نشرة “الإنسان والتطور”
1-8-2010
السنة الثالثة
العدد: 1066
تعتعة الوفد
إبداع الحياة ضد: الميوعة والحل الوسط
يستعمل لفظ الإبداع بين المثقفين والنقاد وأحيانا الفلاسفة والعلماء ليعنى مضمونا محدودا، إلا أننى تعلمت من الممارسة العملية عامة ومن العلاج الجمعى خاصة عبر عشرات السنين لمواطنين أميين أو يقرأون بالكاد فى مستشفيات طب قصر العينى، أن حركية الإبداع هى أشمل وأرحب من هذا التحديد القاصر، كما أننى اهتديت فى أطروحتى عن الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع (مجلة فصول، سنة 1985) أن الحلم المحكى هو إبداع (تأليف) أى واحد منا قبيل يقظته، الإبداع هو قضية حيوية أساسية مسئولة عن تطور الأحياء من جهة وعن استمرار مسيرة الإنسان تأكيدا للبقاء على درب التطور من جهة أخرى.
الإبداع هو إعادة تشكيل المعطيات القائمة من برامج بيولوجيه ومعلومات حية متنوعة، لتخليق تركيب مختلف نوعيا وأعلى تطوريا، هذه العملية تتم باحتواء التناقضات بكفاءة خلاقة بمجرد الوجود أحياء، صحيح أنها تحدث فى الشخص العادى بنسبة لا تكاد ترصد فى الوعى الظاهر، لكنها جارية بطبيعة ما خلقه الله فينا عبر مسيرة التطور.
الذى حدث ضمن تشويه معظم المفاهيم الإنسانية العظيمة لخدمة أغراض سلطوية تدهورية هو أن هذا المفهوم ذاته –الإبداع- قد استولى عليه أعداؤه مثلما استولوا على مفهوم “الحرية” و”العدل” و”حقوق الإنسان”، وأصبحوا يسّوقونه لصالح أغراضهم المالية والتراكمية والسلطوية والجشعية الآكلة للحوم البشر، فأخذت هِذه القوى تروّج تحت عناوين براقه مثل “التنوع البشرى الخلاق”، و”الفوضى الخلاقة”، وبدلا من العمل معاً على فهم النقلة الواعدة لمسيرة الانسان المعاصر، يجرى تسويق نوع من التوفيقات والترضيات وطمس معالم المتناقضات التى هى ذخيره الابداع، يتم ذلك بخبث غبى لمصلحة هذه القوى الخادمة للانقراض بعمًى مطلق.
حقيقة ما يجرى من خلال سيطرة هذه القوى لا يحفز تفاعل البشر، سائر البشر، من مختلف الأديان والأجناس والأصول تحت مظلة عدل الرحمن نحو الانسان الجديد. المطروح على الساحة العالمية ليست دعوة حقيقية لاحتواء التناقض بين البشر الحقيقيين حتى يثرى بعضهم بعضا، وإنما المطروح هو شعارات فارغة تصب فى مصلحة المافيا الظاهرة والخفية، لتحقيق التكاثر والتراكم والاستعمال والاستغلال.
يتم التعامل – بخبث سلطوى بشع- مع الاختلافات البشرية، والصراعات السياسية بترجيح سبل تقتل الإبداع وهم يزعمون أنهم يحاولون احتواء التناقض، التوفيق ومن ذلك:
الميوعة، هى نوع من التراخى والتغاضى والإغفال الظاهر والباطن لحقيقة صراع البقاء الرائع الحافز للإبداع، خذ مثلا كل الجارى على الساحة السياسية فى قضية التهام فلسطين واستغلال الفلسطنيين وتشريدهم بشرعية مزعومة تدعيها أمنا الغولة المسماة إسرائيل، لاشىء مما يجرى من هذه القضية مثلا له علاقة بالعدل أو التطور أو الإبداع أو الله سبحانه، كل الجارى هو تأجيل فتأجيل فتأجيل (ميوعة) ووعود فوعود فتلويح بوعود (ميوعة) وتهميش وإحلال الثانوى محل الرئيسى حتى تغيب عن بؤرة وعينا أصلا المسألة الأساسية المدفونه تحت أكوام الهلاميه والميوعة، الاكتفاء بالحديث عن المعونات والأغطية والستر، يزيد الأمور ارتخاء وليونة بحيث لا يعود فى الإمكان الامساك القابض على القضية الرئيسية، قضية الاحتلال وحق الاستقلال، ورفض التطفيش العرقى وربما التطهير العرقى إن أمكن.
المفهوم الثانى الخبيث للتعامل مع الاختلافات والتناقض يسمى أحيانا “التسوية“، وأحيانا “الحل الوسط“، وقد بلغ من فرط انزعاجى من الخلط بين هذا المفهوم، وبين مفهوم الإبداع المحتوى فعلا للتناقض أن أصبحت أحذر من الحل الوسط أكثر من حذرى من القهر الصريح أو الهجوم المعلن للإبادة.
أكبر مثال على ما يسمى “الحلوسط” (إضغام مقصود)، هو ما يجرى على موائد المفاوضات العربية الإسرائيلية والوسائطية طول الوقت، صحيح أنه لا سبيل إلى التفاهم المؤقت والتعايش المرحلى إلا بلقاء المتنازعين أملا فى ترضية ما، يدفع فيها الضعيف ثمنا غاليا تحت كذبة كبيرة لها اسم براق (اتفاقية/ معاهدة/ ورقة تفاهم…الخ)، لكن ينبغى أن يظل وعى أضعف الطرفين حادا منتبها طول الوقت أن المسألة لا تنتهى بمجرد التوصل إلى هذا “الحلوسط”، معاهدة السلام المصرية مثلا ليست إلا حلا وسطا مائلا، المفروض أن يكون مرحليا إلى أن نستعيد أنفسنا ونحسم أمرنا: إما أننا تستحق الحياه أو لا نستحقها، قد تكون المعاهدة ضرورة مرحلية، لكن أن تنقلب غاية المراد وقدر العباد المستضعفين المهزومين فكلا وألف كلا.
الميوعة والتسوية والحل الوسط سادت كل حياتنا حتى أصبحت وكأنها القاعدة، المسائل كلها أصبحت تبدو باهته فاترة بلا معالم، حتى الاسلام العظيم يفرح أغلب أهله وهم يروجون لسماحته واعتداله بأنه “الحل الوسط”، وهم يصورونه على أنه دين الاعتدال والحلول النصف نصف بتفسيرهم المسطح لما هو “أمة وسطا”، دون أن يدركوا الفرق بين الاعتدال واحترام الاختلاف مع الحفاظ على حركية الحوار سعيا إلى وجه الحق، إن الاستشهاد بالآية الكريمة “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا”، ثم التوقف عند ذلك هو الذى ظلم حركية الاسلام كدحا إلى وجه الحق، برغم حبى الشديد لابداع توفيق الحكيم ممسرحا وروائيا ومبدعا إلا أننى تحفظت حتى الرفض على محاولته اختزال الاسلام إلى “فلسفة التعادلية” والعياذ بالله. أنا أقرأ هذه الآية “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا” بأن استلهم مضمون لفظ الشهادة بالرجوع إلى أصل الاسلام الحنيف بأنه بنى على شهادة “أن لا إله إلا الله” وليس على الاعتقاد أو الاقتناع تفكيرا بأن الله واحد، “الشهادة” هى حضور إدراكى متكامل بالفكر والوجدان والجسد والحدس والخيال، إن ركن الاسلام الأول هو أن تتفتح مسام وجود المسلم كلها لتصلها حقيقة التوحيد واقعا حيويا عبر التناغم مع مستويات وعيه إلى وجه العدل تعالى، هذا ابداع يمارسه باستمرار كل مسلم مؤمن، وهو ما يتجلى فى عقيدة المسلم من خلال أن يكون أحد افراد أمة سمح لها إيمانها المتفتح بتلقى رسائل الوجود عبر كل قنوات التواصل، وحين تكون أحد أفراد هذه الأمة فأنت تشهد بذلك على الناس ويشهد عليها نبيها صلى الله عليه وسلم، لصالح ابداع كل الناس إلى العدل تعالى، الأمة الوسط لا تكون كذلك إلا بأن يكون أفرادها “شهداء على الناس” بما ذكرنا. إن اختصار الاسلام إلى مفهوم الحل الوسط والميوعة والتسوية هو تقزيم لدين عظيم مفروض أن تتسع رحابته لكل الناس مهما كانت عقائدهم.
فى حياتنا اليومية المعاصرة (فى مصر الآن) تجلى إشلال ما يسمى الميوعة بالحل الوسط فى موقف الحكومة إزاء قضايا عملية ملحة..
سوف اكتفى الآن بأن أقدم مثالين فقط فى صورة لعبة تسمى “نعم“…. و”لكن“…. حيث ينفى ما يجىء بعد “لكن” ما جاء قبلها بـ “نعم“: فتضييع القضية ميوعة بلا معنى الأمثلة:
1- “نعم”: الديمقراطية أحسن الحلول فعلا،
و”لكن” لا ينبغى أن نترك الحبل على غاربه للمهرجين بلا برامج، ولا قواعد، ولا شكل، ولا معنى.
2- “نعم” لا بد من تداول السلطة
و“لكن” من يدرى ما ذا سوف يحدث للاستقرار الذى ننعم به تحت هذه السلطة الحالية.
وهكذا
وإلى المقال القادم لتقديم مزيد من الأمثلة وأيضا لتقديم الجانب الآخر من المسألة.