فى قريتنا (دون أى تقديس للماضى أو إعلاء من شأنه)، وذلك حين كنت اسير ليلا قرب المقابر، والدنيا كحل أسود، ثم يأتينى صوت عم السعداوى الخفير، “مين اللى جاى”، وبالرغم من أننى أعرف مكانه نتيجة تكرار نفس الصوت ونفس الإجابة لليال سابقة، وبالرغم من أننى أعرف أنه يحبنى، وأنه يجالس والدى أثناء النهار، وقد ينبهه أن يحذِّر خفير الخاص ان لصوصا نقبوا حائط زريبة فى قرية مجاورة منذ ليلتين، برغم هذا وذاك  كنت أرتعد قبل أن أجيبه، “أنا ابن توفيق افندى يا با السعداوى”. كان الخفير يمثل العمدة، والعمدة يمثل الدولة، وخاصة ليلا. ثم إننى أحببت أغنية علمها لى الشيخ الكفيف “إبراهيم حانا” الذى كان يدق حصا البن فى الحجر أمام دكان البقال جارنا بعد صلاة الفجر، فيوقظنا بدقاته الرتيبة، وكنت أذهب إليه أحيانا وأجلس بجواره وأطلب منه أن يعيد علىّ أغنية عن الغفر، سمعتها منه وهو يدندنها، ولم أتبين ألفاظها جيدا حتى أحفظها، فيرددها لى قائلاً: “إحنا الغفر، إحنا الغفر، مترصَّصِين نفر نفر “شوف الغفير فى وقفته، وهو عاوج لبدته، ولما يصرخ صرخته، تقولشى مدفع وانفجر، إحنا الغفر إحنا الغفر”.

للدولة هيبة مثل صرخة الخفير (تقولش مدفع وانفجر)، الدولة هى: قانون، وقضاة، ورجال شرطة، وآليات تنفيذ، وسجون، وجيش وجزاء وعقاب، ومدارس لها ناظر (تمثل الدولة أيضا!!).

  • وللقبيلة شيخ ، ومجالس، وأكابر، وأعراف، وتقاليد، وقعدات رجال، وتحكيم
  • وللعشيرة البدائية طقوس، ومحارم، وأساطير، وحدود تحريمية، وقرابين، وآباء مؤلهون، وأمهات آلهات.

إذن، بالله عليكم: بأى مقياس يقاس ما يجرى الآن فى مصر المحروسة مقارنة بكل ذلك؟

هذا الوضع المهلهل الرخو لما هو دولتنا انتقل أيضا إلى التركيب الأسرى حتى بهت دور الأب واهتز، ولم تستطع الأم أن تحل محله، فمعت العلاقات الأسرية تماما، وحين  لجأ الصغار والشباب إلى البحث عن أب بديل فى المدرسة، لم يجدوا المدرسة أصلا، حيث انتقلت المدرسة إلى البيوت الخصوصية أعنى الدروس الخصوصية التى زادت وارتفعت أسعارها بعد “الكادر”، ويا ليت الأب (الدولة) اختفى فى واقع الأسرة وخارج حس الأولاد والبنات فحسب، إلى أنه ضَعُفَ حتى كاد يتلاشى داخل وعيهم أيضا، الأب مثل الدولة هو جزء من تكوين وعينا الشخصى، وليس فقط سلطة خارجنا، هل كان يجرؤ الطفل كمال أحمد عبد الجواد، وهو يلعب فى الحارة، أو يغنى فى الشارع، ألا يتوقع قدوم أبيه السيد أحمد عبد الجواد فى أية لحظة، مع أنه (كمال) علم فى نفس الصباح أن والده سى السيد قد سافر ولن يعود إلا بعد باكر!!؟

ما الذى حدث بالضبط؟

أتلفت حولى أبحث عن الدولة فى الشارع، رمزا أو أثرا، أو تأثيرا، فلا أجد من يمثل الهيبة والقانون، ولا ما يدل على النظام والمسئولية، من أول عسكرى المرور، حتى ركن السيارات على الجانبين بالطول والعرض وصف ثان وثالث فى أى شارع مهما كان رئيسيا أو ضيقا، ثم حتى صفوف ركاب المترو، حتى بروز كتلة بشرية متلاصقة من الركاب من أبواب الأتوبيس، حتى سرعة الميكروباسات فى شارع بورسعيد وقصر العينى وعلى كوبرى أكتوبر، وكأنهم فى الطريق الصحراوى، …حتى مطبات وحفر وبلاعات شوارع مدينة المقطم السياحية “البدائية” سنوات بعد سنوات، أنظر إلى كل هذا فلا أجد حسا ولا خبرا لأية دولة ولا سلطة ولا قانون

لكن هذا الشعب المصرى العظيم مازال يعيش ، ويذهب بعضه إلى عمله كلما أمكن ذلك، حتى لو يعمل، ويعود المواطن آخر النهار سالما (غالبا)، وليس بالضرورة غانما، لكنه لا أحد ينام جائعا (غالبا) بمعجزة لا يعلم سرها إلا الله.

كل هذا كوم، وما يحدث هذه الأيام كوم آخر

تصدر الأحكام جدا، من محاكم بها قضاة معينون من قبل الدولة فعلا، يحملون شهادات وخبرات غالية وتكاد تكون مقدسة، يطبقون مبدأ الشرعية “أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص”، ويحترمون- بالقانون- احتمال الخطأ فيتركون الفرصة للمتاقضين أن يستأنفوا أحكامهم دون أن يكون فى ذلك أى مساس بمقدرة من أصدر الحكم الأول ، فكل فاضٍ حسب اجتهاده وعقيدته التى تكونت أثناء المحاكمة، وكلام رائع من هذا، يسمح بالنقد، والمراجعة حتى النقض، وبالقانون!! ثم يصدر الحكم الشامل بالنفاذ، ثم ماذا؟

  • بعض مؤسسات الدولة، بما فى ذلك بعض الوزراء والوزارات لا ينفذون أحكام القانون
  • كثير من الأفراد الواصلين والقادرين والأذكياء والعارفين ببواطن الأشياء يعرفون كيف لا ينفذون القانون بما يشبه القانون، التفافا.
  • بعض المؤسسات الدينية تعلن بكل وضوح أن هذا القانون، أو هذه الجزئية من القانون، لا تسرى عليهم، دون المرور بالهيئة التشريعية ، لأنهم قرروا أنه لا لزوم لذلك ما دام الله سبحانه قرر غير ذلك
  • بنفس المبدأ: بعض الذين يتصدون للإفتاء يوصون أو يسهلون أو يأمرون بتطبيق فتاواهم الشرعية، وقوانينهم الخاصة، من أول استحلال سرقة المال العام (لأن المواطن المؤمن السارق له فيه نصيب)، حتى تكفير المبدعين أو المخالفين عموما، وما يحدث يحدث برغم أنف القانون.
  • هل يحتاج الأمر إلى أن أشير تحديدا إلى ما يسمى أزمة المحامين والقضاة؟
  • وهل يحتاج الامر إلى تحديد أزمة الكنيسة مع حكم الزواج الثانى؟
  • وهل يحتاج الأمر إلى الاستشهاد بمراجعة (سيناريو يسمى) انتخابات مجلس الشورى التى جرت تحت اسم قانون (اللاقانون!) الانتخابات. “اللاقانون”!.
  • وهل يحتاج الأمر للإشارة إلى ما يجرى من اغتصاب أملاك الدولة سواء حول الطريق الصحراوى، أو غيره؟
  • الامتحانات يا ناسلها قواعد  وقانون طبعا، ولكن ذلك لم يعد مهما، وكلما جاء موسم الثانوية العامة، أخرجت صحف المعارضة، وتصريحات الحكومة، لسانها لكل قواعد القوانين التى تنظم الامتحانات التى إنما وضعت للتمييز التنافسى بين الدارسين (هذا هو التعريف السليم لقانون الامتحانات)، أصبحت الامتحانات، بفضل تهميش القانون أو الجهل به، احتفالية جماعية من الدولة والصحف القومية والمعارضة معا، يتراجع فيها قانون الامتحانات ليحل محله التعليق على سهولة الأسئلة أو صعوبتها، وليس على قدرتها على التمييز التنافسى، ويقاس أداء الوزير باتساع ابتسامات الطالبات، واختفاء تنهيدات الأمهات على صفحات الصحف، وليس بمدى قدرة نظام الامتحان على تطبيق قانون التقييم التنافسى، هذا بعد أن إنهارت تماما بنيته الأساسية منذ حل محله “عرْف الغش الجماعى الذى صار سائدا حتى وصل إلى قوة القانون

وبرغم كل ما سبق من أول المقال، لم اسمح لنفسى أن أيأس!!

ولن أسمح لنفسى أن أيأس!

وكيف أسمح لنفسى أن أيأس؟

إذْ ماذا بعد أن أيأس؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *