نشرة “الإنسان والتطور”
18-3-2012
السنة الخامسة
العدد: 1661
تعتعة الوفد
الكذب المصرى الساذج، والصدق الأمريكى القاتل
اعتدت، أن أرفض الإجابة على الأسئلة التى تلح على ما يسمى “التفسير النفسى” للأحداث الجارية، وخاصة السياسية، سواء كان ذلك ردا على أسئلة يتقدم بها شباب الإعلام المتحمسين، أم كان فى لقاء مسموع أو مشاهد، فإذا أصر السائل فإنى أؤكد أننى أقول رأيا اجتهاديا وليس تفسيرا علميا أو تحليلا نفسيا، ويزيد هذا التحفظ حين يكون السؤال عن شخص معين، وبالذات عن شخصية عامة، حالية أو سابقة، ويزيد الحرج حتى الرفض الحاسم إذا كان الأمر معروضا على القضاء، وليس بين يدىّ المعلومات الكافية التى تسمح بإبداء رأى موضوعى، ويظل التحفظ قائما حتى إذا كان السؤال أكثر عمومية ولا يرتبط بشخص بذاته، مثل: “ماذا حدث للمصريين؟ ماذا حدث للشباب؟ ماذا حدث للأخلاق فى الفترة الفلانية وخاصة بعد يناير، وكلام من هذا.
طبعا توجد استثناءات لهذه القاعدة التى ألزمت نفسى بها، مثل هذا الحادث الخاص بمواطن مصرى أصبح نائبا عن دائرته وعنا، حيث وصلنى بما به من الغرابة فى ذاته، بما احتاج منى إلى كسر هذه القاعدة ومحاولة التفسير كما يلى:
هو حادث غريب: أن يبلغ نائب محترم نجح أن يكسب ثقة أهل دائرته ويمثلهم بلا تزوير معلن ولا طعن غالبا، كما سمعت أنه نجح أن يشارك فى بداية جلسات مجلس الشعب مشاركة إيجابية بشكل ما، يبلغ هذا الشخص عن نفسه بلاغا كاذبا لا يبدوا فيه أى مكسب شخصى واضح، فهو ليس حسنى مبارك يستدر عطفا، ولا هو متهم فى فساد حالى يريد أن يعفى نفسه من مسئوليته، ولا هو يريد أن يلفت النظر أنه مستهدف ومهم،..إلخ، ثم تزداد الغرابة حين يتقدم نفس هذا الرجل بكل طيبة المصرى الساذج، وربما بشجاعة المؤمن التائب، ويعترف بخطئه هذا صراحة لأهل دائرته وحزبه، وزوجته، وطبيبه، ..إلخ، ألا يحتاج كل ذلك إلى تفسير من واحد مثلى؟ ولو على سبيل الفرض؟
خطر لى تفسير بسيط مباشر، فضلت أن أؤجله حتى آخر المقال، لأنه لم يكن مقنعا لى خاصة بعد أن صرح السيد النائب أنه ربما كان تحت تأثير المخدر، ففضلت أن أبدأ بالفرض الأصعب والأعقد. وهذا الفرض يحتاج إلى تمهيد علمى مهنى أود أن أطرحه ابتداء:
ذلك أن موقفى من عمليات التدخل فى ما خلقنا الله عليه، من أول تجميل الوجه (إلا بعد إصابة) حتى تغيير الجنس، هو موقف الرفض المطلق، فأنا أفهّم مريضى الذى يطلب موافقتى على مثل هذا التغيير (أو التجميل) أن المشكلة عادة ليست فى شكلنا الظاهر، وإنما فيما نسميه “صورة الجسم”، التى هى إحدى تجليات “صورة النفس”، وأن تغيير الشكل الظاهر بالجراحة عادة، لا يغير شيئا من هذا أو ذاك، بل قد يزيده تشويها، لأنه يضاعف التناقض المحتمل بين الصورة القديمة القابعة داخلنا والتى لا تخضع لمشرط التجميل، والصورة المراد تشكيلها افتعالا، وأن الجمال ليست له مقاييس عامة محددة، علما بأننى أنتمى إلى رؤية الجمال فى أى مما خلق الله، فهناك الجمال الأسود، والجمال البدائى، والجمال الشرق أدنى، بل وهناك جمال القبح (أو ما يسمى قبحا أحيانا)، بعض مرضاى يقتنعون، والبعض الآخر يصر على رأيه، وفى معظم الأحيان، سواء اقتنع صاحب طلب التغيير أو لم يقتنع، يكون هناك فى داخله “الرأى الآخر”، (بل الشخص الآخر) الذى لا يوافق على قرار التجميل، بمعنى أن من يصر على تغيير شكله أو نوعه، يكون فى داخله”ذات أخرى” تعارض ذلك.
استلهاما من هذه الخبرة خطر لى تفسير موقف النائب الساذج هكذا:
الأخ النائب البلكيمى مصرى طيب، متدين، كريم ، ودود، محبوب من أهله والمحيطين، غالبا (بأمارة أنه نجح)، وجد نفسه فى موقع فيه “تصوير”، و تليفزيون كان غاية مناه أن يتفرج عليه لا أن يظهر فيه، لكنه بفضل الله، والذى كان، ظهر وخطب، فانتبه إلى ما كان قد نسيه أورضى به من أيام المراهقة، وعاد يركز على قطعة زائدة فى مقدمة أرنبة أنفه، ولعل بعض المحبين قد لاحظها بشفقة، وأيضا لعل بعض الحاقدين قد علق عليها بسخرية، فأشار عليه أى من هذا الفريق أو ذاك بالتخلص منها، “حبا” أو “مقلبا”، فقرر النائب المحترم أن يسمع النصيحة، ويعملها، فعملها طائعا مختارا، وكان يظن أن المسألة سوف تنتهى عند هذا الحد، ويا دار ما دخلك شر، لكن يبدو أن الدار (النفس) دخلها شر، فقفزت ذاته الأخرى (اسمها أيضا البلكيمى) هى الأكثر تدينا والتزاما، قفزت ترفض وتنكر كل ما حدث، وتعتبره ليس إلا عملية تغيير لخلق الله، فهى تشويه وليست تجميلا، فيشتد الصراع بين الذاتين، حتى يحدث انشقاق فى الوعى (هذا ما أسماه البلكيمى بحدسه أو بجهله: تأثير المخدر)، فراح يعلن – باسم الذات الرافضة – أنه قد تم اقتحامه وتشويهيه…إلخ، وكأنه يعلن واقعا داخليا، بمعنى أنه قد تم اقتحامه من داخله الأتقى الذى اعتبر التجميل تشويها، حيث أنه تحوير لخلقة الله تعالى، وتم الإسقاط، فجاء الإعلان -بعد التفعيل والإسقاط- على أنه جريمة اقتحام خارجى، وأنه تشويه، فلم يتردد فى إبلاغ الجهات المسئولة عن الجريمة، ثم أفاق بعد الهجوم والتجريح …إلخ.
ليس معنى ذلك أننى اعفيه من مسئولية ما حدث، فالانشقاق ليس مرضا عقليا فى معظم الأحيان، وأى مريض نفسى أو عقلى حتى – إلا ما ندر – هو مسئول عن كل أفعاله الصادرة من أى مستوى من مستويات وعيه ما دام أنه لم يكن ذاهب العقل عاجزا عن التمييز لحظة الفعل، ثم إننى أنتمى إلى مدرسة أن المرض النفسى، حتى فى أشد صوره هو اختيار داخلى بشكل ما، وما بنى على اختيار فهو اختيار، إذن فهو مسئول مسئول مسئول، وإنما خطر لى هذا الفرض احتراما لما وصلنى من تألمه، وليس تبريرا لفعله، تألم حتى صرح لجريدة الشرق الأوسط اللندنية “إرحموا من فى الأرض”..ثم جاء فى تصريح حزبه لمسة إنسانية أيضا بأنه ينبغى أن نلومه وقد نعاقبه، لكن علينا ألا ننسى أنه إنسان أخطأ.
وجدت أيضا أنه ربما يكون فى قبول هذا الفرض تنبيها لمن انتهزها فرصة ليهين، ويعمم، وهو يسخر من الرجل، وحزبه، ودينه، وتوجهه، وكأنه بهذا التصرف لا يمثل إنسانا أخطأ وتاب، بل باعتباره سياسيا يمثل تياراكاذبا فاشلا منافقا مخادعا، ليس له إلا فى التجميل والمظهر دون السياسة والاقتصاد والإبداع والأخلاق، مع أن حزبه يمكن نقده بمواجهات موضوعية وعملية لا تحتاج إلى هذه الحادثة، ولا إلى هذه الانتهازية، صحيح أن الحادث سخيف، والكذب عار، ومن حقنا أن نعقب على هذا وذاك، ولكن ليس بانتهاز الفرصة وتعميم الإهانة، الأوْلى أن تكون فرصة نراجع فيها حدود ديمقراطية الصناديق، ومدى طيبة وسذاجة من يمثلونا، وطيبة وسذاجة من انتخبوهم، ثم نأمل، ونعمل على أن تهدينا الممارسة والأخطاء والتعلم إلى تخطى القياس بهذه المقاييس السطحية التى وضعت مثل هذا المصرى الطيب، فى هذا الموضع المسئول، هكذا.
الفرض الثانى الأسهل، جاء فى اتجاه عكسى: وهو أن هذا الرجل المصرى الساذج، أحل لنفسه أن يتجاوز بعض ما كان يكرهه تدينا، فرأى أن يحترم منظره فى التليفزيون ما دام قد أصبح شخصا عاما، وذلك بألا يفرض على الناس أرنبة أنفه كما هى، فقرر وبكامل وعيه أن يتخلص منها، وبعد أن نجحت العملية بالسلامة، اكتشف فجأة أنه أخطأ، وأن من سيلقاه –محبا أو كارها – قد يستغربه، وقد يسأله عما تغير فيه، وأنه سوف يخجل وهو الشيخ الجليل أن يعترف أنه عمل عملية تجميل مثله مثل أية راقصة تكبر أو تصغر ثدييها، وأنه يستحسن أن يجد حجة يبرر للسائل اختفاء أرنبة أنفه، فابتدع هذه القصة بحسن نية، باعتبار أنه أثناء تضميد وجهه من الاعتداء، اضطر الجراح أن يزيل الزيادة فى هذه الأرنبه، وخلاص.
برغم أننى أقل اقتناعا بهذا الفرض الثانى، إلا أنى وجدته أسهل، وأقرب للفهم، ولكنه لا ينفى أيضا عن هذا المواطن المصرى الساذج صفتىْ الجهل والكذب.
نرجع مرجوعنا لمجلس الشعب، ومستوى الناخب، ومستوى النائب، فأركز أن يكون شجبنا لهذا التصرف هو أساسا لرفض الكذب سواء كان شعوريا أو لا شعوريا، أو لعلنا نتعلم كيف نقول الحقيقة بطريقة تنجينا بالسلامة، ولنا فى الرئيس كلينتون أسوة حسنة، فهو لم يكذب فى اعترافاته أمام الكونجرس، وراح يشرح نوع الممارسة التى مارسها مع الآنسة مونيكا، فنال البراءة ولم يُجرّس لصدقه كما لم يدن لممارسته، وبقى فى منصبه حتى رحل بكل ذكاء، لأنه لم يكذب فى شرح تفاصيل الممارسة، لكن أحدا لم يؤاخذه على كذب أخبث وأخفى، كذب أورثه للنسخة السمراء المسمى “أوباما” حليف اسرائيل و”منافق الإسلام”، ليكمل بالتعاون مع السيدة كلينتون – زوجة الراحل!! – مسيرة الكذب الأخطر، والأقتل من كذب البلكيمى ألف مرة.
متى تتعلموا أيها السادة النواب والناخبين أصول الديمقراطية المستوردة المعدّلة؟؟
(حتى لون أوباما الأسمر كدت أعتبره كذبا لزوم تسهيل المهمة!!).