نشرة “الإنسان والتطور”
3-6-2012
السنة الخامسة
العدد: 1738
تعتعة الوفد
هذا الشعب الجميل العجيب…!! “ما لوش حل!” !!
يفاجئنا هذا الشعب بأصالته وقدراته ووعيه كلما يئسنا من تحقيق أمل قريب، فنروح نسقط يأسنا عليه ناسين تاريخه وعراقته وصعوباته وتضحياته، وبصراحة يكون معنا حق فى كثير من الأحيان حين يصلنا استسهاله أو استعجاله أو استسلامه أو كل ذلك، وفجأة نكتشف سوء ظننا وهو يكشف لنا عن وجهه الآخر:
ما هذا الذى حدث هكذا؟ ما كل هذا الوعى، وكل تلك الحضارة؟ من أين له هذا كله وهو الذى همّشه وحقره واستهان به وهزأ منه رئيسه الأقرب على فقر قدرات هذا الرئيس وقلة حيلته، ثم نفاجأ بروعة هذا الشعب حين يغضب شبابه فجأة، فيصدقهم الناس، فيكون مشروع الثورة الواعدة، وتتوالى الأحداث بإيقاع لا يسمح بالتوقف والمراجعة، فتغلب السلبيات وتتمادى، وفى اللحظة التى كاد كثير منا يستسلم إلى الاعتقاد أن المسألة انتهت، أو هى فى طريقها إلى نهاية سلبية، نفاجأ بهذا الأداء الدال الذى يلزمنا أن نواصل ونثابر لتكون الثورة ثورة بناء دولة، وتخطيط حضارة.
ماذا حدث يومىْ الأربعاء والخميس الماضيين؟ ما كل هذا الاحترام الذى ساد صفوف الناخبين: الاحترام للأكبر سنا؟ والاحترام للمرضى؟ والاحترام للمرأة؟ والاحترام للفكرة؟ والاحترام للواجب (دون إنكار اللمم من تجاوزات واردة)؟ أهذا هو نفس الشعب الذى لا يحترم المرور ولا يحترم القانون، ولا يحترم المواعيد؟ لا بد أن هناك شيئا انطلق منه هو هو: جعله يُخرج قيمه الرائعة الأخرى متى أتيحت الفرصة هكذا.
ثم أين البلطجية المقررون على كل انتخابات من أى نوع، وهل هم من هذا الشعب أم أنهم يُستوردون من زوايا ظلماته حسب الطلب ، لكن يبدو أنه حتى البلطجية لم يجدوا من يؤجرهم، أو لعلهم قد بلغ داخل داخلهم أنهم مصريون مثل المصريين، فتحرك فيهم “شىء آخر” منعهم أن يفسدوا الجارى، حتى لو كلـِّفوا بذلك.
أنا أحب هذا الشعب، ولا أتصور أنه يمكننى أن أعيش بعيدا عن طيبته، وصبره، ورائحته، وأخطائه، وخفة ظله، ووغدنته مهما كان، كنت دائما أحتار فى البحث عن السر فى هذا الشعب، خصوصا حين أسأل بعض أصدقائى أو أهل مرضاى من الأجانب الذين هاجروا إلينا ليعيشوا وسط ناسنا بكل هرْجهم، وقلة حيائهم، وعشوائيتهم، وقلة ديمقراطيته، وقلة حقوق إنسانهم، فيجيب أغلبهم أننا بينكم نحس أننا بينكم، وأن ما يصلنا من ناس هذا الشعب، يجعلنا ليس فقط نريد أن نعيش معه، ولكن أن ندفن بجوار موتاه ، أى والله.
ذات يوم منذ بضع سنوات خطر لى أن أبحث عن هذا السر ، عن هذا الـ “شىء” الـ ما ” الذى يميز هذا الشعب، فكتبت فى الدستور الأصلى بتاريخ 28 مايو 2008 تعتعة بعنوان ” برغم كل الجارى، مازال فينا “.. شىءٌ مـَا” ، كتبت:
” …ضد كل الجارى حالاً : حولنا، وبنا، وعلينا، ضد هذا الواقع المؤلم المزعج المنذر المخيف، أطلت علىّ عيون مصرية: طفلة، وشاب، وفلاح، وعامل نظافة، ومجنون. كل تلك العيون قالت “لا”،… قالت “لكن…”: “هناك شئٌ ما” لا ينكره إلا العميان الجبناء. نفس الكلمات قيلت فى نفس اللحظة. هذا الشئ ليس جديداً علىّ، سمعته من “خواجاية” اختارت أن تعيش فى مصر جداً، …..، ورأيته فى شعر الأبنودى، وتشكيلات وتاريخ أحمد نوار، وتقشف وصوفية رمضان بسطاويسى، وابتسامة وقبلة هالة عزب، وتعقيبات وحضن هالة نمر، وطيبة وسذاجة إبراهيم السهران فى المستشفى عندنا، ونبض شعر عبد الصبور، وآلام ابنته، وفى كل نجيب محفوظ،، وفى صوت “نور” حفيدتى وهى تنادينى لأول مرة “جدى”، وفى أمانة حافظ عزيز، وفى اندفاعات وحمّالات ابراهيم عيسى، وصوت دقّات حذاء كلاكيت “هنَاَ” محمد الرخاوى، ورقص وغناء أطفال الأوبرا، ومثابرة وذكاء خالد صقر، وعناد وتديـن مها عصام، وعند بائعة “الخضار” على الناصية، وفى هفهفة ثوب زوجة أشرف البواب، وفى لؤم منادى السيارات، وخبث الصبى الشقى يبحث عن كرته فى شرفة جارتنا. كما سمعت حفيف احتكاك هذا الشىء على طول كل الطوابير، وفى جوف أنين الأطفال يتقلبون جوعا قبل أن يغلبهم النوم، سألت نفسى سرًّا: هل مازال “هذا الشىء” موجودا حقيقة، أم أننى أصبّر نفسى؟ شىءُ ما فى داخل داخل هذا الشعب يدعو للحمد والتفاؤل برغم كل الجارى، نعم هو نفس الشئ هو هو الذى رأيته فى عيون بعض المصريين فى الخارج حين تطول بهم الغربة وهو نفس الشئ الذى يجعل مرضاى يثقون فى أنى أصدقهم، فيصدقونى، فيـُشفون،هو نفس هذا الشئ الـــ.. ما”!.…”
انتهى المقتطف
حين فوجئنا بغضب الشباب يتجسد فى 25 يناير، لم نصدق أنفسنا لدرجة استبعد بعضنا تلقائيتهم، وقالوا “بفعل فاعل”، ولم أستبعد هذا الرأى ، بل إنه شحذ حذرى وأنا أباركهم، وعزوت ما حدث إلى تجلٍّ من نوع آخر لهذا الشىء الـ ما: لا يمكن إلا أن يكون لهذا “الشىء الـ ما” شكل آخر يجعله يفيض غضبا ليكسر حاجز الخوف، ويرفض الاحتقار والاستهانة والتهميش، وها هو قد ظهر فى 25 يناير وما بعده، وليس ما بعد بعده!!.
تتلاحق الأحداث، وتثير معها أسئلة الإعلام المقروء والمسموع والمرئى، تلح علىّ (وعلى أمثالى) بالأسئلة عن التغير الذى حدث بعد “الثورة”، وأكرر أنه لا تغير، وإنما كشفٌ وإعادة تشكيل ومشروع ثورة واحتمال إبداع، وأن التغير لا يحدث بالضغط على زر خلال أيام أو شهور.
وتمر أيام أخرى، ويطل علينا الجانب القبيح من بعض أفراد هذا الشعب، فنعانى مستغربين من قسوة، ونذالة، وحقد، وقتل، وبلطجة، وإيذاء، وفوضى، تنطلق من بين بيننا فعلا، ويعاود الإعلام تساؤلاته، لأمثالى بالذات: ماذا حدث للمصريين؟ وكأن الطبيب النفسى عنده حل اللغز، وكأنه قادر على أن يسمى الجارى باسم عرض أو مرض ودمتم، وأرفض من جديد، وأحذر من هذه الأحكام التعميمية المتعجلة، وتتمادى السلبيات، وتسيل دماء، وتـُشج بطون، ويستشهد أبطال وأبرياء، ثم يظهر كيف يمكن أن ينساق هذا الشعب وهو يعانى كل هذه المعاناة وراء وعود جوفاء فى الدنيا أوالآخرة، أو كليهما؟ وأيضا كيف يندفع وراء إثارة نزعات التعصب والحقد والثأر والانتقام هكذا؟ ويكاد البعض يكفر بأصالة هذا الشعب وعراقته
أروح أبحث عن هذا الذى كتبته عنه منذ أربع سنوات، عن هذا الـ “شى الـ: ما” فألمحه أحيانا، ويختفى كثيرا، لكن عندى شهود ممن قرأ لى هذه التعتعة فكتبوا لى مؤيدين، أو محذرين من التمادى فى الشطح، وخاصة وأننى أنهيت هذه التعتعة كالتالى: أقسم بالله العظيم ثلاثا أننى رأيت وأرى هذا الشئ بعينْى رأسى موجودا غصبا عنى وعنك، وأنه سوف يتجلى “بنا” فى يوم ما، ليفرض نفسه علينا.
وفعلا تجلى هذا الشىء فيما وعد بثورة ما زلنا نتعهدها لتكون كذلك، ثم اختفَى، ثم ظَهَرَ، ثم اختفَى، ولكن دعونا أولا نستمع لبعض المشاركات الشاهدة التى ظهرت فى بريد الحمعة فى موقعى يوم 30 مايو 2008 ، وردودى عليهم :
أ. منى أحمد فؤاد
شعرت فعلا بهذا الشىء “الـ… ما” ولكن أود أن اعرف له مسمى وشعرت بصدق فى هذه التعتعة
د. يحيى:
الأفضل يا “مُنى” ألا نسميه لو سمحت، سوف يفلت منا إذا نحن فعلنا، دعينا نراه، نحيط به، نصدّقه، نسمح له، نرعى خطواته، فنكون إليه.
أ. هاله حمدى البسيونى
أنا فعلا حاسه إن فيه حاجة غريبه فى الشعب ده، دايما باستغرب الرضا والتفاؤل وتحمل الحياة برغم الصعوبات التى يواجهها، إلى الآن لم أعرف ما هذا الشىء ولكن حبى ازداد لهذا الشعب بعد قراءة هذه اليومية
د. يحيى:
طمأنِتِنِى يا شيخه
د. نعمات على
لا استطيع ان اعبر عما اشعر به بعد القراءة بالرغم من إحساسى بالدفء والونس والحنين وكأنى سمعت صوت العصافير وشعرت بدفء الأم وهى تودع ابنها، ولهفه الحبيب للقاء حبيبته، تمسكت بنبض الدنيا وروح الحياه والأمل المجهول الذى يجعلنى أعيش من اجله!!!!
(انتهت المقتطفات)
يبدو أن هذا الـ “شىء الـ ما” هو الذى ظهر يومىْ الأربعاء والخميس الماضيين، ومع ذلك جاءت النتيجة كما تعلمون، فلم أفزع، ولم أستغرب ، فهذا الشعب الذى استطاع أن يكشف خطأه فى الاستفتاء، ثم تبينت له خلال أسابيع مدى غفلته فى انتخابات مجلس الشعب، ثم تأكد من قدرته على التراجع والتصحيح، هو قادر على أن يحسن توجيه من يتولى أمره كائنا من كان، وأن يحاسبه، ويمتحنه، فإذا ما رسب الرئيس النجيب، فليس له ملحق أو إعادة، فيعلن الشعب انتهاء فرصته، ومع السلامه، و”…. اللى بعده…..” كل ذلك بالوسائل الأبقى، والأقوى .
نعم سوف نعرف كيف نغير حياتنا وحاكمينا دون الحاجة إلى النزول المتسارع إلى الميادين والشوارع، إلا فى الضرورة القصوى، لأنه لابد أننا أدركنا ثقوب الاندساس بيننا، والتحريك من خارجنا، والخراب من سوء حسابات البعض، وربنا يستر.
أساسا: دعونا نحذر القوى الخارجية ونحن نبنى اقتصادنا ونقف لرئيسنا القادم ولمجالسنا الموقرة المغرورة بالمرصاد، وليس بالضرورة بميدان التحرير أو العباسية أو ماسبيرو أو المنشية …إلخ