نشرة “الإنسان والتطور”
29-8-2010
السنة الثالثة
العدد: 1094
تعتعة الوفد
“…كأنهُ أٌنْزِلَ عليك”: فى رمضان!
فى مقالى السابق: “نعم” رمضان كريم و”لكن” الله أكرم: قلت “إن أى توقف عند حل مغلق على أنه الحل الأوحد هو السبب الحقيقى لانقراض الأحياء التى انقرضت. إن أى كائن حى عجز عن التكيف مع الطبيعة (بالطول والعرض، طقسا وجغرافية ومواردا)، وعن التكافل مع سائر الأحياء المحيطة (وليس مجرد الانتصار عليها) انقرض لأنه تصور أن بقاء نوعه منفردا “هو الحل”، وهذا ضد الحياة كما أرادها الله سبحانه”.
أخطرنى بعض الأصدقاء أن ما وصلهم من كل المقال هو أنه “لا يوجد حل” إلا وبعده “لكن” تكاد تنفيه، وتعجبت لهذا الكسل العقلى الذى لا يتناسب إلا مع ما نـُشوِّه به نهار رمضان بالذات، وتركز الرفض او التحفظ على استدراكى ومناقشتى لمقولة أن “الإسلام هو الحل”، واتهمنى البعض أننى بذلك أقلل من قيمة عطاء الإسلام، ولم ينتبه أى منهم إلى ما ورد بعد “لكن” من شرحى أننى أرفض أن نستعمل “كلمة” الإسلام وليس الإسلام ليكون حلا استسهاليا سريعا سابق التجهيز، قلت إن ما أتحفظ عليه هو: “…. الإسلام الذى أصبحت السلطات الدينية الكهنوتية وصية عليه، (الإسلام) …. الذى يحتكره نفر من البشر يعطون لأنفسهم الحق فى تفسير كلام الله دون غيرهم، …(الإسلام) ….. الذى يستعمل من الظاهر، … (الإسلام) الذى ينفى كل من لا يحمل لفظ الإسلام من حظيرة الإيمان والعلاقة الخلاقة بالله سبحانه “
بعد نشر المقال جاءتنى تساؤلات تقول: إن كنت تقصد فعلا ما تقول، وتتحفظ على سوء استعمال الإسلام وليس الإسلام، فأى إسلام هو الحل إذا تصورنا أنك لا تناور لتستبعد الإسلام من أصله؟
شعرت بحرج شديد مما استدرجنى إليه قلمى، عند السائلين حق، صحيح: أى إسلام هو الحل إن كان الإسلام الذى تحفظتُ عليه بعد “لكن” ليس حلا ؟
قلت أجتهد بحذر ورزقى على الله : هو الإسلام الذى أنزله الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم مثلما نزلت الأديان جميعا على الأنبياء جميعا، فـ”.. آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ “. الإسلام يكون حلا حين يكون مصدرا للحياة كما خلقها الله، وليس شعارا للاستعمال الظاهرى، هو الإسلام الذى يحافظ على كرامة كل البشر فيحارب الظلم والقهر أينما كان حربا حقيقية ضروسا فى كل المجالات، هو الإسلام الذى يجعل المال مجرد أمانة يحملها صاحبها إلى أهلها!!
الإسلام إذن ليس حلا بالمعنى الذى توقف عنده أغلب المفسرين، وليس حلا بالمعنى الذى استعمله السياسيون. بمجرد أن تعيِّن وصيا محددا بزمان ومكان على كلام الله، (أو هو ينصب نفسه كذلك) يتحول الإسلام الحل إلى الإسلام الموصَى عليه . ليس معنى ذلك أن نرفض اجتهاد كل المفسرين، أو أن نفتح الباب أمام كل المبتدئين، وإنما يظل كلام الله ووحيه بعيدا عن أية وصاية بشرية جاثمة طول الوقت، ويمكن أن نستنتج أن الإسلام لا يكون حلا إلا إن كان هو السبيل أن “يدخل الإيمان فى قلوبكم”،
قالوا: فكيف بالله عليك نتعرف على الإسلام إذا نحن تحفظنا على كلام المفسرين، وتحفظنا جدا على دور العامة وإيمان العجائز (وأنا منهم)؟
بصراحة: ليس عندى جواب جاهز إلا تنبيهات عمومية لمسئولية كل فرد عن ما وصل، ويصل إليه، وعن ما اتبعه ومن اتبعه وما سوف يقوله وهو يقف بين يدى الحق العدل العليم، يوم يُسأل كل واحد منا عن من اتبعه من المفسرين والمفتيين ولماذا اتبعه، وخاصة بعد أن يتبرأ منه من أفتى له أو تصدى لتفسير ما أنزل الله، يومئذ يتلتفت المسئول حواليه يستنقذ بمن أفتى له، فيكتشف أنه مشغول بحاله هو، وأنه يفر من أخيه، وأنه “ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ“، فيعيد نداءه وهو يذكّره بما افتى به، فيتبرأ منه مجددا ويتخلى عنه، (هو فى ماذا أم ماذا؟) فيتمنى المستفتى- وهو يتميز غيظا- أنه : لو أن له كرة فيتبرأ هو بدوره من هذا الذى انحرف به – بقصدٍ أو بحسن نية، أو بقصورٍ إنسانى، أو بجهلٍ خائب – بعيدا عن الجادة، عن الحق تعالى، عن الجهاد لإعلاء كلمته، يتمنى العودة ليرفض ما وصله من هؤلاء، لكن يكون الأوان قد فات، فهو لا يجد له كرّة يعود بها ليأخذ حقه بأن يتبرأ منهم بدوره كما تبرأوا منه.
أعيد النظر فى كل ذلك ولا أستطيع أن أرد على السائل بما يعفيه من حمل أمانته، ولا أجد أمامى إلا نهيا صريحا عن أن نكون مثل الذين قالوا: “إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ “، وأستغفر الله العظيم، وأتوقف دون أن أرد على السائل خشية أن أقع فيما أنهى عنه.
لست أقصد فى هذه الأيام المباركة أن أفتح الباب لمن لم تصله بعد رسالة أنه “بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره” ، ولست مستعدا أن أرد على من نسى أنه ” وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً “، ولست أهلا لأن أعلن معنى قراءتى لما وصلنى من ” وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى “، كل ما أتصوره هو أنه علىّ أن أحمل مسئوليتى الكاملة عن ما يصلنى من استلهام النص الإلهى المقدس، بحثا عن الطبيعة البشرية فى نفسى، وفيمن يثق أن هذا من صميم حمل أمانة مهنتى، وغاية علمى، وذلك بأن استعمل كافة عقولى، وليس عقلا واحدا، فلا أجد عندى ما أضيفه غير ما قلته أيضا هنا فى مقال أسبق من أن ” … الاسلام الحنيف … بنى على شهادة “أن لا إله إلا الله” وليس على الاعتقاد أو الاقتناع تفكيرا بأن الله واحد، “الشهادة هى حضور إدراكى متكامل بالفكر والوجدان والجسد والحدس والخيال، إن ركن الاسلام الأول هو أن تتفتح مسام وجود الإنسان كلها لتصلها حقيقة التوحيد واقعا حيويا عبر التناغم مع مستويات وعيه إلى وجه العدل تعالى …إلخ
آسف لتكرار الاقتطاف، ولكنه مدخل ضرورى للتنبيه إلى أن الإسلام ، مثل سائر الأديان التى لم تتشوه، يظل نورا معرفيا وسبيلا مفتوحا لكل من يكدح لوجه الحق تعالى، يستضىء بنوره : ” نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ” وأيضا:” أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا“
هل أدعوك عزيزى القارئ (من كل دين، وبعقل سليم) أن تقرأ هذه الآيات الكريمة عدة مرات دون أن تحاول تفسيرها، أو على الأقل تقرأ الآية الأخيرة بكل مسام وعيك وجسدك وعقولك. تقرأها وأنت تستلهم كيف أن الله سبحانه يمكن أن “يحييك” فى هذه الأيام المباركة، (وغيرها) – حتى وأنت ميت، وأن يجعل لك نورا تمشى به فى الناس !
الحمد لله