نشرة “الإنسان والتطور”
1-4-2012
السنة الخامسة
العدد: 1675
تعتعة الوفد
كيف نقيّم أداء أُولى الأمر الجُدد؟
أما وقد كان ما كان، فليس أمامنا إلا التسليم الحذر الواعى بالأمر الواقع، هذا هو مجلس الشعب والشورى والنقابات وأغلب الشارع فى المساجد والزوايا والقرى والنجوع والمخابز والمصانع والورش ومحطات البنزين بعيدا عن التحرير وماسبيرو، يعلمون بوضوح أن ما يسمى التيار الإسلامى قد أصبحت له اليد العليا فى اتخاذ القرار وتسيير أمور هذا الشعب العريق جدا، إلى ما يستحقه من خير، نتيجة لتدينه الطيب، أو إلى ما يستأهله من تدهور نتيجة لسوء اختياره، وعدم قدرته على التفرقة بين دينه الحضارى الإبداعى الرائد وبين رافعى شعاراته المحدثين.
لا مانع… ليكن
لكننى لاحظت أن استقبال المعترضين على هذه الحقيقة الماثله، مهما كانت دلالتها لهم، كان استقبالا غير لائق، ولا هو واقعى، ولا حضارى، ناهيك عن كونه ديمقراطيا، رحت أتابع النقد الموجه لمجلس الشعب مثلا، وللحزبين الأساسيين الذين يمثلان هذا التيار، فوجدت أكثره سخرية، وتهوينا، وقفشات، تصل إلى السباب وبعضه تحذير واعتراض. لاشك أن مفاجأة المعترضين كانت أكبر من توقعاتهم، لكن ذلك ليس مبررا لما أصابهم من رعب خشية الجرجره نحو التخلف والجمود والترهيب وحتى التكفير، وما ترتب عليه من سخرية وإهانات قبل أى اختبار حقيقى.
دعونا ننظر فى الواقع، بطريقة عمليه مسئولة:
لنبدأ بحسن النية حتى لو لم يكن هناك مبرر موضوعى لذلك، ولندعُ الله تعالى أن يوفق ولاة أمورنا أيا كان توجههم إلى ما فيه صالح الوطن والناس، وأن ينجحوا فى كل ما فشل فيه السابقون بكل تصنيفاتهم، من أول التوجه الليبرالى قبل 52، حتى حكم العسكر الذى بدأ بجمال عبد الناصر (مع جزر تثوير هنا وهناك) حتى حكم المال بالثلل الانتهازية والمنافع الخاصة، تحت مظله والقهر الظاهرو الخفى أيام مبارك، مروراً بحكم الفلاح الذكى اللئيم المتفرد المناور المصرى المغامر أنور السادات بما له وما عليه، آن الآوان أن ننتظر من حكامنا الجدد على كل المستويات شيئا آخر فعلا، ولم لا؟ ألم يعدونا أن معهم الحل؟ فلننظر أو ننتظر هذا الشىء الآخر، من أدرانا، ألا يجوز أن نجد تحت القبة شيخاً تحل بركته علينا، ويقودنا مريدوه إلى ما هو خير لنا جميعا.
الإسلام، وهو الأقل تشويها بين الأديان بعيدا عن وصاية المفسرين المعجميين الناقلين دون إبداع: هو إنارة، وحضارة، وهداية، هو أخلاق وإبداع وكرامة، هو حرية وتعمير وعمل وإتقان ومسئولية عن الحياة والبشر …، أنا لا أدعى أننى ألم بكل تفاصيل كل الأديان، ولكننى بداهة أعرف دينى أكثر، وأشهد أننى وجدت فى ما وصلنى منه ما يكفى أن أقتنع بأنه يحمل كل ما ذكرته حالا، وهى المعالم الأساسية لوظيفة كل الأديان على مسار تاريخ البشرية، فى حدود ما اطلعت عليها، ليس معنى ذلك أنه لا توجد فروق بين الأديان، أو أننى أدعو إلى دين “توافقى” جديد، ولكن معناه أن ينطلق كل إنسان منا من موقعه، إلى ما يمكنه، لصالح الجميع.
الذين يعرفون ربهم، ويعرفون الإسلام الذى أرسله سبحانه وتعالى دون أن يعين عليه أوصياء، لا يمكن أن يختلفوا على هذه القيم التكريمية التى جاءت فى مقدمة هذا المقال وخرجت عفوا من القلم دون إعداد، والتى قد أرجع إليها بعد إذنكم أعيد التأمل فيها معكم فى مقالات لاحقه، إن هؤلاء الذين يعرفون ربهم ويعرفون عطاء الإسلام فى مجال هذه القيم الأساسية لتكريم الانسان ينتظرون من الحكام الجدد أن يحققوها جميعا، طبعا ليس حالا ولا مجتمعه، وإنما فى المدى الواقعى المعقول، وقد خطر لى منهج عملىّ يمكن من خلاله أن نقيّم أداء حكامنا الجدد كالتالى:
نبدأ بالقيمة المفترضة أنها تتحقق وتزدهر باسم هذا الحكم الجديد، ونحدد – بقدر ما نستطيع – معالمها ونتابع أداء من تعهد بتحقيقها ومدى نجاحه فى الوفاء بما تيسر منها من خلال تطبيق هذا الحكم الجديد بأكبر قدر من الموضوعية الآنية، ونقيس ذلك بمحكات تنبع من ثقافة مختلفة عن الثقافات المستوردة والمفروضة والمدعمة والممولة: السرية منها والعلنية، ثم نحمد الله ونبارك نجاح ولى الأمر لو أن ثقافة الاسلام قد ساعدته على تحقيقها بطريقة أفضل مما كنا عليه، وندعو ربنا أن يواصل ولى الأمر سعيه ليحقق هدفا أرقى فأرقى يليق بتكريم ربنا للانسان وأن يبارك فى وسيلته –الاسلام- مادامت قد حققت لنا حياة أفضل إنسانية، ومجتمعا أعدل ليس للمسلمين فقط وإنما لكل المواطنين آملين أن تكون صالحة للتصدير لكل البشر،
وليكن هذا هو مقياسنا –أيضا- فى فحص القيم المغتربة السائدة حاليا التى نحاول أن تكون قيم الاسلام بديلا عنها، فيكون الامتحان مقارنا موضوعيا على الوجه التالى:
دعونا نفحص أية قيمة معروضة للتسويق هذه الأيام مهما بلغ تقديسها مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان (لاحظ أننى لم أذكرهما فى قيم ما يعد به الإسلام) وبدلا من أن نعكف على قراءة التعريفات النظرية فى المواثيق المكتوبة، وبدلا من أن نقف مشدوهين أمام أرقام صناديق الانتخابات وأوراق الاقتراع، نقبل هذا وذاك ولو على مضض، شاكرين حدود عطاء المرحلة، ثم ننطلق بعد ذلك إلى قياس عائدها على القيم الإنسانية الحقيقية والغائرة والنامية، ونقيسها مقارنه بما أنعم الله به على عباده عن طريق الأديان والإبداع والإلهام وأنواع العقول المتكاملة من قيم حقيقيه أتيحت لها الفرصة ألا تستعمل من الظاهر فقط، وقد يثبت بالتقييم الموضوعى أن هذه القيم المستوردة ناقصة أو عبثيه أو شكليه أو مزيفه نتيجة ما لحقها من تشويه عند التطبيق، أو قد يثبت أنها –برغم كل قصورها- هى الممكنة مرحليا وعلينا أن نرضخ لها إن لم نجد بديلا عمليا أفضل.
أنا شخصيا أكاد أرجح أن ما فى هذه القيم المستوردة – حتى لو كانت أحسن الأسواء كما علمنى شيخى محفوظ، هى قيم مزيفة، لأنها هى التى همشت الدين واختزلت الايمان وقزمت الانسان حين سلمت إدارتها للمال، والتكاثر، والكذب، وغسيل المخ، وقد حققت أغراضها بالفيتو والاستيلاء على الأراضى، والحكم بمقياسين (ويل للمطففين) وقتل وإبادة وتطهير عرقى للمخالفين، وتفكيك مخرب تحت زعم توريد الثورة لاحقا، وبرغم كلَ ذلك –مرة أخرى- فقد نقبلها اضطرار مرحليا كما ذكرت لحين نصبح أهلا لتولى مسئولية ما هو أفضل.
ثم نرجع مرجوعنا بنفس المقياس نطبقه ونحن نحاسب النظام الجديد، فنبدأ من القيمة المراد تحقيقها والتى حددنا معالمها موضوعيا وإنسانيا كما أرداها الله لنا، وليس اقتصارا على تفسير لفظى لكلمات النص المقدس التى أصبح تحت رحمة الأوصياء بعيدا عن المقاييس الموضوعية، وعن اللحظة الراهنة
لنأخذ مثلا قيمة العدل أو الحرية أو الإبداع، واحدة واحدة، ونتابع الأداء الجديد تحت الراية الاسلامية، فإن تبينا أن معالم هذه القيمة قد تحققت كما ينبغى على أرض الواقع بواسطة مسلمين خُلُقهم القرآن (كما كان خلق الجندى الجزائرى الذى أبى لتنفيذ حكم الاعدام فى جارودى، فأسلم) وذلك بفضل جهد وجهاد هذا التيار الإسلامى الجديد، فهذا هو الدليل الأكبر الذى يثبت أن الإسلام استطاع أن يخترق الوقفة التى وقفتها البشرية عند نظم ملتبسة أو عاجزة لم تستطع أن تحقق ما حققه، وإن كان العكس هو الحادث فلابد أن يسرى عليها الحذر فالرفض مثلما سرى على القيم المرفوضة من قبلها.
الاسلام يكون حلا حين يحقق قيم رب العالمين لتكريم الانسان على مستويين، أن يصنع من البشر مسلمين بحق (حتى قبل أو دون أن يعلنوا اسلامهم) حتى يديرون احوالهم بما يدعم هذه الصفة الراقية التى تتجلى فى هذه القيمة أو تلك، فيكون كل منا مثل صهيب الذى نسى، فإذا ذكّر ذكر، خلط الإيمان بلحمه ودمه، ليس للاغتراب والجشع والنار فيه نصيب، صهيب هذا هو القادر أن يصيغ قوانين ونظما تساهم فى أن تحافظ على فطرته وتطلق قدراته بما خلقه الله لما أراد الله.
وإن كان الواقع يعلن عكس ذلك، وأنهم لا يرددون إلا نصوصا أفرغوها من وظيفتها، وهم لا يستطيعون أن يتحملوا مسئولية تطبيقها، فليس أمامنا إلا الرضا بأحسن الأسوأ المطروح فى الاسواق حتى نصير أهلا لحمل أمانة ديننا بما ينبغى كما ينبغى.
والله –سبحانه- المستعان على ما يصفون.
خلاصة القول: إن علينا أن نمسك بكل قيمة على حدة، ونحدد معالمها ونستلهم ديننا العظيم كيف يضيف إليها ما هو أحسن من المعروض فى السوق المحلى والعالمى حاليا، وهات (مرة أخرى) يا إنارة، ويا حضارة، ويا عدل، ويا أخلاق، ويا إبداع، ويا كرامة، ويا حرية، ويا تعمير ويا عمل ويا إتقان ويا مسئولية عن الحياة والبشر جميعا، ونحن نحمد الله.
أما أن يظل الاغتراب هو الاغتراب، والتكاثر هو التكاثر، والاستغلال هو الاستغلال مع تغيير اللافته والأسماء، مضافا إليه التحيز والتحزب والاستعلاء والتخوين حتى التكفير، فسوف لا نحصّل حتى مزايا القيم المستوردة مهما كانت زائفة ومغتربة، كما أننا سوف نشوه ديننا ونحن نعلن فشله فى تأنيس الانسان كما خلقه الله (ربى كما خلقتنى)، وفى الحقيقة أنه ليس فشله وإنما هو فشلنا نحن.