نشرة “الإنسان والتطور”
10-7-2011
السنة الرابعة
العدد: 1409
تعتعة الوفد
الاقتصاد أولا، والإبداع دائما
“هل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟” وقياسا عليه أقول “وهل يصلح “الثوار” ما أفسد القهر؟ الإجابة عن السؤال الأول هى النفى المبدئى، للتنبيه على تجنب الحلول التسكينية وإعطاء فرصة للوقت (حتى فى التطبيب النفسى). أما الإجابة على السؤال الثانى فهى بالإيجاب إذا أحسنا ترتيب الأولويات، وأيضا إذا احترمنا عامل الزمن، وملأناه بما ينفع، فتكون ثورة حقيقية، نحميها من القراصنة والإجهاض.
ليكن الدستور “أولا” أو “ثانيا” أو “أخيرا”، ليست هذه هى القضية، ولا ينبغى أن تكون، لأن لمن “على نفسه بصيرة”، يعرف أنه مهما ألقى معاذيزه، فهو أدرى بما يعمل كما علمنا رب العالمين. التركيز على الوقوف عند الشكل هكذا يبرره حذرهم من أن يُسْتعملوا كمجرد أدوات لتحقيق النتيجة المرسوم لها، وهم يرجحون الهدف من وراء هذا الإصرار على ترتيب مسبق لغرض معين، ليكن، لكن ذلك لا يبرر التوقف عند هذه المرحلة، لأنه لو امتد بهم البصر قليلا، لوجدو أن الديمقراطية جاهزة قادرة على ما تشاء وقتما تشاء حتى لو جاء الدستور “أولا” طبق الأصل كما يريد المطالبون بذلك، فإن الفريق الآخر لن يعدم، أن يحقق ما يريد لاحقا، وبالقانون، وبالدستور الجديد.
لقد آن الأوان أن نعمل على ترتيب أولوياتنا الحقيقية، حكومة وشعبا، بشكل مسئول وعملى، نحن الآن فى مواجهة أزمات “بقاء” و”تثوير” وتحديات “وجود”، الثورة لا تكون ثورة إلا إذا واجهت مسئوليتها الممتدة إلى عقود أو قرون، كل ما جرى حتى الآن هو ترتيب أوراق لبناء دولة، تتيح للناس المصريين (فكل الناس) بناء حضارة جديدة قادرة على أن تسهم فى بناء الإنسان الحديث المهدد بالفناء بتصرفات قوى عالمية ومحلية لا تنظر إلا لموقع أقدامها، حيث تتراكم أكوام المال المفرغ من توظيفه لصالح الناس، وهو يعلو فى أمواج هادرة تكاد تصبح طوفانا سوف يغرق الأقرب إليه فالأقرب!!
بعد أكثر من مائة يوم على البداية، علينا أن نسارع فورا ومن كل موقع، وبأى ترتيب، أولا وثانيا وثالثا، إلى “بناء دولة” (قضاء عادل، وشرطة مسئولة، وجيش قادر، وإبداع متجدد، وعلاقة بالطبيعة والمطلق إلى وجه الحق تعالى) وبناء أمة (احترام شامل، وفرص متساوية، وكرامة محفوظة وتقييم موضوعى، وتكافل المختلفين)، لتكون ثورة يحكى عنها التاريخ بأكثر من التصفيق، وأبلغ من حوارات التوك شو من مدرجات المتفرجين.
مرور الوقت ونحن نتحرك فى الهوامش “محلك سر” لا يفيد حتى فى الوفاء بمتطلبات مستوى
الضرورة”، وهو الذى ينبغى أن نوفره حتى نتمكن من الانتقال إلى مستوى “الحرية” ، هذا هو الترتيب الأولى بالعناية. ليس معنى هذا أن نتنازل عن الحرية ولو مؤقتا، فكفانا تنازلات، لكن معناه أن علينا أن نعيش أولا، ثم نكون بشرا.
لا شك أن هناك مبررا للشك فى سوء النوايا، وفى نفس الوقت توجد مبررات للعشم فى حسنها، فكل فريق يحرص على اختيار فرص أفضل فى اللعب، وهو يحسب خطواته بما يحقق أهدافه، لكن لاينبغى أن يختص بهذا الحق على فريق دون الآخر، من هنا جاءت مشروعية إثارة النقاش حول الوسيلة التى توصل هذا إلى مأربه دون ذاك، لكن علينا أن نتذكر نموذج دور الشطرنج وأنه ليس المهم من الذى ينقل النقلة الأولى، وإنما المهم من الذى ينهى الدور لصالحه.
دعونا نفترض أن هذه الحملة الشبابية الصفوتيه التنويرية المليئة بالحماس والمنطق قد نجحت فعلا أن تقدم الدستور على الانتخابات، لكن يظل الدستور الذى أتى “أولا” هو نتاج جهد لجنة تسمى “لجنة إعداد الدستور” التى قد لا تختلف كثيرا عن لجنة “تعديل الدستور” سابقا، فنحن لا نعرف هل تعلم المسئولون من تشكيل اللجنة الأولى طريقة افضل لتشكيل هذه اللجنة المقترحة أم لا، ومع ذلك لنفترض أن هذه اللجنة جاءت ممثلة لعموم الشعب المصرى وكفاءاته، (لست أدرى كيف؟ بالتعيين؟ أم نعمل استفتاء على أعضائها قبل تشكيلها؟ أم ماذا؟) فنحن لن نستورد أعضاء اللجنة من الأمريكيين القتلة صانعى ديمقراطيات التصدير، ولا من الصين (مع أنهم قادرون على تصدير ديمقراطية أرخص سعرا لكن غالبا أسرع تلفا)، هذه اللجنة الجديدة لن تكون إلا لجنة جديدة، لا أكثر، ومهما توسعنا فى انتقاء أعضائها، ومهما تنوعت هـُويات ممثلينا فيها، ومهما حرص أعضاؤها وتحفظوا وتجادلوا وزادوا وأعادوا، فإن رؤيتهم لن تتجاوز مرحلة نضجنا السياسى الراهن، وهذا وضع طبيعى، فالأمر فى نهاية النهاية يرجع إلى وعْى عامة الناس، وعامة ناسنا لم يتعودوا إلا على حكم بوليسى قامع، أو حكم جيشى والدىّ مجتهد، يخطىء كثيرا ويصيب أحيانا، لأن عمله الأساسى هو الدفاع عن الحدود وليس السياسة، هذا المستوى السياسى المتواضع الذى يعيشه أغلبنا، وقد اعتاد على التبعية وعلى استرخاء التفكير، هو هو الذى سيأتى لنا بمن يمثلنا فى الانتخابات النيابية التالية حتى لو جاء الدستور أولا، ومهما بلغ إحكام مواد هذا الدستور (أولا)، فإن لمجلس الشعب القادم “ثانيا” حين يأتى عليه الدور لينقل نقلته على رقعة الشطرنج، أن يمارس حقه فى أن يرقى “البيذق” (عسكرى الشطرنج) إلى “فرْز” (وزير أو ملكة) ، ما دام استطاع أن يقطع رقعة الشطرنج من أولها إلى آخرها سليما، بمعنى: إن من حق مجلس الشعب الجديد الذى جاء بعد وضع الدستور، وعلى أساسه، أن يقترح تعديلا للدستور الذى أتى أولا، حتى لو اضطره ذلك إلى أن يجرى استفتاء جديدا، (نحن وراءنا ماذا؟) وساعتها سوف يصبح الدستور ثالثا، والأرجح أن هذا الاستفتاء الجديد، لن يختلف عن سابقه، أو سابقيه، وهذا المجلس الذى أتى “ثانيا” يعلم جيدا أنه سوف يتم الاستفتاء ثالثا، ليس على تعديل الدستور الذى جاء أولا، وإنما على “بعبع” إلغاء المادة الثانية أولا، ثم على الدستور أخيرا، وهذا ليس ذنب المادة نفسها، فليس فيها ما يعوق حركة أى إصلاح أو يحول دون إبداع، ولكنها حين تستعمل من الظاهر، لتلتوى بفعل فاعل، وتخدم مالا تعنيه ألفاظها، فإنه يتحقق من خلال ذلك ما تحقق للنميرى فالبشير للحصول على حفنة أصوات انتخابية كانت هى السبب فى نهاية النهاية بأن ينفصل جنوب السودان بالسلامة، حين يحدث ذلك تكون الكارثة.
ليس معنى هذا أننا لسنا أهلا للديمقراطية (كما يعايرونا)، فديمقراطيتهم أخبث وأخطر لأنها تقيم دولة عولمية دينية حديثة تحت أسماء معاصرة رشيقة حين يفرضون عليهم – وعلينا- هذا الدين “العولمى الجديد” وهم يعينون أنبياءه من سدنة العنصرية وحوارىّ القوى المالية الكانيبالية (آكلة لحوم البشر cannibalism) تحت اسم الديمقراطية.
الأسئلة الأوْلى بالطرح الآن هى أشمل وأصعب، وهى عن امتداد وتآزر مسئولية ثورات الإنسان المعاصر فى كل مكان، تلك المسئولية التى تتجاوز أسئلة ومطالبات ميدان التحرير، فهى تتجاوز حدود مصر إلى كل العالم، الذى كنا ومازلنا دائما جزءا منه، روادا ومساهمين.
العالم الآن يتعرض لأخطر تخطيط يهدد بفناء هذا الجنس العظيم المسمى “البشر”، وعلينا أن نوفر إبداع ووقت وجهد كل أفراد وجماعات وشعوب هذا النوع الرائع من الأحياء، ليسخروها تلقائيا للحفاظ على النوع وعلى الحياة، وهذا يتطلب ألا يقتصر تفكيرنا وتفسيرنا على المسائل والمشاكل المحلية، إذن لابد أن يمتد تفسيرنا ليفحص موقعنا من هذا المخطط العولمى المدمّر للعالم الذى نحن جزء منه.
أغلب البشر الآن معرضون لألعاب إعلامية وتحركات اقتصادية مالية عالمية خبيثه تعرض نوعنا كله للهلاك، وكل هذا الجارى على الناحيتين ليس إلا أعراض مخاطر معركة التهديد بالانقراض فى مقابل مقاومتها: الحروب الاستباقية، والإبادة العرقية، والثورات الزائفة، على ناحية، فى مقابل الثورات الحقيقية والإبداع التطورى وتكافل الشعوب، على الناحية الأخرى، مع التذكره بأن المعارك تحتد وتصبح أخطر وأسرع حين يستعمل كل من الفريقين أحدث التكنولوجيا لتحقيق أغراضه.
ليكن الدستور أولا، ولتأتِ الانتخابات لاحقا، أو يتعدل الدستور ثالثا، أو العكس، لكن تظل مسئوليتنا فى نهاية النهاية، أن يصلح “الثوّار ما افسد القهر”، وأن يظل الاقتصاد أولا والإبداع دائما هما الغاية والوسيلة معا طول الوقت.
ولهذا حديث آخر.