نشرة “الإنسان والتطور”
15-8-2009
السنة الثانية
العدد: 715
تعتعة الوفد
صدام الحضارات، وصمم بين الثقافات
الندوة الشهرية الثقافية هذا الشهر (7 أغسطس) لجمعيتنا المتواضعة “الطب النفسى التطورى” كانت عن كلود ليفى شتراوس، (الذى جاوز عمره المائة عام بعام واحد، وهو مازال يقرأ بلزاك للمرة الأربعين ويتعلم اليابانية حالا) قدمها إبن جميل، أصبح فرنسيا جدا، ومازال مصريا جدا جدا، هو الدكتور رفيق حاتم الذى يقدم لنا فى إجازته السنوية التى يقضيها بيننا كل عام، ما تيسر من فكر وخبرة من واقع معايشته هناك ما نحن أحوج إلى التعرف عليه، ليس فقط من الكتب.
فرحت باقتراحه موضوع الندوة، ورحت أراجع اختلافى مع شتراوس وحبى له فى آن، (ثلاثة عمالقة أختلف معهم بكل عناد، وأحبهم بكل عمق، وهو أحدهم : الاثنان الآخران هما : كارل بوبر، ونجيب محفوظ)
من أروع ما يميز بعض ناس هؤلاء القوم (أهل الغرب) السابقين لنا فى القوة والتقدم واحتمال التدهور معا، هو قدرتهم على الاختلاف، وجرأتهم فى النقد الذاتى، واستعدادهم للتغير، ينطبق ذلك أكثر على مبدعيهم، وأقل كثيرا جدا على السطات والقوى التى تسيرهم علانية وسرًّا، نحن نأخذ منهم عادة العناوين والشائع دون التفاصيل والمراجعة، خذ مثلا، حكاية فوكوياما وكتابه الخائب عن نهاية التاريخ، أصدره عام 1989 (وكأنه ليس عنده خبر أن يوم القيامة لم تثبت رؤية هلاله بعد)، لكن المتابع يعرف كيف أن فوكوياما طوّر موقفه بشكل له دلالته مؤخرا، فى كتابه اللاحق عن “التصدع العظيم” 1999 بما احتوى من مفهوم جديد أسماه “الرأسمال الاجتماعى” حذّر فيه من انهيار النظام الأمريكى الجديد! ..إلخ، كذلك نحن لم نتعمق فى فكر هانتنجتون وما يعنيه بصدام الثقافات ولو أننا أحسنا فهمه فقد تتغير نظرتنا لصراعنا مع اسرائيل، فقد نكتشف أنهم ورطونا فى صراع بين اليهودية والاسلام ظاهراً، فى حين أنه صراع بين ثقافة التراكم والغطرسة والاستعباَدَ، وبين ثقافة أخرى فقدت معالمها مرحليا، (نحن للأسف) أكثر منه صراع على الأرض، أو على الموارد، (كل هذا يحتاج لعودة وتفصيل.
نرجع لموضوع اليوم: الاختلاف الذى طال أمده بين فكر شتراوس وبين مزاعم اليونسكو منذ عام 1971، ويتعلق بإصرار شتراوس على حق الثقافات المختلفة، حتى الثقافات البدائية فى ما أسماه “صمم بين الثقافات“، بدأ شتراوس الانتباه إلى هذه القضية منذ سفره الباكر للبرازيل، ببن عامي 1935 و1938 حيث أتيح له الاطلاع على أحوال الهنود الحمر، وانتهى إلى أن ثقافة أى مجتمع هى ظاهرة وباطنة، وهى إنما تدرس كما تدرس اللغة، فعادات المجتمع وتقاليده لغة، والأزياء لغة،والمطبخ لغة،….الخ، راح شتراوس يؤكد على حق كل ثقافة في أن تظل «صمّاء» إزاء قِيَم ومنظومات “ثقافة الآخَر”. وهو ما يبدو لأول وهلة ضد زعم اليونسكو بالترويج لنمط واحد (بتوصية النظام العالمى الأمريكى الجديد) من خلال ما يسميه الانفتاح على الآخر، ينبه شتراوس إلى أن من حق أى صاحب ثقافة أن يختلف حتى ليصل الأمر إلى أن يكون متحفظاً وحَذِراً مما يصله من ثقافة الآخر، (وخاصة لو كان هذا الآخر يملك السلطة والسلاح والمال)، ظل شتراوس وفياً لهذه الأفكار وعاد يدافع عنها مرة أخرى أمام اليونسكو سنة 2005،. وهو يكرر أنه: “من أجل الحفاظ على التنوع الثقافي، يتوجب على الشعوب أن تَحُدَّ من التبادلات وتحافظ على مسافة فيما بينها”.
المصيبة أننا حين تصلنا مثل هذه الأفكار، لا نأخذ منها إلا ظاهرها –كما بينت فى أول المقال- وقد نندفع إلى عكس ما أريد بها: إننا بمجرد أن نسمع أحدهم يدافع عن حقنا فى الصمم، ونحن لا ينقصنا الصمم أو العمى والحمد لله، حتى نبرر الجمود والتعصب، دون أن ننتبه إلى مسئولية تطويرنا من واقع ثقافتنا الآنية، لا من أوهام تاريخنا.
الصمم الذى يدافع عنه شتراوس هو لتأكيد التميز، وحق الاختلاف، حفزا للانطلاق الذاتى للالتقاء –على مسافة– بالآخر، الدفاع عن حق الصمم قد يساء استقباله حتى يقسمنا إلى قسمين، فريق يفرح به وينغلق أكثر فى جحوره المظلمه، وفريق يشجبه ويندفع أكثر فى التقليد الأعمى، حتى يمحوا ثقافته تماما، تحت عناوين التنوير والتحرر وما شابه.
هذا الموقف الذى يترجّح بين الشجب المتشنج فالجمود، وبين التبعية العمياء فالتقليد الأعمى هو الخطر الذى نتعرض له من التخلى عن الموقف النقدى المسئول الخلاق.
أحذّر بوضوح أن تنتهى هذه الدعوة إلى حق الصمم، إلى وضع لافتات سلفية على نفس القيم التى ينتقدها أهلها بشجاعة، أو أن تنتهى على الجانب الآخر إلى رفض هذا الحق تماما، ومن ثَمَّ التسليم لبلاهة تنويرية كاذبة
أخشى كذلك أن تبدو مقالتى وكأنها حل وسط مائع لا يقدم شيئا إلا الرقص على السلم، للحصول على رضا السطان العالمى الأعظم، والكذب على أنفسنا
أعيد التنبيه فى هذا المقال إلى بعض ما ذكرت فى المقال السابق من أنه: إذا كان ثَمَّ نظام سيئ هو المطروح حاليا، وليس عندنا – كافة الناس- بديل جاهز، فإن العالم كله ، بثقافاته المختلفة، مكلف – تطوريا وبقائيا بالبحث عن بديل لائق مناسب، لابد أن يجرى البحث بإبداع واعد مثل ما فعل ويفعل شتراوس أطال الله عمره وأدام نفعه.
مرة أخرى استعمال ثقافتنا لحقها فى الصمم بطريقة غبية قد يؤدى إلى التمادى فى فخرنا بالتخلف والاختلاف
ثم إن رفضنا العشوائى للصمم عن ثقافة الآخر لا يعنى الاندفاع إلى التبعية وضرب تعظيم سلام على العمال على البطال، لمن يشكلنا لصالحه، تحت عناوين رشيقة وبراقة.
إن ممارسة الناس لصمم “انتقائى” بين الثقافات، هو تكليف لكل الناس بتحرك نحو الإبداع للإضافة، وليست دعوة خفية للتمسك بسلبيات كل الأطراف.