“نشرة” الإنسان والتطور
12-9-2009
السنة الثالثة
العدد: 743
تعتعة الوفد
نجيب محفوظ: طاقة الإسلام تحرك عربة حياتنا…!! (2 من 2)
(كان ذلك بعد صدور الحكم على الجناة، وبعد تحفظنا من الذهاب لنفس المكان فى نفس اليوم) الاثنين 9/1/1995 (تكملة)
“…ركبنا العربة، قال إلى أين؟ قلت: ما رأيك فى المعادي، قال ليكن، أنت نفسك فيها منذ مدة، ذهبنا إلى “كافتيريا” أحد الفنادق على النيل، شعرت بالحرج من أن نواصل حديث أمس (عن الإسلام والمستقبل) بهذا الصوت المرتفع، ولكن يبدو أنه لم يكن هناك خيار.
رجعت لاستفسارى الملح مستوضحا معنى أن مستقبلنا هو فى الاسلام حالة كونه يتحاور مع العلم المعاصر، قال: ‘لكى تكلم الناس لابد أن يكون هناك ما يجعلهم يسمعونك، والاسلام الآن هو ما يشغل الوعى العام، عندك خمسين ستين مليون بنى آدم تريد أن تجعلهم يعملون، وينتجون، وقد رقدوا فى الخط، ولا شيء يحركهم وهم يرددون فرحتهم بأنهم مسلمون ويريدون أن يتمسكوا بدينهم، فلتكن هذه هى البداية، ولتقل لهم إن المسلم يعمل ويتدرب ويتعلم ويُعلم، المهم أن نحافظ على استمرار عطاء وحركة العلم وليحكمنا من يقدر أن يسيـّرنا، لابد أن نخاطب الناس من خلال ما يتمسكون به.
قلت له: لكن أن يكون الحكم إسلاميا، والعلم على أشده وفى أوج توهجه، هذه مسألة فيها نظر، خاصة وان العلم المعاصر جدا لم يعد هو العلم الذى نعرفه منذ بضعة عقود، والمناهج الأحدث تجعل ما كنا نسميه علما، مقولا بالتشكيك، ولم يعد ممكنا فصل العالم الآن عن ما هو علم، وعن ما يعلمه، وكل هذا بعيد عن العلماء التقليديين، فما بالك بمن يحكم باسم الدين، وكأنه ولى أمر المعرفة علما ودينا وتفسيرا وإبداعا.
أقر الاستاذ بشكل متواضع بعد تفكير صامت أنه لا يتابع أيا من ذلك بشكل كاف، وأنه حتى إن كان ذلك كذلك، فلنأخذ من العلم ما لا يحتاج لكل هذه المناهج الجديدة، ولندع جانبا بعض الوقت الخوض فى المسائل الفلسفية ونوع التفكير الذى يمزج العلم بالعالم بأنواع المعرفة الأخرى،
قلت له إن ما يصلنى منك وعنك هو هذا التقديس المبالغ فيه لكلمة العلم ووعودها، إن أغلب من لا يشتغل بالعلم يعطيه ويأمل فيه أكبر كثيرا من قدراته، فى حين أن العلماء الحقيقيون يحلمون بالنهل من روافد الفن والأدب والإيمان (وهو ليس مرادفا تماما للدين) يتكاملون به لخير الإنسان ودفع تطوره. وافقنى بحذر، ثم عاد يصر أن تضخم عطاء العلم، حتى من خلال منهج محدود سوف يتيح لأى حكم كائنا ما كان أن يكون عصريا، وأن يتقدم أكثر فأكثر حتى يصلح أخطاءه.
شككت وجادلت وضربت له مثلا للتسطيح الجارى من خلال تلك المحاولات السطحية التعسفية بتفسير النص الدينى بالعلم أو ما يتصورن أنه علم، كل هذا يدل على أن مفهوم العلم فى إطار حكم دينى سيظل محكوما بنصوص من خارجه، ثم إن حرمان العالم – والمفكر – من حريته الحقيقية لن يسمح بإضافة حقيقية وسنظل تابعين لغيرنا فى مجال محدود نسميه العلم المحاط بسياج من الأحكام الفوقية، وهات يا تلفيق، وهات يا تعسف، وهات يا ادعاء، والمسألة تزداد ظلاما.
طال صمت شيخى مطأطئا، ثم رفع رأسه قائلا، إن التجربة الواقعية، والحرية الحقيقية هى التى سوف تسمح باختبار كل هذه الاحتمالات أمام الناس، فإن صحت مخاوفك، فإن الناس لن يعيدوا اختيار من أعاقهم ويعيقهم، أما إذا اختاروه فعلينا أن نتحمل نتيجة اختيارنا حتى نتعلم ونحسن الاختيار من جديد، ولندع العلم يترعرع طول الوقت تحت مظلة أى نظام، قلت: كيف يترعرع العلم فى جو محكوم بحدود من خارجه. قال: سيترعرع لان هذه طبيعته.
بصراحة: أعجبت إعجابا شديدا بصبره وعناده، هذا الرجل يحترم كل جزء من الوعى البشرى ليضيف به ويتحرك معه، وهو يرضى بكل هذه القيود والمخاطر احتراما للواقع، وأملا فى المستقبل،
قلت له، فلندع العلم جانبا، فقد يمكن فصله ولو ظاهرا عن سلطة الحكم الدينى، فماذا عن الفن والابداع فى ظل الحكم الدينى الذى أرى أنه سوف يخنق الإبداع من كل جانب. أجابني: قد يتوقف الإبداع قليلا، لكن الناس لا تستطيع أن تعيش بدونه، وسوف يجدون له مخرجا مثلما وجدوا من قبل، ألم يكن الطرب والفن والشعر بل والشرب والرقص موجودا فى العصر العباسى وعبر العصورالإسلامية كلها؟ وأضاف: بعد فترة التشدد المبدئية سوف يرتخى الحكام ويتصرف المحكومون، الانسان لابد أن يجد لنفسه متنفسا تحت كل حكم مهما كان، لأن طبيعته غالبة ووسائله لا تنتهى.
من هذا الرجل؟ أهو هو الذى اعتدى عليه بعض هؤلاء الذين ينتمون إلى اسم يشبه الاسم الذى يدافع عنه، ويأمل فيه هكذا: “الإسلام؟
بدا لى وكأنى مقتنع بما قال مع أننى لم أكن كذلك تماما
بعد فترة صمت طالت حتى شعرت بمسئولية أن أكون معه وحدى Tete a tete سألنى فجأة:
- ولكن ماذا ترى أنت فى مستقبلنا؟
دهشت للسؤال هكذا، الآن، قلت لنفسى: هل بعد كل هذا الاختلاف، وبعد أن صبر علىّ كل هذا الصبر، واحترم مخاوفى، وحاول أن يطمئننى، ما أمكن ذلك، يسألنى أنا عن مستقبلنا؟ ومع ذلك شعرت أنه يسألنى فعلا، وأنه يريد أن يعرف رأيى تحديدا، وأن يستمع إليه حقيقة، وأنه لايمتحننى أو يتفرج علىّ. قلت له: مرعوب والله، لو لم يحدث شىء كبير آخر
صمت وهز رأسه، وقال: كبير جدا، ربنا يستر
(هل رحل هذا الرجل بالله عليكم؟)