نشرة “الإنسان والتطور”
25-3-2012
السنة الخامسة
العدد: 1668
تعتعة الوفد
“ساقط رئاسية!”، و..”الشىء لزوم الشىء”.
مهما أخطأ هذا الشعب، أو فوّت أو طنبل، مهما ظلموه وقهروه وأهملوه، مهما صبر وأجّل وأمهل، فهو شعب عريق ظريف.
ظاهرة السبعمائة متقدم للترشيح للرئاسة التى نعيشها هذه الأيام لا تحتاج إلى تفسير نفسى كما يلح أبنائى وبناتى الإعلاميون علىّ طول الوقت، بقدر ما تحتاج إلى تأمل هادئ فى وعى شعبنا البسيط الأعمق.
أنا لا أشك أن عددا من المتقدمين يرون فى أنفسهم ما يليق بالمنصب من حيث أداء الواجب، والتضحية لإنقاذ أمة عريقة بهذا الحجم، وهذا التاريخ، وطبعا بعضهم قادر على ذلك،أما مَن مِنهم بالضبط؟ فسوف أسمح لكل واحد أن يتصور أنه هو بالسلامة. شكرا. وسوف أكتفى بأن أقرأ بعض الوعى الجمعى كما وصلنى من عموم الظاهرة تحت العناوين التالية:
أولا : الشعبية التلقائية وقبول التحدى :
- أخيرا :”نحن هنا”
منذ ستين عاما ونحن لم يترشح لنا رئيس بمعنى “رشَّح يرشـِّح فهو مُرشح، يحتمل النجاح والفشل”. الذى كان: هو أن القدر (يعنى الحزب أو العسكر أو الثلة أو أصحاب المال جدا..) كان يعيّن لنا الرئيس المرشح، أى المنتخب، أى المفروض بداهة، قبل الهنا بسنة، ثم يسمح من باب الفكاهة أو الديكور الفاتر أو تحصيل الحاصل أو تزجية الوقت، أن يظهر اسم شخص هناك أو صورة مشاغب فى الهامش، ومع أن مثل هذا المشاغب يعرف ويقسم أنه “ليس قصدُه”، وأنه “بيهزر”، إلا أنه لا يخلوا الأمر من عقوبة وسجن لأنه خرج عن النص، بقصد أو بدون قصد.
هل نستكثر على شعب مثل شعبنا أن يقول أخيرا “أنا هنا” ولو بهذه الصورة الكاريكاتيرية؟ ألم يعايرونا أنه لا يوجد بديل للحاكم الموهوب الأوحد؟ هذا الإقبال هو بمثابة إعلان بسيط من الشعب يقول إن الرسالة وصلت، وأن الباب مفتوح للجميع، بل “لكل من هب ودب”، ولمَ لا ؟؟؟
- ” واللى عاجبه”
ثم إن لسان حال بعض المتقدمين لا بد أن يردد على مستوى ما من مستويات وعيه، أنه بترشيحه يثبت لنفسه أن رأسه برأس أكبر كبير، وأن ما منعه عن الترشيح سابقا لم يكن ترددا، أو تقاعسا، أو قلة كفاءة، ولكن الذى منعه كان قهرا غبيا، تحت ستار قانون معد بالمقاس لأصحابه، وأنه ما أن لاحت الفرصة حتى انطلق ينتهزها وينبرى للقيادة، لا يعوقه كسل أو خجل أو تأكد من فشل، ولسان حاله يقول: “واللى عاجبه”
- … “وما حدش أحسن من حد”
عدد آخر من المتقدمين يرشح نفسه لأن فلانا الأقل منه كفاءة فى كذا وكيت كيت قد تقدم يرشح نفسه، و”ما حدش أحسن من حد”
- “ساقط رياسية” (احتياطى):
فريق رابع تقدم ليثبت فى تاريخه الشخصى (C.V.) حدثا يمكن أن نطلق عليه “ساقط رياسية”، تماما مثلما كان يحدث فى الثلاثينات والأربعينيات من القرن الماضى حين يتم تعيين الموظفين الأصغر فى مكاتب البوسطة، أو محطة الدلتا، فى بلدنا، بمؤهل يسمى “ساقط ابتدائية“، ولا يحتاج المتقدم لشغل هذه الوظائف سوى أن يتقدم بما يثبت أنه تقدم لامتحان الشهادة الابتدائية، بغض النظر عما إذا كان قد اجتازها بنجاح من عدمه، علما بأن من عرفتُ من هؤلاء كان مستواه فى القراءة والكتابة والحساب (والسياسة طبعا)، أفضل من كثيرين من حاملى بكالوريوسات هذه الأيام، فإن صح هذا القياس على ما يجرى حاليا، فإن بعض حاملى هذه الشهادة “ساقط رياسية” ربما يركزون من تحت لتحت على الفرص التى سوف تتاح لهم مع تطور سياسات أمريكا التفكيكية، فليس من المستبعد أن تشترط الولايات المتحدة وحلفاؤها الماليون المتلمظون أن يكون رئيس التفكيكية الثورية القادمة “ساقط رياسية”، للتأكد من سذاجته وطاعته وبُعده عن السياسة وجهله بالاقتصاد، وبالتالى ضمان قيامه بأدوار جديدة تعد له بالمقاس فى التفكيكيات القادمة المصنوعة على مقاسه؟
- أسباب شخصية غامضة متنوعة
عدد آخر من المتقدمين لابد أن عنده أسباب عائلية، أو عقلية، لا أعرفها، لكنها – بترجيح منى – محترمة جدا. فى عيادتى المجانية فى قصر العينى حضر مريض بسيط فى العقد السادس(معاش مبكر!) كان من أعراضه حسب روايته، وبتأكيد أهله، أنه رشح نفسه فى انتخابات مجلس الشعب السابقة، فى حى شعبى فى القاهرة، ولم يحصل إلا على مائتا صوت، وكان غير نادم على ما فعل، وحين لمحت أنه على قدر حاله جدا، سألته عن تكاليف هذا الترشيح وهو يكاد يعلم النتيجة، لكنه لا هو ولا قريبه ردوا على سؤالى، وحين ألححت فى السؤال قال لى، “وانت مالك؟ هوا انا خدت حاجة من جيبك؟”
ثانيا : الحالمون المثاليون
تضم هذه المجموعة عددا من الحالمين بمثاليات زمان أو يوتوبيات الغد، وكثيرا من البكائين على القيم والأخلاق، المتعاطفين مع الثائرين والثائرات، وهم يتصورون أنهم قادرون على أن يعيدوا لمصر قيمها الأصيلة، بما أن مصر كانت فجر الضمير. هذه المجموعة لا تحسبها بحساب المكسب والخسارة، وأغلبهم لا خبرة له بالسياسة، وعلاقته بكتلة الشعب الناخبة، ونبض الشوارع الداخلية، والحوارى الجانبية، علاقة ضعيفة، يحصل عليها من القراءة، وربما من المجلس الأعلى للثقافة، وبديهى أن تكون خبرته بألاعيب ومناورات السياسة الحقيقية شديدة التواضع، خصوصا على مستوى العالم، وأغلب هؤلاء لا يخدع أحدا، فهو يتصور أنه بمثاليته قادر على ملء الفراغ المزعوم الذى كان يبرر ذلك البقاء الجاثم القبيح
ثالثا : المهدى المنتظر فينا جميعا
هذه الظاهرة لا تخص مجموعة بذاتها، فأى واحد أو واحدة يتصدى لاحتمال أن يقود شعبا مثل شعب مصر له تاريخه، ومصاعبه، وغرابته، وقوته، وضعفه، وما رزح تحته، وما آل إليه هكذا، لا بد أن يحوى فى داخله (أو خارجه) أملا، أو حلما، أنه قادر على أن يأتى بالمعجزات لهداية ليس فقط ناس مصر، بل البشر جميعا بعد ما آلوا إلى ما آلوا إليه. ليس بالضرورة أن يكون هذا الأمل أو هذا الحلم ظاهرا فى تصريحاته، أو مسجلا فى برنامجه، بالرغم من احتمال أن يكون كامنا فى مكان ما من تكوينه البشرى العادى (ومن منا ليس بداخله مهدى منتظر؟)
رابعا: مكافأة نهاية الخدمة
هذه المجموعة الأخيرة تشمل عددا من الكفاءات المتنوعة ذات التاريخ الناجح كلٌّ فى مجاله، بعضها فى مجالات كانت بعيدة عن السياسة بدرجات مختلفة، ثم وجد نفسه – فى قرارة نفسه– لم يحقق، برغم نجاحه فى مجاله الأصلى، ما كان يأمل أن يحققه، أو ما كان مفروضا أن يحققه، وبالتالى يتقدم للترشيح بأمل غامض فى الفوز برئاسة الرئاسات، بمثابة مكافآة نهاية الخدمة، وكأنها قفزة ترقية مفاجئة، لا أقول يسلى بها نفسه فى المعاش، ولكن يعوّض بها ما فاته.
التصفية النهائية
برغم كل هذه التصنيفات للدوافع والأحوال إلا أنه لن يفوز من كل المجموعات السابقة أحد، حتى لو تحقق لبعضهم بعض ما أراد ظاهرا وباطنا من ترشيحه، فعلينا أن نتقدم لهم جميعا بالشكر الواجب، فقد عبروا بذلك عن معظم فئات الشعب، وضحوا بالوقت والمال (ربنا يعوّض عليهم) وهم يعلمون تمام العلم أنهم لن يفوزوا، ومع ذلك ترشحوا، وصرفوا، وصبروا، وتحدوا، وأمِلوا، وقبلوا الهزيمة (أعنى سوف يقبلون الهزيمة) بصدر رحب وشجاعة ديمقراطية تكتب فى رصيدهم واحدا واحدا
أما الذى سوف يفوز بالسلامة، فهو الذى سوف تتفق عليه الكتلتان الرئيسيان فى مجلس الشعب والشورى، أيا كان، مهما كان !!
فلماذا كل هذا التعب بالله عليكم ؟
لكن عندك: لعل فى ذلك بعض الفائدة إذ قد قد يقدّم لنا ضمنا بعض معالم مما يسمى “قياس الرأى العام”، حين نعرف عدد الأصوات التى سوف يحصل عليها كل مرشح، وما يعنيه ذلك حالا ومستقبلا.
آسف، ليس تماما، فهذه الأصوات إنما تمثل رأى الصناديق، لا الرأى العام، ولا الوعى الجمعى، أو لعلها لا تشير– ونحن فى هذا الحال من الغياب- إلا إلى موقع الدين الحقيقى أو المصنوع عند العامة، فهى لا تمثل حقيقة قبول التحدى المالى العالمى، ولا حركية برامج نجاح بقاء النوع البشرى، ولا ضمان التصحيح الوطنى اللازم للفساد، ولا خطط الاقتصاد المستقل القادر، ولا إفاقة التعليم الجاد المستمر، ولا حفز الإبداع الضرورى المأمول، ولا معام الحضارة القادمة، فما الحكاية إذن؟
لو صح كل هذا، فما الداعى لهذه الانتخابات أصلا؟
قالْ لـَكْ : “الشىء لزوم الشىء”
و”الرئاسية لزوم الديمقراطية” !!