نشرة “الإنسان والتطور”
6-6-2010
السنة الثالثة
العدد: 1010
تعتعة الوفد
هذه الأرقام الغريبة !! (58 % – 42 % !!) والأمل المحتمل
لست وفديا، ولم أكن وفديا، وقد تحفظت على أداء حزب الوفد عدة مرات، وفى عقر دار صحيفته الغراء، ولم يحجبوا كلمة واحدة، وإن كانت كتاباتى فيها ظهرت واختفت لأسباب لا أعلمها، ولكنها ليست أبدا لأننى نقدت أداء الصحيفة أو أداء الحزب، خذ مثلا حين عدت مؤخرا للكتابة، وفى مقال (4 نوفمبر 2009) أعدت وصف حزب الوفد، بنفس الوصف الذى نعته به فى تحليل قديم (مجلة خاصة “الإنسان والتطور” سنة 1986) وصفتهم بأنهم “أصحاب ثأر، تاريخيون، بلا شباب”، ونشر هذا الكلام دون أى حرج، وهكذا تحرك قلمى بحرية مناسبة، وفرحت بمساحة السماح، وتحمًّل الاختلاف.
سنى يسمح لى أن أقول إن أغلب الوفديين الحاليين لم يعاصروا الوفد الأصل، وبرغم أننى عاصرته صبيا فيافعا، إلا أننى لم أكن وفديا أبدا، ربما لأننى نشأت وأبى لا يحبه، وربما لأننى عادة لا أميل إلى الانضمام إلى تجمعات الأعداد الغفيرة، فأنا ضد الأهلى ليس لأننى زملكاويا، ولكن لأن كل الناس (إلا قليلا) أهلاوية، هكذا كان الوفد بالنسبة لى، كان أغلب الناس وفديين، فوجدت نفسى غير وفدى، ولم تكن أمام جيلى بدائل جاهزة قادرة على جذبنا إليها سياسيا بالذات، كان حزب مصر الفتاة يصيح عاليا، وحزبى السعديين والأحرار الدستوريين يمثلان انشقاقا عن الوفد لم أفهمه أبدا، إلا أننى وجدت أنهم بعيدون أكثر، ثم كان مكرم عبيد أقرب إلى المصرى القبطى البليغ، أكثر منه السياسى البديل، أنا أعرف أن عدم انتمائى لحزب بذاته، أو حتى لجماعة سياسية فاعلة، ليس مدعاة للفخر، وإنما هو تهمة بالانسحاب،، لكنه وحتى الآن يدعم استقلالى، وإن كان يقلل من فرص إسهامى فى ترجيح من ينبغى ترجيحه، لكننى مررت بمرحلة أسميها مرحلة الإخوان المسلمين، فاستأنست ببديل غامض من الناحية السياسية، وإن أفادنى على طريق نموى الدينى، حتى أفقت منه على نصيحة المرحوم الأستاذ محمود محمد شاكر أن نعرف ديننا من أصوله وليس من رسائل منتقاة من جماعة محدودوة التفقه.
وحين صدر العدد الأول من أخبار اليوم سنة 1944، وكنت طالبا فى مدرسة زفتا الابتدائية، شعرت أنه صدر خصيصا لسبّ الوفد ومدح الملك، فكدت أكون وفديا من فرط الغيظ، حتى جاءت ذكرى حادث 4 فبراير، ورسم المرحوم رخا رقم 4 فبراير بتشكيلات كاريكاتيرية للنحاس باشا، فثار داخلى رافضا بكل ما عند صبى غاضب، ومع ذلك ظللت غير وفدى، ولم يمنعنى عدم انتمائى هذا أن أحب النحاس باشا حبا نقيا بعيدا عن حزبه، وقد كان شخصا لا تستطيع إلا أن تحبه، حتى أن أبواق سيارات الشباب حتى اليوم، تنادى بعضها بعضا بنغمة “تيت تيت!! يحيا النحاس” دون أن يعرفوا أصلها، ولم يهز من حبى له تلك الصورة الخبيثة التى نشرتها أخبار اليوم أيضا (على ما أذكر) له هو والسيدة حرمه واللورد كيلرن.
ثم عاصرت إلغاء معاهدة سنة 1936، والنحاس باشا يخطب، أنه “من أجل مصر، وقعنا المعاهدة، وأنه من أجل مصر، ألغينا المعاهدة”، وربما ظل هذا الموقف فى قاع وعيى وأنا أوافق على معاهدة كامب ديفيد، (قال يعنى كانوا منتظرين موافقتى!!) فلا توجد معاهدة أبدية، وكنت أتصور أن السادات، مثلما وافقنى مؤخرا د. محمد سليم العوا، قادر على أن يلغى معاهدة كامب ديفيد إذا ما حان الوقت المناسب، وربما هذا هو ما استنتجتْه أمريكا شخصيا فاغتالته، وحين ألغى النحاس باشا المعاهدة، كنت قد بلغت مرحلة الشباب، طالبا فى إعدادى طب، وبادرنا بالاستعداد للمقاومة مع البوليس والفدائيين فى منطقة الاسماعيلية، وكان الذى يعدّنا فريق من المدربين من بينهم ياسر عرفات (كلية الهندسة) وأخيه فتحى عرفات (كلية الطب) وجماعات من الإخوان المسلمين، مدعومة بمواقفة ومباركة من حكومة النحاس باشا، وقدرت الموقف، ولم أنتم أيضا.
ثم كان حريق القاهرة، وكان الذى يحقق فيه المرحوم النائب العام عبد الرحيم غنيم، وتصادف أنه كان والد زميلى المرحوم د. نبيل غنيم، وكنا نذاكر عنده فى فيلته فى مصر الجديدة، وناقشته طويلا أنا وابنه نبيل فى ظروف وملابسات حريق القاهرة، وكرجل قانون ملتزم، لم يكن يصرح لنا إلا بعموميات غامضة، لكنه كان دائما إذا ما اقتربنا من اسم النحاس باشا، يذكره بتوقير شديد، وحب أيضا.
ثم كان ما كان من نشأه حزب الوفد الجديد، ورحب المرحوم جمال بدوى بقلمى، وأتاح لى فرصة الكتابة بحرية حقيقية، كما ذكرت الآن وسالفا. لكن كل ذلك لم يجعلنى وفديا أبدا، ثم حدث ما حدث فى فترة الدكتور نعمان جمعة، وكنت قد عرفته مصادفة فى فترة إقامتى فى باريس (68-69) ولم أتصور فى يوم من الأيام أنه يمكن أن يتولى مسئولية سياسية كالتى تصور أنه أهل لها حين تولى منصب رئيس الوفد،
“فكان ما كان مما لست أذكره فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر”
ثم عرفت نجيب محفوظ عن قرب مؤخرا، وإذا به يصحح لى معلومات كثيرة كثيرة عن الوفد، عرفته عاشقا لسعد زغلول بما لا يقاس، ثم محبا جميلا للنحاس باشا، أكثر بكثير منى، لكننى رجحت أنه نفس نوع الحب، فقد وصف لى شعوره حين كان يذهب صيفا إلى الإسكندرية، وكانت الوزارة برئاسة النحاس باشا تنتقل إلى هناك، وراح محفوظ يحكى كيف كان قلبه يدق وهو يتابع تمشية النحاس باشا على الكورنيش عصرا، دون حراسة طبعا، ودون إغلاق الشوارع، فتأكدت أنه نفس الحب الذى أحبه للرجل، برغم اختلاف الانتماء، وفرحت، وقد صالحنى نجيب محفوظ على كثير مما غمض على من تاريخ الوفد، وبالذات حين فسر لى حادث 4 فبراير، وكيف أن هذا الموقف أنقذ البلاد بشكل ما، واقتنعت.
حين شاهدت (وليس فقط قرأت) منظر هذه الأرقام الغريبة التى طالعتنا بها الصحف وهى تعلن نتيجة انتخابات رئاسة الحزب مؤخرا، عادت إلىّ كل هذه الذكريات، فقد بدت لى أرقاما أكثر دلالة وأهمية حتى من أرقام اكتساح الوفد القديم لحزبى السعديين والأحرار الدستوريين
لا توجد ديمقراطية حقيقية تستعمل أرقاما أخرى غير هذه، أو قريبة من هذه(58 % – 42 % !!)
لا توجد ديمقراطية حقيقية تستعمل فعل “سحق: يسحق سحقا”، ولا حتى اكتسح، ولعل ما أكد لى حقى فى الفرحة، هو تلك الصورة المشرفة للمنافسة النظيفة، ثم ما تلى الإعلان عن الفوز
ومع ذلك رحت أسأل وأجيب:
- هل معنى هذه الأرقام أن حزب الوفد سيصبح أكثر شبابا وأكثر معاصرة (فتنتفى الصفة التى لصقتهـُا به منذ 1986 ثم أعدتها مؤخرا وهى “أنه حزب تاريخى بلا شباب”
= لا أعرف!
- هل معنى ذلك أن ثمة معارضة حققية يمكن أن تظهر فى الأفق غير التهديد بالإخوان والتلويح بنكسة يوليوية
= لا أظن!
- هل يتعلم الحزب الوطنى معنى الانتخابات من أول رئيس الحزب حتى أقل كادر قيادى فيه، وهل يمتد ما يتعلمه، إذا كان قابلا للتعلم، إلى الانتخابات العامة؟
= لا يمكن .
- هل مغزى هذه الأرقام هو أن ثـَمَّ سبيلا لما يسمى الديمقراطية التى تؤدى إلى تداول السلطة سلميا برغم كل عيوبها، والشبهات التى تدور حولها؟
= مستَبْعَدٌ جدا، برغم أن الأمل لم يمت تماما؟
سواء كانت هذه الإجابات هى الصحيحة أم لا، فلا يمكن أن يمر هذين الرقمين (58 % – 42 %!!) على مواطن عادى مثلى، يكره الديمقراطية، ويحب النحاس باشا، ولم يتمكن من حب سعد زغلول إلا من صدق مذكراته، ويحب نجيب محفوظ، ويحب الناس، ويكره أمريكا، ويكره إسرائيل أكثر، ويتعرف مؤخرا على لعبة المال العالمية المافياوية، لا يمكن أن يمر هذين الرقمين دون أن يحتفى بهما.
وبرغم كل هذا الاحتفاء، فلم أستطع بعد أن أستسلم لتلك الديمقراطية الأخرى التى تفترس العالم بالمال فى الظلام.
يبدو أن مرضى ليس له شفاء قريب، خاصة وقد فشل نجيب محفوظ فى علاجى، حتى بعد رحيله.