نشرة “الإنسان والتطور”
15-8-2010
السنة الثالثة
العدد: 1080
تعتعة الوفد
“نعم”: رمضان كريم، و”لكن”: الله أكرم!
فى مقال الأسبوع الماضى قدمنا أمثلة عديدة فى السياسة، وأمثلة محدودة فى الحب، توضح بعض جوانب هذه اللعبة التى نلعبها طول الوقت فى حياتنا العادية حتى لو لم نستعمل نفس المصطلح “لعبة”، ولا نفس الألفاظ : “نعم …ولكن”
الذى غلب على مقال الأسبوع الماضى هو استعمال هذا التعبير للتحايل والمناورة وتمييع المواقف، للتخلى عن الحسم، وعن الوفاء بالوعد، وعن تحديد الأمور، لكننى أنهيت المقال بالتنبيه إلى أنه لنفس اللعبة وجها إيجابيا فى الحياة العامة، ولم أتطرق لتوظيفها فى فهم المرض النفسى والعلاج النفسى.
طلب منى بعض الأصدقاء مزيدا من التوضيح عن الاستعمال الإيجابى لهذه اللعبة، بمزيد من الأمثلة ، حيث بدا المثال فى آخر المقال غير كاف، أو هو أقرب إلى التطييب الآمِل منه إلى التحديد الواقعى باستعمال إيجابى فعلا، فاستجبت هكذا:
إن تعبير “نعم… ولكن” يمكن أن يكون نقدا ذاتيا أو تنبيها مفيدا يوقف التمادى فى أحادية التفكير ونفى “الآخر”، بمعنى أنه قد يكون محاولة تصحيح نوع مطلق من إصدار الأحكام العامة الصارمة: إن “نعم” بدون “لكن” قد تنتهى بنا إلى الاستقطاب المشلول، والتعصب المتصلب، والوثقانية (الدجماطيقية) العمياء. بل إن هذه الـ”نعم” المغلقة هكذا يمكن أن تقتل الإبداع قتلا .
نبدأ ببعض هذه الـ “نعمـ” ات المطلقة التى نحذر منها مثل :
نعم: الديمقراطية هى الحل
نعم: الإسلام هو الحل
نعم: “العلم” هو الحل
نعم: العـَـلمانية (السكلرةsecularism ) هى الحل
نعم: الرأسمالية هى الحل
نعم: السلام هو الحل
نعم: أمريكا هى الحل
نعم: الاشتراكية (أو الشيوعية) هى الحل
… إلخ ..إلخ
لو اننا توقفنا عند هذه المرحلة من إصدار الأحكام المطلقة المغلقة التى تبعدنا عن بعضنا البعض، فلن نخرج إلا بمجموعات متشنجة من البشر المتنافرين الذى لا يحسم الأمور بينهم إلا الحرب، لنؤكد قانونا ثبت فساده كنا نتصور أنه القانون الأهم فى البقاء، قانون يقول : البقاء للأقوى، وقد ثبت أن هذا وارد أحيانا فى ظروف محدودة، لكن الأهم هو أن البقاء للأكثر تلاؤما مع الطبيعة، والأكثر تكافلا مع الأحياء التى ترى بقاءها فى بقاء الحياة نفسها، “نعم” بدون “لكن”، ترجح قانونا بشريا خائبا يقول “الشطارة للأغبى الأقوى” معا، ولأنه أغبى بقدر ما هو أقوى، فهو على طريق الانقراض.
وعلى ذكر الانقراض، فدعونى أقدم لكن هذا الفرض العلمى الذى قارب النظرية :
“إن أى توقف عند حل مغلق على أنه الحل الأوحد هو السبب الحقيقى لانقراض الأحياء التى انقرضت” . إن أى كائن حى عجز عن التكيف مع الطبيعة (بالطول والعرض، طقسا وجغرافية ومواردا)، وعن التكافل مع سائر الأحياء المحيطة (وليس مجرد الانتصار عليها) انقرض لأنه تصور أن بقاء نوعه منفردا “هو الحل”، وهذا ضد الحياة كما أرادها الله سبحانه.
إنسان اليوم معرض أكثر من أى يوم مضى للاستمرار فى هذا الاتجاه الخاطئ، تعالوا نعيد النظر فيما سبق من أمثلة لنكملها إيجابيا بما تيسر من نقد واع صعب، فنصحح “نعم” المغلقة، بـ “لكن” المستدركة الناقدة على الوجه التالى :
نعم: الديمقراطية هى الحل
ولكن ليست ديمقراطية أمريكا، ولا الديمقراطية بالإنابة، ولكن الديمقراطية التى سوف يتوصل لها الإبداع البشرى القادر، بالتكنولوجيا الاحدث فالأحدث التى تسمح أن يشارك كل الناس فى فى اتخاذ قرارات بقائهم معا بشرا بحق، فهى ديمقراطية العدل والحرية وليست ديمقراطية الإعلام والمال، فهيا إلى محاولات إبداعها المتمادية ؟
نعم: الإسلام هو الحل
ولكن: ليس بمعنى الإسلام الذى أصبحت السلطات الدينية الكهنوتية وصية عليه، أى ليس بالمعنى الذى يحتكره نفر من البشر يعطون لأنفسهم الحق فى تفسير كلام الله دون غيرهم، ولا هو الإسلام الذى يستعمل من الظاهر، ولا الإسلام الذى ينفى كل من لا يحمل لفظ الإسلام من حظيرة الإيمان والعلاقة الخلاقة بالله سبحانه
نعم: “العلم” هو الحل
ولكن: ليس العلم الذى اصبح له كهنة وقساوسة يمثلون “الكنيسة الحاسوبية الكبرى”، حيث استولى على ما يسمى العلم أتباع منهج مغلق وصى معقلن، راح ينفى مناهج المعرفة الأخرى الأشمل والأعمق، مع أنها هى هى المناهج التى حافظت على كل الأحياء المتبقية على ظهر الأرض حتى الآن (واحد فى الألف فقط من بينها الإنسان والجراد والخنازير والفيلة والذباب… الخ)،”نعم“: العلم هو الحل”ولكن” على أن يشمل كل مناهج ومناهل المعرفة بحركية متكاملة متكافلة تحتوى إبداع الجنس البشرى جميعه ما أمكن ذلك
نعم: العـَـلمانية (السكلرة) هى الحل
ولكن ليس باسبتعاد وتهميش الدين والإيمان من جوهر الحياة اليومية وكأنه حلية أو نشاط هامشى أو ترفيهى شخصى بعض الوقت، السكلرية (العَلمانية) ينبغى أن تقتصر على نفى أن يمتلك مصائر الناس نفر من البشر يستولون على السلطة الدنيوية باحتكار الحق المطق باسم الله سبحانه تحت عنوان أن هذه السلطة إنما تحكم نيابة عنه تعالى، ليس للعلمانية أن تمتد لتصبح وصية على وضع الدين وكدح الإيمان فى حياة الناس فيحل محل ذلك غرور بشرى قاصر منعزل.
نعم: الرأسمالية هى الحل (نهاية التاريخ)
ولكن : ليست الراسمالية المالية، وليست الرأسمالية الكانيبالية (أكلة لحوم البشر) وليست الرأسمالية المافياوية التى فصلت المال حتى عن أصحابه، وسخرته لفئات سرية منفصلة عن سائر البشر …..
نعم: السلام هو الحل
ولكن: ليس بمعنى نفى الحرب تماما ودائما لصالح الأقوى الذى يمارس كل أنواع الحروب حتى تحت راية ما يسميه معاهدات السلام، ثقافة السلام المطلق والدائم هى ضد قانون التطور الأبدى، نعم: معاهدات السلام واتفاقات السلام هى اضطرار مؤقت من جانب الأضعف، ولكن أن يترادف ما هو سلام أو معاهدة سلام، مع ثقافة السلام بمعنى حرمان هذا الأضعف من استعادة وسائل القوة استعدادا لتصحيح ما اضطر إليه، فهذا ليس حلا، وإنما هو إذلال دائم وخداع متجدد.
نعم: أمريكا هى الحل
ولكن : هذا قول تفاوضى مناوراتى ليس أكثر، أما أن يصبح حقيقة تبرر التبعية المطلقة، والتخاذل المتمادى، والتسليم غير المشروط، فهذا ليس حلا، لا لنا، ولا لأمريكا (لأهلنا الأمريكيين الذين يحاربون معنا معركة بقاء البشر) ، لا بد من فصل أمريكا السلطة عن أمريكا الناس المبدعين بها، وهذا وارد حتى داخل أمريكا بعد أن كشفت أمريكا السلطة عن أنها ليست إلا واجهة لسلطة خفية أكثر فجرا وبجاحة من إسرائيل نفسها، وبعد أن تعرت باستعمالها الفيتو فى كل مناسبة دون خجل، وفى إعطائها الضوء الأخضر لكل غزو، أو قتل جماعى أو إبادة، بعد كل ذلك: فإن تكرار مثل هذا القول يصبح أقرب إلى البله أو الخيانة.
نعم: الاشتراكية هى الحل
ولكن: لابد من التركيز على التطبيق أكثر من الوثوق فى التنظير، كما لابد من تناسب اللحظة التاريخية مع الثقافات المتنوعة مع الاستفادة من الخبرات السابقة.
وبعد
فالمسألة ليست فى رفض أسلوب “نعم” و “لكن”، ولكن فى كيفية استعماله، وهدف استعماله.
وإليكم هذه التهنئة البسيطة بنفس الألفاظ بمناسبة شهر رمضان المعظم”
نعم رمضان كريم، ولكن : الله أكرم”.
الله أكرم يجرى الخير للناس عبر كل الناس طول الوقت، من كل حدب وصوب، راجع اليوم، إن شئت تعتعة الدستور: بيل “عز” & جيتس “ساويرس”، و”موائد الرحمن” المليارديرية!