نشرة “الإنسان والتطور”
5-9-2010
السنة الرابعة
العدد: 1101
تعتعة الوفد
نجيب محفوظ يحلم بـ: سعد زغلول، ومصطفى النحاس، ومكرم عبيد
أول أمس كانت ذكرى موعد انتقال نجيب محفوظ إلى حبيبه رب العالمين، 30 أغسطس 2006، وبرغم أنه القائل “آفة حارتنا النسيان”، إلا أننى أكاد أجزم أن مصريا واحدا، يكاد يجرؤ، أو يستطيع، أو يريد أن ينسى هذا الرجل، فهو – حقيقة وذكرى- الذى يظل يطمئن كل واحد فينا أنه يمكن أن يقول من جديد : أنا المصرى كريم العنصرين”. ظهر كل من : سعد زغلول ومصطفى النحاس فى أحلام فترة النقاهة، كما ظهر مكرم عبيد، واستلهمت أحلاما ثلاثة فخرجت منى تقاسيم متواضعة” “هوامش على المتن” هكذا:
نص اللحن الأساسى: (حلم 73)
وجدتنى فى البيت القديم بالعباسية، ويبدو أننى كنت متكدر المزاج فلم يسلم من نقدى شئ مثل طلاء الجدران وخشب الأرضية والأثاث حتى جاءنى صوت أمى من أقصى الشقة وهو يقول .. بنبرة باسمة.. لطيفة: إنه آن الأوان كى أبحث بنفسى عن شقة جديدة تعجبنى.
وانتقلت إلى مكان وزمان آخرين فوجدتنى فى بهو متعدد الحجرات والأشخاص، يوحى منظره بأنه مصلحة حكومية. وأكد ذلك مجئ زميلى المرحوم ح .أ ليخبرنى بأن الوزير أرسل فى طلبى، وذهبت من فورى إلى حجرة الوزير واستأذنا ودخلت. ورأيت الوزير على غير عادته من البشاشة وقال لى أنه علم بنقدى للثورة وزعيمها فساءه ذلك فقلت له إنى أعتبر نفسى متيَّماً بمبادئ الثورة ولم أكن من رافضيها غير أنى تمنيت دائما لها الكمال وتجنب العثرات والنكسات.
وانتقلت إلى مكان وزمان آخرين فوجدتنى صبيا يتجول فى ميدان بيت القاضى، وجاءنى صديق فى مثل سنى يدعونى لحضور حفل زفاف شقيقه الأكبر، وقال إن شقيقه دعا سعد زغلول ليشرف الفرح ويباركه وأنه قبل الدعوة ووعد بالحضور. فدهشت دهشة كبرى وقلت له بأن سعد زغلول هو زعيم الأمة فضلا عن أنه اليوم رئيس وزرائها. وأنتم لستم من أقربائه ولا من زملائه فى جهاده، فقال إن سعد هو زعيم الأمة حقا ويخص البسطاء بوافر الحب وإننى سوف أرى.
وفى الميعاد ذهبت إلى الحفل فى درب قرمز ومضى بى صديقى إلى حجرة فرأيت فى الصدر سعد زغلول فى بدلة التشريفة يجلس معه ويتبسط معهما فى الحديث ويشاركهما الضحك، بهرت بما رأيت انبهارا استقر فى أعماقى.
تقاسيم على المتن:
… تقدمت إليه وأنا فى حال لا أكاد أصدق، قلبى يكاد يطير من صدرى، لا أتصور أن القدر سيسمح لى أن ألمس أطراف أصابعه. لا أعرف كيف لمحنى بين الحضور، والأغرب أننى لا أعرف كيف عرف اسمى حتى نادانى به، وهو يشير إلىّ أن أقدم. رحت أقفز بين الموائد وأنا أقرص نفسى لأتأكد أننى لست فى حلم، وحين وصلت إلى حيث يجلس فوجئت أنه اختفى وحل محله النحاس باشا؛ غمرتنى فرحة أخرى فأنا أحب الرجلين، لكن لكل حب طعم مغاير، وما كدت أمد يدى للسلام حتى وجدت يدا غير اليد، فرفعت رأسى فإذا به مكرم عبيد. ما غمرنى هذه المرة هو احترام أكثر منه حب. وهل هناك فرق؟
بعد أن وقف لى يصافحنى وقبل أن تلتقى يدى بيده أحسست بقبضة تطبق على كتفى، فالتفت ورائى وإذا بضابط شرطة على كتفه علامات لامعة كثيرة، ينظر إلىّ باستعلاء قائلا:
“أنت متَّهم بقتل أمك”،
فزعت لموت أمى أكثر مما فزعت لاتهامى بقتلها.
فتح علىّ الشرطى الزنزانة وأخبرنى أن الرئيس يطلبنى شخصيا، وأنه حدث خطأ فى الأسماء. وأن اسمى من بين المرشحين للوزارة، فظننت بعقل الشرطى الظنون، لكنه أطلق سراحى فعلا، فانطلقت إلى الفضاء كأنى أطير، ولم يخطر على بالى إلا محاولة التمادى فى الخلاص، وكنت قد نسيت تماما رسالة الرئيس والوعد بالوزارة.
فى الشارع، فى بيت القاضى من جديد، وقد عدت صبيا مرة أخرى، عاد صديقى شقيق العريس يقول: أسرع فالزفة بدأت، وما كدنا نعدو بجوار بعضنا لنلحقها حتى سمعنا صفارة إنذار، وأطفئت الأنوار جميعا، وانبطح بعض الصغار على الأرض، وجلست أنا القرفصاء …. ، وحين أطلقت صفارة الأمان، وعادت الأضواء، وجدت الشوارع كلها خالية، لكننى لمحت شبح أمى قادمة من بعيد،
وحين اقتربت منها قالت فى حنان متألم: ألم أقل لك؟!
فقلت لها: سامحينى، يبدو أننى بالغت فى نقدى بيتنا القديم.
نص اللحن الأساسى: (حلم 154)
دفعتنى أنا وصديقتى المذيعة أمواج متلاطمة من البشر حتى توقفت فى ميدان صغير أمام سد من البشر لا يسمح بنفاذ إبرة ونظرت فرأيت فى الجهة المقابلة محل الحلوانى الذى اعتدت أن أفطر فيه ولكنى لم أستطع الحركة وقلت لصاحبتى إن برنامجها عن النصر سيتعطل قليلاً، فقالت: على كل حال أنا عندى خبر مثير، فقد مات فى الزحام المجاهد الكبير مكرم عبيد فخفق قلبى حزناً على موت البطل وهناك رآنى نادل محل الحلوانى فوضع بعض الأرغفة فى كيس من الورق ووقف على كرسى ورماه من فوق الرؤوس فتلقفته بلهفة وفتحته ولكن يد صاحبتى سبقتنى إليه وهى تهمس بالمعذرة، وأنا أكاد أموت جوعاً، ثم مددت يدى داخله فلم أجد سوى بعض المخلل الأفرنجى.
تقاسيم على المتن:
…. التفت إليها وأنا أشك أنها أخذت كل ما كان فى الكيس إلا المخلل قبل أن تلقيه إلىّ ضاحكة، وسألتها عن ذلك، فقالت إن المخلل هو أنسب للحزن الذى غلبك، أما أنا فيلزمنى كل ما هو حلو وطازج لأكمل برنامجى عن النصر بعد إزالة العطل، قلت لها، وهل ستغيرين الفقرات بعد موت الزعيم؟ فقالت لى: وهل هو أفضل من سعد أو النحاس، لقد ماتا من قبله ومازلنا نحتفل بالنصر، قلت: أى نصر هذا؟ وحتى المخلل إفرنجى؟ قالت: ألستَ معى أنه أفضل من المخلل البلدى؟ أم أنك تريد أن تتسمم بلا علاج؟
وافترقنا دون أن ينصلح العطل.
نص اللحن الأساسى: (حلم 158)
كلفنى الوزير بالتنقيب فى مخزن الفن التشكيلى بالوزارة تمهيداً لإقامة معرض فأخذت مجموعة من الفراشين لإزالة الغبار وقتل الحشرات ولاحظت وجود لوحة كبيرة مغطاة فأزحت الغطاء عنها فطالعتنى صورة الزعيم سعد زغلول جالساً على كرسى الرياسة وشابكاً يديه فوق عصاته. فتأثرت لإهمال الزعيم الذى تربيت فى مدرسته الوطنية وإذا بالحياة تدب فى الصورة فترمش عيناه ويبدل يديه فوق العصا ويتجلى فى عظمة لا مثيل لها وسرعان ما جاءت الوفود من أبناء جيله تحييه وتشكو إليه ما أصابها من ظلم وسرعان ما نسيت تعاليم الوزير والمهمة التى انتدبت لها وانضممت إلى أكبر مجموعة وهى التى كان يتقدمها مصطفى النحاس.
تقاسيم على المتن:
…. لم أصدق أننى أسير بالصف الأول على يسار النحاس باشا شخصيا، ولا يفصلنى عنه إلا صاحبة العصمة ومكرم عبيد، تطلعت إليه دون أن ألتفت، لكن قامتى القصيرة حالت دون أن أرى وجهه، فشككت أنه النحاس باشا، فالتفت إلى يمينى فلم أجد لا صاحبه العظمة ولا مكرم عبيد، وابتدأت الهواجس تراودنى، لكن سعد باشا كان أمامى ونحن نتقدم إليه وهو يبدل يديه فوق العصا، فما أنا فيه حقيقة ماثلة، ولكن أين ذهب الباقون؟ لابد من التوقف أو التراجع للخلف لأتأكد أنه النحاس باشا، وأنى فى حمايته، وفجأة أطفئت الأنوار، وأحاطنا ظلام خبيث، وحين أضيئت عرفت أنهم تخلصوا من الصورة بمن فيها ودفنوه حيا، وقبضوا على كل المعزين بعد نهاية آخر جزء من القرآن الكريم، ولم يهتموا بى لصغر سنى.