نشرة “الإنسان والتطور”
4-3-2012
السنة الخامسة
العدد: 1647
تعتعة الوفد
ثقافة الحرب: أصل كل الثورات
خلال سنة 2010، وفى أكثر من مقال فى أكثر من صحيفة، حاولت أن أكتب لأوضح الفرق بين معاهدة كامب ديفيد، الشهيرة بمعاهدة السلام، والتى لا أنكر أننى رحبت بها باعتبارها وثيقة الاستسلام الشجاع المؤلم الصعب، كتبت أوضح الفرق بينها وبين ثقافة السلام التى رفضتها من أول ثانية وحتى آخر العمر، وهى التى تحرص عليها تل أبيب طول الوقت.
من البداية أدركت، ولو وحدى بصفة شخصية، أنه بتوقيعنا هذه المعاهدة قد بدأنا حربا طويلة المدى لا تنتهى، لذلك كان اعتراضى طول الوقت على حكاية التصريح بأن حرب 73 هى آخر الحروب، واستبعدت أن يكون هناك بند فى المعاهدة بهذا النص، ورجحت أنها من تصريحات فلاحنا المصرى اللئيم “أنور السادات”، حتى “يقصّر ويلم المتكسر”، كما نقول فى بلدنا، ويبدو أن الأمريكيين قد التقطوا طبعه هذا، فلم يطمئنوا لخطواته التالية، وقتلوه (ولكن دع ذلك جانبا فله حديث آخر وأدلة أخرى).
حين رجحت أن هذا التصريح هو مجرد مناورة كلامية من فلاح منوفى يمارس اللؤن الفلاحى (يعنى اللؤم باللغة العربية) فى الولايات المتحدة، أعلنت بينى وبين نفسى، وللمقربين منى البدء فى المشاركة فى تعهد نشر ثقافة الحرب، وكتبت فى ذلك كثيرا لأميز بين إعلان الحرب، وخوض الحرب، وبين ما يسمى ثقافة الحرب، وهى العيش طول الوقت فى يقظة متحفزة، وتحد متجدد، وغضب جاهز، وبناء فى كل المجالات، هذه هى ثقافة الحرب، ومع ذلك كلما تكلمت مع أحد فى ذلك، صاح بى: هل تريد أن تخرب بيتنا من جديد ونصرف قوت يومنا ورزق أولادنا الذى نحصل عليه بالكاد على الفلسطينيين والعرب مرة أخرى؟ !!
عاودتنى كل هذه الأفكار هذه الأيام وأنا أفتقد ثقافة الحرب طوال العام الماضى الذى يمكن أن يسمى عام الثورة ، من أول ميدان التحرير حتى مجلس الشعب الجديد، وقبل أن أشير إلى ذلك اسمحوا أن أكرر بعض ما حاولت إيضاحه قبلا:
كتبت ف 5 مايو 2010 فى تعتعة الدستور ما يلى:
ثقافة الحرب هى معايشة برنامج “البقاء التآمرى” بدرجة ما من الوعى، وهو البرنامج الذى حافظ على جميع الأحياء التى نجحت أن تبقى حتى الآن”. ……… “ثقافة الحرب هى حالة الوعى التى تلزمنا بالوقوف طول الوقت فى حالة استعداد دائم، بل وإقدام جاهز للحرب المستمرة بكل أشكالها، ليس فقط فى مواجهة هذه الثلة الطاغية (من الجيران المتوحشين) ، ولكن لنحارب معا كل القوى التى تهدد بقاء الجنس البشرى “معا”.
ثقافة السلام (بغض النظر عن معاهدة السلام، أو وثيقة الاستسلام) هى أن ننخدع فنصدق أنه لم تعد بنا حاجة إلى شحن وعينا طول الوقت بأنه على بعد خطوات منا وحش مفترس، يملك سلاحا ذريا، ودعما دوليا متآمرا، يقتلنا ويطردنا يوميا من فوق أرضنا ثم من فوق الأرض كلها. المطلوب منا – حتى نعيش ثقافة السلام !!– هو أن نسترخى، ونأخذ بالأحضان هذا الصديق الجار المسالم الذى يحتفظ بالقنابل الذرية ليرصها ديكورا فى صالات المفاوضات، ويزين بها ممرات محافل مؤتمرات القمم العربية……
ثم حاولت فى الأسبوع التالى فى نفس الصحيفة أن أؤكد التفرقة بين ثقافة الحرب وخوض الحرب وإعلان الحرب قائلا : (أن) … أكره الحرب كره العمى، عادى، وفى نفس الوقت أدعو لـ: “ثقافة الحرب” التى هى ليست “فعل الحرب”، ولا هى “حب الحرب”، ولا “اختيار الحرب”، ولا “إعلان الحرب”، … وشعرت من الأصدقاء وبعض القراء أن الأمور ما زالت غامضة، فاستشهدت بصلاح جاهين فى رباعيته التى يقول فيها
على رجلى دم .. نظرت له ما احتملت
على إيدى دم .. سألت: ليه؟ لم وصلت
على كتفى دم وحتى على راسى دم
أنا كُلِّى دم .. قتلت؟ .. والا اتقتلت؟
(وأيضا:)
من بين شقوق الشيش وشقشقْت لك
مع شهقة العصافير وزقرقْت لك
نهار جديد أنا .. قوم نشوف نعمليه
أنا قلت يا ح تقتلنى .. يا ح اقتلك
ثم أضفت:
البديل عن “ثقافة الحرب” وهو المطروح على الوعى العربى حيث يقع الوعى المصرى فى بؤرته، هو ما يسمى “ثقافة السلام”، ولا أقصد معاهدة السلام (أكرر: التى أيدتها بكل وضوح، وأنا ممرور بكل قسوة)، المطلوب بما يسمى ثقافة السلام هو أن نتآخى مع عدو يحمل لنا كل هذا الاحتقار والتهوين، وهو يحتفظ لنفسه بكل الفخر الآنى والتاريخى، والتميز الدينى، والقنبلة الذرية وأدوات التجارة والاستغلال، نتآخى معه لأن هذا هو غاية المراد من الهزيمة فالمعاهدة معا حسب توصيات سادة العالم، ليستمروا فيما هم فيه وأكثر وأثرى وأعتى، ونستمر نحن فيما نحن فيه وأذل وأدنى، والاسم “سلام”. نجيب محفوظ بمجرد أن أعلن موافقته على معاهدة السلام، بدأ فعلا حربا أخرى وفورا، ..” تحرك داخله الإبداعى ليعلن بداية الحروب التى لا تنتهى (عكس ما أشيع أن حرب 73 هى نهاية الحروب) فكتب رواية ليالى ألف ليلة” التى قمت بنقدها بعنوان “القتل بين مقامى العبادة والدم”..
ثم حدث مؤخرا ما حدث: قام الشباب ببدايتهم لعمل ثورة فى 25 يناير 2011، قلت هذه بداية صحوة ترجعنا إلى ثقافة الحرب، لكننى حين رحت أبحث عنها وقد افتقدتها منذ عقد معاهدة الاستسلام القوى المؤلم التى كانت –عندى- مرادفة لإحياء ثقافة الحرب، رحت أبحث عنها فيما يجرى مؤخرا فلم أجدها بالقدر الكافى، بل حلت محلها حروب صغيرة قبيحة هى ثقافة التقاتل بين أفراد وجماعات نفس النوع، وليست ثقافة الحرب للبقاء، وكان آخر ذلك حين تعرت البدائية فى بور سعيد، بما لا يحدث أصلا بين أى فصيل وآخر من الحيوانات من نفس النوع، وسبق هذا ولحقه بعض ما حدث فى ماسبيرو والعباسية ومحمد محمود ومجلس الوزراء ، هذه ليست ثقافة الحرب بل ثقافة الثأر والفناء والانتحار، فكتبت فى جريدة المصرى اليوم الخميس 5/5/2011، بعنوان ثقافة الحرب و”مليونية التحرير ما يلى :
” …….. لمصلحة من نطلق كل هذا العدوان على بعضنا البعض حكومة وشعبا؟ وهل كان هذا مدبرا من البداية؟ ” …”رحت…أسترجع الهتافات والشعارات بدءا من ميدان التحرير، وحتى مسجد النور، امتداداً إلى قنا جنوبا والإسكندرية شمالا، ولم أجد بقدر كاف ما يذكرنا بالعدو الحقيقى، أو يشرح موقفه، أو ينقده، أو يعدد ما سوف يعود عليه من فوائد من حصيلة كل هذه الفوضى غير الخلاقة، والحروب المحلية غير الأخلاقية والخراب الاقتصادى الزاحف.
ولكن أخيرا عاد ذكر إسرائيل يظهر فى زيار هنية للأزهر منذ أيام، وفرحت، لكننى خشيت أن يكون ذلك بمثابة التحية الواجبة لا أكثر، ورحت أمنى نفسى أن تنقلب الهتافات إلى ثقافة تشتعل ولا تهمد، فتظل الصحوة جامعة، لأن الخطر محيط وزاحفا؟
إن عدم توجيهنا ثقافة الحرب إلى العدو الحقيقى يجعل العدوان يرتد إلينا فنمارس ثقافة الانتحار بالتقاتل فيما بيننا. إن لم ننتبه إلى صاحب المصلحة المحتمل فى نشر كل هذه الفوضى، ونحن نستعيد أولويات المستفيدين من خرابنا وفرقتنا فلا ثورة، ولا نهضة، ولا حضارة.
برغم ما لاح فى الأفق بهذه الزيارة التى فرحت بها فرحا حذرا أذكركم مرة أخرى باختفاء اسم إسرائيل من الميدان والشارع إلا ما ندر، مقارنة بتقديس قيم وطقوس الدين العوْلمى الجديد، تحت مسميات مستوردة مثل الديمقراطية المشبوهة، والمنظمات الممولة؟ لماذا تتكرر التصريحات من أغلب مسؤولينا من أول رؤساء الوزارات إلى المجلس العسكرى، إلى مرشحى مجلس الشعب، إلى مرشحى الرئاسة، وأخيرا إلى مجلس الشعب نفسه بالتعهد بالالتزام بالمعهدات الدولية جدا جدا؟
بحثت عن ثقافة الحرب بالمعنى الإيجابى فى ميدان التحرير فلم أجدها كما تصورتها فى كل كتاباتى عنها، ثقافة الحرب هى التى تستوعب طاقة الغضب فى عدوان بناء، وهى غير وغدنة القتل، وأيضا غير صرخات الثأر، بل هى ضد كل هذا.
أكرر:”… ثقافة الحرب هى وعى جماعى حاد بتهديد البقاء أصلا، بما يستلزم أمرين: فرط الانتباه، ومثابرة الفعل، ويبدأ فرط الانتباه بتحديد «من هو العدو الحقيقى»، ومن يقف وراءه، وكيف يهمه تحطيمنا بدءا بالترويج لثقافة الاسترخاء، وليس انتهاء بالفوضى العشوائية المدمرة للذات.
كنت أنتظر أن تحفزنا مثالية الشباب إلى العودة لقبول التحدى أكثر فأكثر فى مواجهة عدو حقيقى يذكرنا بالخطر الحقيقى، حتى لو كان علينا أن نتخلص من الفساد تماما، وهذا واجب لا غنى عنه، لكنه لا ينبغى أن ينسينا أن العدو الأول هو العدو الأخطر.